قبل اسبوعين طرح الدكتور مصطفى الفقي في هذا المكان رأياً حول العلاقات العراقية - الكويتية أختار له عنواناً هو "نحو منظور جديد لمستقبل العلاقات العراقية - الكويتية"، وقدم الدكتور الفقي لمقاله ذاك بمقدمة شرح فيها مجموعة من الأسباب التي دفعته للخوض في هذا الموضوع، من بينها انه يقدم هذا الطرح اجتهاداً منه، وبعيداً عن أي مواقع سياسية يشغلها، وحرصاً منه على مصالح الأمة العربية. ولا أحد يشك في ذلك، ولا في الدافع النبيل الذي جعل رجلاً له خبرة ومعرفة بالشأن العربي كالدكتور مصطفى الفقي يدلي بدلوه في هذا الموضوع الشائك، والذي يشاركه كثيرون بأهمية دراسته ومناقشته بموضوعية. لذا فإن التحية وتقديم الاحترام واجبان لمثل هذه الشخصية العربية المنشغلة بالهم العربي. ومن منطلق احترام وتقدير الرأي، لا بد من الدخول في حوار للأفكار التي قدمها الدكتور الفقي، حتى لا تذهب مطالبته بالحوار صرخة في واد. بداية فإن الملاحظات الثلاث الأساسية التي انطلق منها الكاتب لا يجد عاقل مكاناً للاختلاف حولها. وهي باختصار، وللتذكير فقط، كالآتي: أولاً أن الجوار الجغرافي للدول لا أحد يستطيع ان ينكره، وثانياً ان الغزو العراقي للكويت أمر مفجع يصعب الدفاع عنه أو تبريره، وثالثاً ان المعاناة الحالية للشعب العراقي تمثل عذاباً يومياً لكل عربي مخلص. بعد هذه الملاحظات الأساسية يطرح الدكتور الفقي اقتراحاً محدداً من خمس نقاط، تبدو لي مبنية على بعضها بعضاً. والثلاث الأولى المهمة، وباختصار ايضاً هي كالآتي: أولاً ان يتم اعلان عراقي رسمي بالرغبة في فتح صفحة جديدة مع جارته دولة الكويت، وثانياً، استجابة كويتية لفتح صفحة جديدة، وثالثاً ترتيبات عربية ودولية لعقد مؤتمر دولي يضمن سيادة الكويت، ويحصل هذا المؤتمر على تعهد عراقي بحسن الجوار، واسقاط الدعوى التاريخية والاعتراف بالحدود الحالية. لعلي لخصت هنا بعض النقاط التي بدت لي جوهرية في مقدمات وصلب اقتراح الدكتور الفقي في مقاله المذكور، من أجل تذكير القارئ بهذه الأفكار أولاً، وكمقدمة لنقاشها ثانياً. في هذه الأفكار الكثير مما يناقش، وهي تقدم فرصة لاستعراض الكثير من الاحداث التاريخية العربية، سواء في ما يتعلق بالعلاقات العربية - العربية، وبخاصة العلاقات العربية - العراقية، ولكني أبدأ بمناقشة بعض الافتراضات التي بنى عليها الدكتور الفقي أطروحته. الأفتراض الأول الذي يستشفه القارئ ان "المسألة العراقية" ان اتفقنا على تسميتها التعريفية العامة، هي أولاً وأساساً مشكلة "كويتية - عراقية"، وهو افتراض غير صحيح أو بالأحرى غير كامل، ولا هو واقعي في الوقت الحالي. فالمسألة العراقية، ومرة اخرى: إن صحّت التسمية، هي عراقية - دولية من جانب، وعراقية - عراقية من جانب آخر. في الجانب الأول، وفي وضع دولي يعرف الدكتور الفقي ربما قبل غيره، بسبب اطلاعه ومتابعته، انه محكوم بنظام تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وتكامل في التسعينات من القرن الماضي، وهو نظام لا يقبل العبث بالسلام الدولي، وجزء من هذا النظام يتمثل بما تتفق عليه الدول في الاممالمتحدة. فلم يستطع العرب مثلاً اختراق "المقاطعة الدولية لليبيا" الا بعدما تقدمت ليبيا بخطوات تتسق مع مطالب هذا النظام الدولي، وهذا مثال يتبعه مثال آخر، فلا تستطيع دولة عربية ما أو حتى غيرها، مهما بلغ تعاطفها اليوم مع العراق ان تبعث بطائرة مدنية تحمل ركاباً عاديين الى بغداد. هذا بعض الأمثلة وليس كلها للقول بأن الموضوع يخرج برمته عما تريد أو