الحقيقة الغائبة في كل ما يجري - أو لا يجري - من مفاوضات عربية - اسرائيلية تتعلق بالبعد الاميركي. فمشاريع التسوية السابقة واللاحقة تتعلق بإسرائيل طبعاً من حيث هي أداة الاحتلال العسكري المستمر منذ سنة 1967. لكنها في الجوهر ايضاً تسوية عربية اميركية مهما حرصت السياسة الاميركية الراهنة على التغطي برداء الوسيط أو المسهل أو المحكم. لا نريد أن نعود خلفاً الى جذور وملابسات وأهداف الغزوة الاسرائيلية الكبرى في حزيران يوينو سنة 1967، فالحديث عنها يطول والوثائق متاحة. نعود فقط الى قرار مجلس الامن رقم 242 الصادر في 22 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1967. القرار أصلاً صياغة بريطانية بمهماز اميركي واعتبره عرب 1967 - على مضض - أساساً لتسوية. لكن جوهر التسوية التي حددها القرار يقوم على التزامين: فإسرائيل ملتزمة بالانسحاب من الاراضي العربية المحتلة في حرب يونيو. والحجة الاسرائيلية بكلمة "أراض" في النص الانكليزي مقابل كلمة "الأراضي" في النص باللغات الاربع الاخرى المعمول بها رسمياً في الاممالمتحدة حينئذ، حسمه الاميركيون أنفسهم في مراحل سابقة. هذا الالتزام الإسرائيلي بالانسحاب الكامل يقابله اساساً التزام الدول العربية المعنية وهي تحديداً مصر والأردن وسورية بإنهاء حال الحرب ضد اسرائيل. ليس في القرار، إذن، مفاوضات مباشرة ولا سفارات وعلاقات ديبلوماسية او تجارية من أي نوع. وليس فيه ايضاً ما يمتد الى أي دولة عربية أخرى غير الدول الثلاث التي احتلت اسرائيل أجزاء من اراضيها، ومع أن مصر والاردن قبلتا القرار 242 عند صدوره، - بدوافع مختلفة - إلا أن سورية رفضته، وقبلت به فقط في سنة 1974، بإلحاح من الرئيس الاميركي شخصياً - ريتشارد نيكسون وقتها - على اساس أن القرار يكفل لسورية استرداد أراضيها المحتلة. لكن مع انعقاد مؤتمر مدريد في سنة 1991، الذي هندسته الولاياتالمتحدة بكل تفاصيله وتفريعاته، أصبحت الولاياتالمتحدة هي بذاتها التي تتجاوز القرار 242، تتجاوزه بمراحل. فأولاً هناك مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. وثانياً هي مفاوضات يقوم بها كل طرف عربي منفصلاً عن الاطراف الاخرى. وثالثاً هناك بدعة جديدة هي مفاوضات موازية عربية - اسرائيلية دولية بهدف إدماج اسرائيل عضوياً في المنطقة، وبإلحاح خاص على دول الخليج تحديداً. وقتها قالت الولاياتالمتحدة إن هذه المفاوضات الموازية ستناقش فقط تصورات افتراضية تقوم أساساً على فكرة أن التسوية تم استكمالها بين اسرائيل وكل من الاردنولبنان وسورية والفلسطينيين. والآن في سنة 2000 تحولت تلك المفاوضات الموازية الافتراضية الى مفاوضات قائمة بذاتها وتلح بها الولاياتالمتحدة على الدول العربية جميعاً، من المحيط الى الخليج. المحيط لزوم الزفة. والخليج لزوم تسديد الفواتير. وفي الاممالمتحدة ضغطت الولاياتالمتحدة بشراسة لإلغاء قرار سابق باعتبار الصهيونية عنصرية. وهي الآن تضغط لضم اسرائيل الى مجموعة اوروبا داخل الاممالمتحدة. وفي ما بين الاثنين اصبحت الولاياتالمتحدة هي "مقاول الأنفار" الذي يلح اقليمياً - حتى على موريتانيا - ودوليا حتى الصين، بإقامة علاقات مباشرة مع