العيون كلها شاخصة، هذه الأيام، لمتابعة أخبار مؤتمر القمة العربية المقبل الذي سينعقد في العاصمة الأردنية عمان في 27 من الشهر الجاري، والجميع متلهفون لمعرفة النتائج التي سيسفر عنها الاجتماع المنتظر، الذي يجري هذه الأيام الإعداد لفعالياته على قدم وساق. واجندة المؤتمر الذي تقرر ان يعقد بشكل دوري - إذا كتب له النجاح - هي أجندة كثيفة، يجيئ على رأسها موضوعان كبيران يعلو أحدهما عنوان فلسطين والثاني تحت عنوان العراق. وإذا كان الموضوع الأول يتميز بأنه لا خلاف عليه بين المجتمعين، على الأقل ظاهرياً، وسينعقد الاجماع على شعارات حماسية ربما - كما هي العادة - تفتقر الى آليات الفعل الواقعي الذي من شأنه ان يجري تغييراً على معطيات القضية المزمنة، فإن الموضوع الثاني العراق سيستغرق الكثير من النقاش حول عناصر هذه القضية، لمعرفة ملامح الخطوات المقبلة للنظام العراقي، وكشف ما له وما عليه، ومدى قدرته على التكيف، أو بالأحرى قدرة العرب على اقناعه بالتكيف مع واقعه، والترجل عن عناده مع المجتمع الدولي، وضرورة تنفيذ المطلوب منه حيال الكويت وبقية جيرانه بعامة، صوناً لأمن المنطقة واستقرارها. والذي نميل الى توقعه اننا لن نجد جديداً في نتائج القمة بشأن الملف العراقي تحديداً، وهو أمر لا يعود الى ان العرب يرفضون اعادة النظر في هذا الملف لجهة تأهيل نظام بغداد للعودة الى الأسرة الدولية، بل ان هذا النظام هو الذي يصر على انتهاج سياسة تقطع الطريق أمام الراغبين في مساعدته، ولا تتيح لأحد فرصة التفكير في اشعال شمعة تنهي ظلمة النفق الذي وضع النظام نفسه فيه... بل انه هو أول من يسارع دائماً الى إطفاء هذه الشمعة !!. وترتيباً على هذا فإن المراقب يجد نفسه مطمئناً نسبياً الى ان النظام العراقي سيخرج من القمة مثلما دخلها، وسيبقى في حال "مكانك راوح"، فهو لن يعاد تأهيله للانخراط في الاسرتين العربية والدولية، كما لن تسعى القمة ايضاً الى تجريمه مجدداً. لا بد من التذكير بأن الجهد الذي بذله النظام العراقي في السنوات العشر الماضية، خصوصاً في الخمس الأخيرة منها، كان جهداً يهدف الى نشر مقولات تحمل وجهين: احدهما ظاهر يسعى النظام من خلاله الى دغدغة مشاعر الرأي العام العربي وكسب تعاطف الجماهير البسيطة، والآخر باطن وهو تحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية والمصالح الخاصة لنخبته الحاكمة. ولا بد من الاعتراف بأن النظام الحاكم في بغداد نجح من خلال هذا الخطاب المضلل في خلط الأوراق في عقول البعض سواء غفلة عن الحقيقة أو طمعاً في تحقيق مصلحة حتى انه ظهر في عيون هؤلاء البعض في صورة "الضحية"! ولو أخذنا بعض معطيات الخطاب العراقي في الآونة الأخيرة لوجدنا - مثلاً - شعاراً يرفعه النظام بوتيرة متسارعة، هو جوع العراقيين، وهو شعار أصبح يعتقد بصحته الكثيرون من العامة وبعض الخاصة، وهو نجاح سلبي - ان صح التعبير - لماكينة الدعاية العراقية، ولكن الواقع شيء آخر، فجوع العراقيين هو في الحقيقة تجويع متعمد في غالبيته، نتيجة لتحكم النظام في توزيع المغانم والمكاسب على