"صدمة في الشارع العربي بعد فوز شارون"، كان هذا هو العنوان الرئيسي لإحدى صحفنا السيارة صبيحة الإعلان عن نتائج الانتخابات الاخيرة في اسرائيل. عنوان مثير للتأمل من حيث تعبيره، إما عن سذاجة سياسية أو جهل فاضح أو حال الخدر اللذيذ التي سادت جزءاً معتبراً من الاعلام العربي في السنوات الاخيرة، خدر أساسه العجز وقلة الحيلة أو التناغم مع الشعارات الوردية التي صبتها جماعات اتفاق اوسلو وتوابعه في حياتنا العامة. الرئيس ياسر عرفات مثلاً في سعيه الحثيث الى دعم ايهود باراك تخوّف علناً من ان نجاح شارون سيكون كارثة حقيقية. بعد الانتخابات بأيام قام بعض وزراء السلطة الفلسطينية بمغادرة الاردن عائدين براً الى الضفة الغربية. عند الحدود أوقفتهم قوات الاحتلال الاسرائيلي فاحتجوا عليها ببطاقات التمييز والامتياز المنصرفة لهم اسرائيلياً وتكفل لهم تحديداً الإعفاء من المراجعة والتوقيف والتفتيش، لكنهم فوجئوا في هذه المرة بأن اسرائيل تضع النقاط على الحروف: التفتيش يعني التفتيش هذا، وإلا لن تعودوا الى بيوتكم وإنما الى الاردن. أنتم وزراء فقط لزوم الكاميرات، الآن الى الحقيقة والامر الواقع أو اخبطوا رؤوسكم في الحائط. احتاج الامر بعدها الى ست ساعات من المناشدات والتدخلات الهاتفية على المستويات العليا في الاردن ودول اخرى حتى تتكرم اسرائيل بالسماح لوزراء عرفات بالمرور والعودة. هل هذا ما كان يقصده عرفات من أنه "الكارثة" في حال فوز شارون؟ ربما، لكن المؤكد أن كل ما قيل طوال سبع سنوات عن مكاسب فلسطينية أصبح ممكناً الغاؤه بهزة رأس، حتى عقود الاستيراد والتصدير التي أغدقت بها اسرائيل على نجوم اوسلو ومنتفعيها جمدتها اسرائيل لكي يتذكر الجميع من هي السلطة الحقيقية. والناخب الاسرائيلي جاء بآرييل شارون من أجل هذا بالضبط. قد يرى بعضهم في شارون أنه سفاح ومجرم حرب وبلطجي وكل الاوصاف المعروفة، لكن شارون وغيره يتحدثون جميعاً باللغة نفسها وإن كانت بلهجات مختلفة. عند الجميع ليس هناك فلسطيني صاحب حق، هناك فقط فلسطيني متسول تتكرم عليه اسرائيل ببعض الفتات. أما المقاومة، أما لغة الحق، فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً، هي العنف أو الإرهاب، وكلاهما التزمت جماعة أوسلو كتابياً بالقضاء عليه عبر عشرات الوثائق الموقعة. وربما نستطيع فهم شارون من كلماته ولاءاته المعلنة، او نفهمه من خلال هنري كيسينجر وزير الخارجية الاميركي السابق الذي قال شارون إنه استوحى منه برنامجه السياسي، وأشهر شعارات كيسينجر، كما نتذكر منذ السبعينات هي: يجب أن يصل العرب أولاً إلى أقصى درجات اليأس قبل التحدث معهم عن السلام. ربما نفهم شارون ايضا من خلال كلمات أحد موفديه اخيراً الى واشنطن حينما قال للأميركيين: "إن الخطأ الاول لايهود باراك هو أنه كشف اوراقه قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات، وشارون لن يكرر هذا الخطأ"، ربما نعود حتى الى ما قبل ذلك، فعشية توجه رئيس وزراء اسرائيل - بنيامين نتانياهو وقتها - الى مفاوضات "واي ريفر" في الولاياتالمتحدة في 1998 قام شارون - وزير الخارجية حينئذ - بمناشدة زملائه الوزراء قائلاً: أرجوكم، زايدوا علينا وافرضوا علينا اقصى القيود. وفي "واي ريفر" أصبح شارون يزايد على نتانياهو داخل المفاوضات. واعضاء مجلس الوزراء يزايدون على شارون خارج المفاوضات، بينما سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني تقوم باعتقال كل من يتجرأ على انتقاد تنازلاتها التفاوضية! تلك حقائق موثقة متاحة للمؤرخين، لكن من دون ان ننتظر سنوات اخرى لنعرف الحقائق سأطرح هنا منشوراً واحداً لعله يختصر الطريق لفهم منطق شارون ومَن على شاكلته" منشور اعلاني تخاطب به المنظمات الصهيونية الجمهور الاميركي بعنوان محدد هو: "المساعدات الاميركية لإسرائيل، هل تحصل الولاياتالمتحدة على ما يساوي أموالها؟". في البداية يقول المنشور: "إن مصر واسرائيل هما الدولتان اللتان تحصلان على أكبر مساعدات من الولاياتالمتحدة. وبسبب مشاركة مصر في حرب الخليج جرى إسقاط تسعة بلايين دولار من ديونها، أما اسرائيل فتسدد فواتيرها، إنها تحصل على ثلاثة بلايين دولار سنوياً مساعدات عسكرية واقتصادية، ومن الإنصاف التساؤل عما إذا كانت هذه صفقة جيدة بالنسبة الى دافع الضرائب الاميركي". بعدها