ترغب أو لا ترغب الكويت أو أي دولة عربية اخرى في ان تفعله تجاه العراق. وفي يد النظام العراقي وحده الخروج من هذا المأزق الذي وضع نفسه فيه باستجابته المعقولة لمطالب النظام الدولي، ومن الواضح انه ليس في وارد سلوك ذلك الطريق. أما كون المسألة هي على الأقل في جزئها الكبير عراقية - عراقية، فإن الأمر يستدعي التذكير بوجود نحو ثلاثة ملايين عراقي أو اكثر مهجرين خارج العراق، وربما كانوا من أفضل العقول العراقية. صحيح ان الهجرة العربية الى الخارج ملاحظة وتتم لأسباب كثيرة، جلها من أجل العيش، لكن الصحيح ان اولئك المهاجرين العرب أو جلهم لهم ارتباط عضوي بالدولة الأم، إلا المهاجر العراقي فهو مهاجر لسبب سياسي في الغالب، وممنوع أو متخوف من العودة الى وطنه ثانياً، ولعل التذكير بأن بعضهم رفض حتى ان تعود رفاته يؤكد لنا الوضع الداخلي العراقي المتوحش ضد غالبية مواطنيه. فالأخذ بالعقلانية الصارمة يقودنا الى القول ان حقوق الانسان في الكثير من الدول العربية ليست هي التي يريد المواطن العربي الغيور ان يراها، ولكن بهذه العقلانية يمكن القول قياساً ان انتهاكات حقوق الانسان في العراق فاقت كل هوامش التسامح القابلة لتغييب بعض الحريات، فأصحبت حقوق الانسان معادلة صفرية. وعدم التسامح هذا أفرز الفحش في القول من جانب السياسيين العراقيين تجاه الآخرين حباً وتقرباً وخوفاً من آلة عدم التسامح في بغداد، وإلا بماذا نفسر القول الفاحش الذي يخرج من مثقف وشاعر ووزير خارجية مثل السيد محمد الصحاف تجاه رجل عربي مسالم ودمث الأخلاق وممثل للعرب هو الدكتور عصمت عبدالمجيد في آخر لقاء عربي في القاهرة. لا يفسر ذلك إلا بأنه محاولة استرضاء نظام تعود الفحش في الكلام والأفعال وقبله. هذه العقلية المسيطرة وربما الطفولية في الغضب غير المنضبط يتوقعها الفرد ربما من أشخاص لا من دولة، فالدولة الحقة لا يحق لحكومتها ان تتصرف بمصير شعب بمكابرة وتعالٍ وفحش في القول والفعل، بل من واجبها البحث في وسائل لتخفيف معاناة شعبها. والدكتور عصمت عبدالمجيد أو الجامعة العربية، على ما هي عليه، ليست المسؤولة عن "معاناة الشعب العراقي" لكي يصب جام هذا الغضب وتلك الضغينة عليه أو عليها، فالمسؤول عن البحث عن مخرج جدي لما هو فيه هو النظام الحاكم. هذا الغضب الصبياني جعل وزير التجارة العراقي يطلب من الحكومة الأردنية الاسبوع قبل الماضي "ان تتجاهل تحرشات واملاءات السفير الاميركي في عمان، اذا كانت عمان راغبة فعلياً في تحسين مستوى التعاون الاقتصادي مع بغداد" وبالمناسبة املاءات خطأ في اللغة العربية. أو الانكى أن تعلن بغداد تحولها من التعامل بالدولار الى اليورو، في الوقت الذي يشهد الأخير مراحل انخفاض غير مسبوقة في معاملاته! أو الأكثر ألماً وحسرة الهجوم اللفظي الشنيع في الاسبوع قبل الماضي على دولة الامارات بعدما قدمت الأخيرة كل الدعم الممكن للشعب العراقي! أما ما يعرفه الجميع من وسم الجباه وقطع الأطراف والآذان، والذي زيد اليه فقط الاسبوع الماضي قطع الألسن، فإنه يضيف دليلاً الى أدلة كثيرة لمستوى حقوق الانسان في العراق، وهي حقوق تلاشت فلم تعد هماً خاصاً لشعب، بل ان الأمين العام للامم المتحدة صرح أخيراً "بأن اختراق حدود دولة بواسطة دول اخرى يعتبر عملاً شرعياً لدوافع انسانية، فبعض النظم يعتدي على حرية شعبه، ولا يتورع في ارتكاب أعمال ضد حقوق الانسان، مما يستوجب التدخل لمنع هذه الجرائم في حق البشرية". ان وضع حقوق الانسان في الداخل العراقي يستدعي اسئلة تحتاج