اسرائيل وتوثيقها. بكلمات أخرى، تعمل السياسة الاميركية بكل همة على إخراج إسرائيل من عزلتها في الساحة الدولية. وهي العزلة التي نشأت أصلاً نتيجة سياسات واعتداءات وغزوات اسرائيل في المنطقة. يجري هذا كله في الوقت الذي ما تزال اسرائيل تحتل فيه الجولان السورية والجنوباللبناني وستين في المئة من قطاع غزة ومعظم الضفة الغربية،. يجري هذا ايضاً بينما الاسلحة الاميركية المتطورة تتدفق على اسرائيل بلا حساب، وبغير حتى التظاهر بوجود ثمن سياسي من أي نوع لمصلحة مشروع التسوية. والآن نصل - اختصاراً - الى مشروع التسوية التفاوضية بين اسرائيل وسورية بمشاركة اميركية. بالطبع هناك عنصر ايجابي هنا... هو انغماس الرئيس الاميركي بنفسه في العملية التفاوضية، وهو ما يعطي بعداً من الجدية ثبت بالتجربة أنه أساسي لأي إنجاز. أما في ما عدا ذلك فإن الادارة الاميركية للمفاوضات حوّلتها اخيراً من تسوية الى "تشوية" من الشواء وهي تشوية للطرف العربي المفاوض وكأنه غنيمة حرب، لحساب اسرائيل والولاياتالمتحدة، معاً. اسرائيل تتلاعب؟ طبيعي. تتاجر؟ تساوم؟ تدفع مفاوضها العربي دائماً الى موقف الدفاع والتبرير؟ ممكن. انما الولاياتالمتحدة هنا هي الاساس، ليس فقط بصفتها القوة العظمى المنفردة حالياً، ولكن أساساً بحكم مصالحها المتسعة في المنطقة. حينما كانت الولاياتالمتحدة تساير الشرعية الدولية طوال سنوات الحرب الباردة كانت تقر بأن اسرائيل موجودة في الاراضي العربية كقوة احتلال. كانت تقر ايضاً بأن انسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران يونيو سنة 1967 هو مفتاح أي تسوية. وهناك في هذا الخصوص وثائق رسمية اميركية جرى إبلاغها سابقاً لاطراف عربية محددة. ولا أعرف حتى الآن سبباً واحداً لعدم نشرها. مع ذلك فبمجرد انتهاء الحرب الباردة واستفراد الولاياتالمتحدة بعرض القوة العالمية - ولو موقتاً - فصلت السياسة الاميركية نفسها عن الشرعية الدولية. لقد اصرت على استبعاد الاممالمتحدة، ثم روسيا، ثم حلفائها في اوروبا الغربية الذين لهم أيضاً مصالح ملموسة في المنطقة. في الخلاصة اصبح هناك احتكار اميركي كامل في إدارة المفاوضات. بعدها تصاعدت وتيرة التراجعات الاميركية لحساب إسرائيل. اول تلك التراجعات يتعلق بالموقف الاميركي من القرار 242. فالقرار ينص على عدم جواز الاستيلاء على الاراضي بالقوة، ويتعامل مع اسرائيل كقوة احتلال، ويتحدث عن "حدود آمنة" باعتبارها التزاماً متبادلاً. لكن بقدرة قادر اختفى هذا كله، بل إن عنوان الامن اصبح حجة يتم تلفيقها باعتباره احتياجاً اسرائيلياً فقط. ومن خلال هذا التلفيق تصبح الدول العربية هي الملكفة بضمان أمن اسرائيل وليس العكس. واسرائيل هذه المطلوب ضمان أمنها هي: اولاً: تحتكر التسلح النووي في المنطقة. ثانيا: تملك تفوقاً عسكرياً تقليدياً - بكفالة اميركية - على كل الدول العربية مجتمعة. ثالثا: ترتبط عضوياً بالولاياتالمتحدة من خلال العلاقة بالاسطول السادس الاميركي بالبحر الابيض المتوسط، وكذلك من خلال مستودعات الاسلحة الاميركية المتطورة داخل اسرائيل... لحسابها ولحساب الولاياتالمتحدة. رابعاً: ترتبط مع مصر - التي بغيرها لا تصبح اي