فئة صغيرة من المحظوظين من أولي البأس والشوكة في هذا النظام، والتي تساعد، في تعمد، على حرمان غالبية العراقيين حتى من مقومات العيش البسيط والقوت الضروري. وهناك شواهد دولية كثيرة تشير الى ان السلع الموجودة في اسواق بغداد تشابه، ان لم تفق، مثيلاتها في بلدان مجاورة، لكن القوة الشرائية لدى العامة في العراق شحيحة وقاصرة عن تلبية حاجتهم بسبب الشطط التاريخي في توزيع الثروة التي يتبرع بها النظام للمغامرين. ولو أخذنا مثالاً اخر من هذه المعطيات التي تستقبل عند العامة استقبالاً ايجابياً غير مشكوك فيه، فهو الموقف من القضية الفلسطينية. فلقد بثت وكالات الانباء منذ اسابيع صوراً لمجندات عراقيات يتأهبن للدفاع عن فلسطين وبالمناسبة تبدو على محياهن الصحة والعافية، أدامها الله هذا الموقف من فلسطين يستعيد موقفاً مشابهاً لجأت اليه بغداد إبان حرب تحرير الكويت، عندما أرسل النظام علناً بعض صواريخه على الأرض المحتلة، في حركة دعائية وصفت حينئذ بأنها "تلفزيونية" انتهت بأن دفعت للاسرائيليين أموال بالبلايين تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن ذلك الفعل. بعض هذه البلايين يتحول هذه الايام الى رصاص يشق صدور ابنائنا في فلسطين. اما اذا نظرنا الى الموضوع ذاته بمنظور أوسع فإن الموقف من فلسطين - تاريخياً - كان ولا يزال في أغلبه موقفاً خطابياً لا أكثر، يعتمد على استخدام بعض القوى الفلسطينية، لفترات محددة، ولأغراض خاصة بالنظام نفسه، وليس بالقضية. أما إذا جئنا الى موقف آخر، وهو الموقف تجاه الوضع العربي العام الذي يبدأ بمقولات الوحدة والتعاون الاقتصادي، فإن تاريخ نظام بغداد القائم يدلنا من دون شك على التباس بين موقفين: الموقف الخطابي المعلن الذي تنحشر فيه كل الشعارات البراقة، والموقف الواقعي على الأرض، الذي يبتعد كل البعد عن الموقف المعلن، بل انه يبدو في اكثر الأحيان مناقضاً له. سيقف مؤتمر القمة العربية في عمان - بعد أيام قليلة - على مفترق طريقين: بين المتصور والواقعي، بين الاحلام والامكانات، بين لوم الآخر والمكاشفة الصادقة للذات، بين ما يعلنه البعض من شعارات رنانة وما يسلكونه من فحش سياسي وجرائم في حق الشعوب. بين هذا وذاك ستقف القمة، وحين تتأهب لاتخاذ القرار سيتعين عليها الاختيار بين الطريقين لمناقشة هذا الملف... فهل تتخذ القمة طريق الواقع والصدق والمصارحة، فتواجه النظام العراقي بما ينبغي ان يقال له؟ ام تسلك طريق المجاملة والرضا بالشعارات ليتحول الأمر الى مجاملة روتينية وسلامة موقتة، ليبقى الوضع على ما هو عليه؟ بالنسبة الى بغداد هناك استحقاقات يتعين على القمة ان تواجهها بضرورة تنفيذها، وعلى رأس هذه الاستحقاقات موضوعان: احدهما هو الافراج عن الأسرى الكويتيين، أو تحديد أماكن اخفائهم، فلم يعد ينطلي على أحد ان أناساً اختطفهم الجنود العراقيون - منذ عشر سنوات - يدعي النظام، حتى الآن، انه لا يعرف مصيرهم على وجه الدقة، وهي حالة انسانية تستحق ان يقف معها الجميع بصلابة، وان يطالبوا بالحق من دون مجاملات، خصوصاً في ضوء اطلاق اسرى