الى اجابات واضحة، ولعل أسبابها العميقة تختصر بعدم الثقة المتغلغلة في أي نظام شمولي. فالحكام هنا يطربون فقط الى سماع أنفسهم، وهم عديمو الثقة بالآخرين الى حد المرض، متشبثون بمواقعهم في السلطة بصرف النظر عما يجرّه ذلك من تعاسة على غيرهم وعلى شعبهم الأعزل. الافتراض الثاني الذي يُستشف من مقال الدكتور الفقي هو ان "حل العلاقات العراقية - الكويتية" سيجعل الوضع العربي يدخل عصره الذهبي. وهو أيضاً لأسباب كثيرة افتراض غير واقعي، على أقل ما يمكن القول فيه. فالعلاقات العربية - العربية منذ تحررت البلدان العربية من الاستعمار الأوروبي، وربما قبل ذلك، كانت علاقات صراعية لفترة طويلة من الزمن، وأسباب ذلك إما ايديولوجية أو مصلحية. ولعل تاريخ العرب المعاصر، الذي يعرفه الدكتور الفقي، يقدم لنا سلسلة طويلة من الصراعات، اما النشطة أو الخامدة، وكثير منها صراعات على الحدود أو الوجود أو العلاقة بالآخر. ولم يستطع النظام العربي الوصول الى معادلة مقبولة لكل الأطراف لتنظيم هذا الصراع وعقلنته. واذا القينا نظرة عامة وموضوعية على هذا الأمر نجد ان في الشمال العربي - الافريقي من المشاحنات السياسية ما نعرف، اما في المشرق فيكفي التذكير بأن الدولة الفلسطينية التي هي تحت الإنشاء، قررت الاسبوع الماضي انها بصدد "ترسيم الحدود بين الدولة وكل من مصر والأردن". ولعلي أذكر هنا ان جيلنا تعلم من أوائل المناضلين الفلسطينيين ان "لا يهود ولا حدود"! أما العلاقات المشرقية الأخرى فيكفي فيها ان نذكّر بعضنا بعضاً بالعلاقات العراقية - السورية، فأكثر من ربع قرن كانت حرباً ضد سورية وقطعاً لأنبوب النفط ومحاولات لزعزعة الأمن، لا شك ان بقاياها ما زالت عالقة. ملخص هذه النقطة أن الوضع العربي يحتاج أكثر بكثير من "وفاق كويتي - عراقي" من اجل اثبات ان العقبة في العلاقات العربية تعود الى هذه أو تلك من القضايا العربية، ووجبت العودة الى فترات سابقة أو ممارسات لاحقة ذهبية لم يكن فيها "العمل العربي المشترك مهيض الجناح" بل كان مؤثراً ومحققاً لأهداف قومية. فوضع الملامة على ما نشاهده من وضع عربي مشترك متردٍ، و"مهيض الجناح" حسب تقدير الدكتور الفقي، يوجب التدليل بعده على ان العرب سيقفون صفاً واحداً امام تحديات خارجية زالت هذه القضية من اجندتهم. هذه النتيجة تحمل بعض التسرع، وللتدليل على ذلك فلننظر الى اسعار بعض العملات العربية أي المنظور الاقتصادي الذي يواجه العرب، فهل يتوقع للجنيه السوداني مثلاً ان يعود الى عافيته، كذلك بعض العملات العربية الاخرى التي وصلت لأسباب اقتصادية وسياسية الى الحضيض، أو هل يتوقف بعض الحروب الأهلية التي كانت قبل "المشكلة العراقية" واستمرت بعدها. ان الوصول الى درجة عالية من التسامح، والقدرة على تقليل الاختلاف، وبناء جسور الثقة واحترام حق الآخر في التعبير، والخضوع للتحليل المنطقي في الأمور المختلف عليها، وتناسق النتائج مع المقدمات... كلها في العمل السياسي العربي تحتاج الى وقت طويل لكي ترسخ وتتفاعل، ومقدماتها الطويلة والشاقة هي الوصول الى مجتمع مدني كامل الحرية محكوم بقوانين تستطيع الفئات المختلفة فيه، كما الأفراد، ان تتوقع ما سيأتيها، لا ان تفاجأ برغبات "القائد" ! في السلم والحرب، أو في الوهب والنهب. فأسباب صراع الاخوة أسباب عميقة الجذور، ولو أخذنا موضوعاً واحداً فقط لسبر مسيرة الخلافات هذه، وهو العلاقة باسرائيل، لوجدنا ان العمل العربي المشترك ليست له قاعدة هنا. فالكل يتصرف حسب هواه ومصالحه أو ما