مواجهة عسكرية ممكنة - بمعاهدة تكفل - من بين أشياء اخرى - نزع سلاح سيناء. بعدها معاهدة مع الاردن، وفي ما بينهما اتفاق للحكم الذاتي يؤدي في نهاية المطاف الى اإنهاء القضية الفلسطينية. وسورية - مثلاً - المطلوب منها إعطاء ضمانات بتأمين اسرائيل، هي: أولاً - التي تقلصت علاقتها العسكرية بمورد أسلحتها، الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا لاحقاً، الى نقطة الصفر. ثانياً: التي تمارس الولاياتالمتحدة ضدها حصاراً عسكرياً من المنبع، وصل الى درجة تهديد جمهورية جنوب افريقيا صراحة وعلناً حينما فكرت في توريد صفقة اجهزة توجيه لمدافع الدبابات فتم إلغاء مشروع الصفقة. ثالثاً: التي تبقيها الولاياتالمتحدة سنوياً على لائحة الدول الراعية للارهاب رغم الاقرار الاميركي الرسمي بأن كل علاقة سورية بالارهاب هو ايواؤها لبضع منظمات فلسطينية اعتادت على الارتزاق من نضال الميكروفونات. وهي نفس قماشة "الارهابيين" الآخرين الذين ابرمت معهم اسرائيل اتفاق اوسلو وتوابعه واصبحت علاقاتها بهم الآن سمناً على عسل. وايضا تفتح لهم في بنوكها حسابات سرية وتوافق لهم ايضاً على فتح وتشغيل كازينو للقمار بحجة مساعدة الشعب الفلسطيني على الاطمئنان الى مصيرة ومستقبله. في مشروع التسوية الاخير الذي سجلته مذكرة اميركية وسربته اسرائيل هناك شروط متوحشة تطلبها اسرائيل. هناك نزع سلاح الجولان بغير معادل اسرائيلي. وهناك التزام سوري بإعادة نشر القوات المسلحة السورية داخل سورية ذاتها، ابتداء من الحدود الى ما قبل مدينة حمص. وهناك التزام سوري بعدم الوجود في محطة الانذار المبكر في قمة جبل الشيخ. وهناك "أفضلية متبادلة" في علاقات الجوار تلتزم بها سورية. وهناك أولوية لهذا الاتفاق تسبق اي واجبات اخرى كالدفاع العربي المشترك مثلاً. وهناك التزام ب"الامتناع عن التعاون مع أي طرف ثالث من خلال تحالف معاديٍ ذي طابع عسكري" ...و....و....و... لو أخذنا هذا الالتزام الاخير فقط في الاعتبار فسوف يزول فوراً اي وهم بأنه التزام متبادل. مثلاً: هل تفك اسرائيل علاقاتها الامنية والعسكرية مع الولاياتالمتحدة؟ هل تلغي تحالفها العسكري مع تركيا، علماً بأن تركيا بذاتها عضو مهم بخلف شمال الاطلنطي الذي تقوده الولاياتالمتحدة؟ هل تخضع اسرائيل تسلحها النووي للرقابة الدولية. بالطبع ليس وارداً أي شيء من ذلك. الوارد فقط هو ان تصبح سورية مستباحة بحجة ضمان امن اسرائيل. لكن.. ما الذي يضمن امن سورية؟ انه فقط إذعان سورية لشروط المعاهدة. لكن ماذا - مثلاً مثلاً مثلاً - لو قام وزير الدفاع المصري ذات يوم بزيارة دمشق واعتبرت اسرائيل هذا عملاً معادياً لها؟ حسب مشروع الاتفاق الاسرائيلي حتى اللحظة فإن الحل هو أن تفسر سورية موقفها لاسرائيل من خلال المفاوضات. يعني: لا قانون دولي ولا أمم متحدة ولا حتى اميركيا. الحل فقط هو أن تتفاوض سورية مع اسرائيل الى أن تقوم - اسرائيل - عن طيب خاطر - بإعطاء سورية شهادة بحسن السير والسلوك. فوق هذا كله هناك بدعة "التعويضات" فمن أجل "إغراء" اسرائيل بالتسوية مع سورية تطلب اسرائيل بلايين بعد بلايين من الدولارات. حتى سنة 1995 كانت اسرائيل تطلب من الولاياتالمتحدة - على استحياء - 12 بليون دولار. الآن قفز الرقم الى عشرين بليوناً واخيراً الى خمسين بليوناً. معظم المبالغ بهدف توفير أجيال احدث وأخطر من الاسلحة الاميركية الى اسرائيل لا تضمن لها فقط الاستمرار في التفوق الكاسح على الدول العربية مجتمعة. ولكن ايضاً تصبح القوة الاقليمية العظمى المسيطرة عسكرياً على منطقة تمتد من ايران شرقاً الى المغرب غرباً. بكلمات أخرى: ان أمن اسرائيل - المطروح اخيراً - لا يعني فقط عدم أمن سورية، ولكن عدم أمن منطقة الشرق الاوسط بكاملها. وفي اللحظة الراهنة تستطيع السياسة الاميركية أن تنقذ خزانتها وترسانتها إذا كانت حقاً مغلوبة على أمرها - وهو غير صحيح وتنقذ أيضاً صدقيتها العربية... بثمن أقل كثيراً من كل هذا. مثلا: ليخرج السفير الاميركي في لبنان ليقول علناً إن اعتداءات اسرائيل اليومية على لبنان هي انتهاك فاضح لشروط بيع الاسلحة الاميركية لاسرائيل. أو: أن الحصار البحرى الذي تفرضه اسرائيل ضد الجنوباللبناني هو انتهاك لقوانين البحار الدولية. أو.. فلنأخذ مثلاً أكثر بساطة. فليخرج ذلك الفصيح الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية لكي يعلن فقط أن الولاياتالمتحدة تعتبر الاراضي العربية اراضي محتلة وأن انسحاب اسرائيل منها هو جوهر السياسة الاميركية في المنطقة. أو فليقل شيئاً آخر: إن الولاياتالمتحدة ملتزمة الدفاع عن اسرائيل، لكنها غير ملتزمة بالمرة، الدفاع عن غزوات اسرائيل. هذه الكلمات الاخيرة ليست اختراعاً، بل سبق وقالتها - في وثائق - إدارة ليندون جونسون، الرئيس الاميركي نفسه الذي كان شريكاً لإسرائيل في حرب حزيران يونيو 1967. هذا الموقف الاميركي المستقل غير مطروح حتى الآن لأسباب. بعض هذه الاسباب يدركها جيداً اليمين الاسرائيلي ومن بينه آرييل شارون الوزير السابق. شارون اطلع على وثائق سرية - حينما كأن وزيراً للدفاع - تؤكد أن غزوة حزيران يونيو 1967، كانت بالاساس تكليفاً اميركياً. بل وايضاً إن الولاياتالمتحدة "نصحت" اسرائيل اعتباراً من سنة 1968، بأن تحتفظ بالضفة الغربية لنهر الاردن ضماناً لأمنها. إنما شارون ينسى ان القرار هو لمن يدفع، وليس فقط لمن ينفذ. الموضوع كبير، بل أكبر مما يبدو عليه حتى الآن. انما المهم من زاوية هذا المقال هو أن السياسة الاميركية الراهنة لا تدرك انه بموازاة أي تسوية تريدها اميركيا مع اسرائيل فإن الرأي العام العربي يقيسه على أنه تسوية مع الولاياتالمتحدة ذاتها. والسبب في ذلك ربما يكون التجاهل الأميركي الكامل لفكرة وجود رأي عام عربي من الاساس. أولاً: لأنها اقنعت بعض الحكام العرب بأن الخضوع للرأي العام بالنسبة الى اسرائيل تحديداً هو عورة لا تليق بمقامهم الرفيع.. موقتاً. ثانياً: لأنها سجلت سوابق في ما مضي التزم فيها عرب التسوية بأنهم مسؤولون أمامها - بل وأمام اسرائيل - عن قمع أي معارضة حتى كلاماً او همساً. لقد تنازل العرب مبكراً عن منطق العدل سعياً الى منطق التسوية. وفي السنوات الاخيرة يجري التحول من التسوية الى "التشوية"... ربما لأن رائحة الشواء هي التي تجذب الوحوش الكاسرة في غابة السياسات الدولية. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.