ايرانيين أخيراً من بغداد، بعد ان ظن الكثيرون، منذ أكثر من عشر سنوات أنهم في حكم المفقودين. أما الموضوع الثاني فهو الحالة العراقية الداخلية التي لا تسمح بحد أدنى من الحريات، خصوصاً ان قرارات مجلس الأمن تشتمل بين بنودها على اشارات واضحة الى ضرورة تحقيق الحد الأدنى من الحقوق المدنية للانسان العراقي، وكل مهتم اليوم يعرف ان بلداً ديموقراطياً يتحقق فيه الحد الأدنى من حقوق الانسان والحريات العامة، هو بلد تمتنع فيه الحروب العشوائية، ويواجه جهوده كلها لجهة التنمية... ومن ثم فإن "عراقاً" ديموقراطياً هو بالضرورة "عراق" غير عدواني. ربما تخطئ القمة العربية خطأ كبيراً اذا استُدرجت - تحت أي ظرف - لأن تجعل من الملف العراقي ملفاً وحيداً يقتصر جهدها الحواري على بنوده وحده، اما هرباً من ملفات أخرى شائكة، مثل الخلافات الناشئة بين البلدان العربية في عدد من المناطق لأسباب متباينة، واما بسبب الهجوم الديبلوماسي والنفسي، وربما التلويح بالمغانم الاقتصادية من جانب بغداد، وإما - وهو المرجح - لأن البعض يمكن ان يفهموا الملف العراقي من زاوية انه ملف عربي/ أجنبي، وليس عربياً/ عربياً، حيث يسهل اسقاط اللعنات على رأس الآخر الغريب، من دون اشارة الى جرائم القريب، وحىنئذ سنكون قد زدنا الموقف العربي سوءاً على سوء، أو صنعنا صنيع من يستجير من الرمضاء بالنار، هو أمر اذا حدث في هذا الظرف فسيبتعد بنا عن تحالف الأقوياء، ليلقي بنا في دائرة تحالف الضعفاء. ففي الوقت الذي يتوجه فيه الاقوياء الى اعلاء حقوق الانسان والحريات العامة وحق الشعوب في تقرير مستقبلها وصياغة أمنها، يسعى البعض للتحالف مع المدرسة التي تتخذ طريقها الى الأفول والزوال، مدرسة الشمولية ووأد حريات الشعوب. وليس سراً على أحد - في القمة أو خارجها - ان التوجه الى التأهيل، يتعارض مع ما تسير إليه الاحداث عالمياً من توجه الى التجريم، خصوصاً حيال الطاقم الحاكم في بغداد، حيث تنشغل عواصم عالمية بإعداد الملف العراقي المتخم بجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الانسان. واذا كانت القمة المقبلة تنعقد تحت لواء الجامعة العربية، فإن هذه الجامعة في الأيام الغابرة كانت ملجأ رحيماً وحصيناً لكل المناضلين ضد التحكم الاستعماري في مقدرات الشعوب، حيث لجأ اليها الجزائري والتونسي والمغربي ومن جنوب الجزيرة وغيرهم، جاؤوها يطلبون النصرة ضد الاغتصاب والسيطرة، وكانت أيامذاك سيطرة اجنبية، هي اليوم في بعض ديارنا عادت سيطرة محلية، ولكنها تشبه تماماً ذلك الاجنبي، فالبديل الوطني عن المستعمرين السابقين أصبح ظاهرة يتحدث عنها علماء السياسة والفكر، وهي ليست ظاهرة خاصة بأفريقيا، حيث نشأت، بل يمكن ان يكون لها شبيه في بلاد آسيا، ومنها دول عربية. ولذا فإن الجماعات التي تشكل طيف المعارضة العراقية مطلوب منها ان تكون قريبة من المؤتمر، ان لم يكن بوجودها الانساني، فبطروحاتها التي تبين للآخرين ان هذا الليل الصدامي لا بد ان ينجلي عن بغداد، لتعود فتية متخلصة من أدران الحروب... ومن صخب التهديد والوعيد. * كاتب كويتي.