يعتقد انها مصالحه، والباقون على العهد - ومن دون مزايدة - قليلون. بعد هذا العرض الذي وجب اختصاره، وفيه الكثير من الشواهد، نعود الى اقتراح الدكتور الفقي وفي اساسه ان يأتي "إعلان رسمي عراقي بالرغبة في فتح صفحة جديدة مع جارته دولة الكويت، والاستعداد للدخول معها في اتفاق تعاقدي يحمي سيادتها ويضع اطاراً كاملاً لمستقبل العلاقات بين الدولتين في ظل ضمانات دولية وعربية". ولم يمر اسبوع على هذا الاقتراح حتى صرحت بغداد، نقلاً عن مجلس وزرائها، بأن "الكويت تستنزف آبار النفط العراقية، وأنها اي بغداد ستتخذ الاجراءات المناسبة التي تضمن لها وللأمة العربية حقوقها في السيادة على الثروات النفطية وتوظيفها لمصلحة شعوبها". يعرف الدكتور الفقي كما يعرف كثيرون ان عقلاء العرب حاولوا مراراً وتكراراً ردع النظام العراقي القائم عن مسيرته الفظة، وكان على رأس المحاولات تلك جهود الرئيس مبارك في التسعينات، وكان الدكتور الفقي قريباً من تلك المحاولات، فلم يستمع النظام العراقي أو يرى الحقيقة في ذلك الوقت، فما الذي تغير جذرياً كي نفتر ض انه قد يرى الحقيقة الآن، وكل الشواهد التي لا يتسع لسردها مثل هذا المقال تؤكد انه لا يزال مصراً على السير في الطريق ذاته؟ وفي الختام أعود للتأكيد بأن لا شك لدي في ان الدكتور الفقي كتب ما كتب مدفوعاً بنيات صادقة وبعيداً عن أي موقع رسمي، كمثل كاتب هذه العجالة يبحث مع الدكتور الفقي وآخرين كثيرين عن طرق ومخارج من مأزق يعرف الجميع من المتسبب به. الا ان السؤال العام يبقى: هل لممارسة ذهنية ونظرية بطرق هذا الموضوع واعتبار ان شيئاً ما يمكن ان يخرج منه، ان تتجاهل هذا معطيات واقعية كثيرة أهمها ان النظام العراقي حرون في مواقفه المتعسفة، وهل لهذه الممارسة ان تتوقع بعد ذلك الخروج بشيء ايجابي؟ وهل يتوقع الدكتور الفقي للحظة ان يرى اقتراحه "بأن يعلن النظام العراقي فتح صفحة جديدة... واستعداداً للدخول في اتفاق تعاقدي... الى آخر الفقرة الأولى" مبدأ يقبله النظام في بغداد؟ تبقى النقطة قبل الأخيرة وهي ان الجميع يعرف ان العراق بلد غني، فهو يتمتع بمصادر وفيرة من المياه وبتربة خصبة ومناخ معتدل نسبياً، بجانب ما تتوافر عليه أرضه من غنى نفطي ومعادن ثمينة وصغر نسبي في عدد السكان. المسألة العراقية هي مسألة ادارة سياسية للموارد، وقبول التعددية التي تنطوي عليها تركيبة الشعوب والتجمعات العراقية، ولكن في الرفض العبثي لهذه التعددية تكمن مأساة ادارة العراق. أما النقطة الأخيرة في هذا الحوار فهي ان القائلين بعداء تاريخي في المستقبل بين العراق وجيرانه هو قول عاطفي أكثر منه واقعي. فالشعوب تعرف انه حتى لو تهيأ لها قادة قريبون من جنون العظمة وفرضوا شيئاً من القطيعة في مرحلة تاريخية، فسرعان ما يكتشف الجميع انها مرحلة عابرة، وهذا تاريخ الشعوب الأخرى يدلل الى ذلك، كما ان العلاقات الشعبية الكويتيةوالعراقية مع المعارضة أو الأفراد البعيدين عن النظام هي طبيعية. والدليل ان مجلس الأمة الكويتي في ربع هذه السنة نظم ندوة في الكويت حول مستقبل هذه العلاقات، تحدث فيها عراقيون وكويتيون وعرب آخرون، فالخوف من مستقبل سلبي هو خوف مبالغ فيه ان لم يكن بغير اساس، لأن المستقبل العراقي سيرى ان ما فرض على العراقي نفسه من ظلم وتعسف فرض على جيرانه ايضاً. ويبقى الشكر موصولاً للدكتور الفقي لأنه فتح بعقلانية تبحث كما قال في بعض الاجتهادات للخروج من هذا المأزق الذي سمي في تاريخ العرب المعاصر ب "المسألة العراقية". * كاتب كويتي.