يبدأ المنشور بتسجيل "الحقائق" على النحو التالي: "إن أهمية اسرائيل العسكرية والسياسية وموقعها الاستراتيجي في الشرق الاوسط يكفل الاستقرار في كل المنطقة، بما في ذلك حقول البترول في الخليج الفارسي. وخلال الحرب الباردة كانت اسرائيل متراس اميركا الذي لا يعوض ضد الطموحات التوسعية للاتحاد السوفياتي. واسرائيل الآن حصن غربي ضد النيات العدوانية لإيران والعراق والدول الاخرى التي يمكن ان تهدد مصالح الولاياتالمتحدة". ثم يقول "تقوم اسرائيل بتأمين الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي بفاعلية من دون ان تطلب مرابطة جندي اميركي واحد في ارضها، بالاضافة الى ذلك يمكن لمنشآتها العسكرية الممتازة الرائعة وامكاناتها وقدراتها الدفاعية أن تصبح جزءاً من جسر جوي وبحري، كذلك قدرتها على أن تصبح مخزناً للمعدات الحربية. كل هذا يجعل اسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تضع نفسها تحت تصرف الولاياتالمتحدة في اي حال طارئة". ويتابع "ليس هناك دولة اخرى في الشرق الاوسط - باستثناء اسرائيل - يمكن اعتبار حكومتها مستقرة وشعبها صديق للولايات المتحدة. هناك خطر كبير من إعطاء مساعدات او معدات عسكرية اميركية لدول عربية فتلقى مصير بلايين الدولارات والاسرار العسكرية الثمينة التي خسرناها لحساب اعدائنا نتيحة انهيار ايران". ثم يقول "إن القدر الأكبر من المساعدات الاميركية لإسرائيل يبقى في ايدي شركات السلاح الاميركية. وحسب بيتر ماكفرسون المدير السابق في وكالة التنمية الدولية فإن كل بليون دولار من المساعدة الاميركية لاسرائيل يخلق ما بين 60 إلى 70 ألف فرصة عمل داخل الولاياتالمتحدة. وبالمقارنة مع 1800 مليون دولار مساعدات عسكرية اميركية لإسرائيل سنوياً تساهم الولاياتالمتحدة بأكثر من مئة وثلاثين بليون دولار سنوياً للدفاع عن اوروبا وأكثر من ثلاثين بليون دولار للدفاع عن اليابان وكوريا والشرق الاقصى، فضلاً عن ثلاثمئة الف جندي اميركي مرابطين ضمن قوات حلف شمال الأطلسي وأكثر من ثلاثين الف جندي اميركي مرابطين في الشرق الاقصى. وبالمقارنة، لا يحتاج جندي اميركي واحد الى المرابطة في اسرائيل وتعريض حياته للخطر. والمحللون العسكريون الاميركيون يقدرون أنه سيصبح على الولاياتالمتحدة ان تنفق ما يساوي مئة وخمسين بليون دولار سنوياً في الشرق الاوسط إذا أرادت ان تحتفظ لنفسها بقوة مساوية لقوة اسرائيل". ويضيف "هناك منافع اخرى كثيرة تحصل عليها الولاياتالمتحدة من اسرائيل، فإسرائيل هي البلد الوحيد الذي يُكسب الاسلحة الاميركية خبرة ميدانية يتم نقلها فوراً الى الولاياتالمتحدة أولاً بأول. وهناك كميات ضخمة من الاسلحة السوفياتية والنظم الدفاعية السوفياتية استولت عليها اسرائيل في الماضي وسلمتها الى وزارة الدفاع الاميركية لتحليلها ما أدى الى تحسين وتطوير الاسلحة الاميركية ذاتها". ويخلص المنشور الى ان "اسرائيل هي فعلاً حاملة الطائرات غير القابلة للإغراق التي تملكها اميركا في الشرق الاوسط. والرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان صاغ كلماته جيداً حينما قال: إن سقوط ايران ضاعف من قيمة اسرائيل باعتبارها مصدر القوة الاستراتيجي الوحيد في المنطقة بما يسمح للولايات المتحدة الاعتماد عليها بالكامل، فالمساعدة الاميركية لاسرائيل، إذن، هي شارع باتجاهين. وتلك المساعدة هي أعظم صفقات اميركا الدفاعية". والآن بعد هذا العرض التفصيلي لمنشور اعلاني اسرائيلي واحد موجه إلى الجمهور الاميركي، فإن ما يعنينا أساساً هو المضمون الذي يقوم بتسويقه مضمون اسرائيل "الوظيفة" قبل اسرائيل "الدولة". هذا يعيدنا الى ارييل شارون وسذاجة التعامل معه كشخص أسوأ او غير أسوأ من غيره. شارون موقف ورؤية واتجاه اساسي، بل هو الاساسي في اسرائيل. ومشكلة بعض سياسيينا هي انهم يقرأون اسرائيل من اليمين الى الشمال بينما اسرائيل تفكر من الشمال الى اليمين. أما المشكلة الاخرى المتعلقة باسرائيل ذاتها فهي أكثر عمقاً. يكفي ان نتذكر أنه بعد حرب الخليج الثانية استمرت اسرائيل قاعدة كبرى لتخزين الاسلحة الاميركية المتطورة تحسباً للمستقبل، لكن في اللحظة الراهنة اصبحت اكبر قاعدة في العالم لتخزين الاسلحة الاميركية المتطورة موجودة في... قطر. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.