منذ البداية، لم يكن منطقياً توقع استمرار السلطة الفلسطينية والانتفاضة معاً الى أجل غير مسمى، إلا إذا تحالفت كل القيادات والاقطاب والمنظمات والعناصر في حرب مع اسرائيل واتفقت على خيار سياسي موحد. فالسلطة الفلسطينية عبارة عن حكومة، ومنظمات مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي" هيئات سياسية وعسكرية معارضة للنمط والقرار اللذين تمثلها السلطة. لم يحدث اجماع بين الأطراف الفلسطينية، في السلطة وفي المعارضة المسلحة، بل حصل تصعيد في داخل الساحة الفلسطينية ضد السلطة لتقويضها، وضد خيار المفاوضات لاسقاطه، باستخدام مدروس للانتفاضة. الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات رفض حسم العلاقة بين السلطة والمنظمات المعارضة لأنه أراد تجنب حسم الانتفاضة ومصيرها، خصوصاً ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون عجّز تكراراً مسار المفاوضات. في هذا المنعطف، ومن اجل احباط غايات شارون ونياته تجاه الشعب الفلسطيني، على القاعدة الشعبية الفلسطينية الاختيار، وعلى عرفات الحزم والحسم بما يتعدى سيرته الشخصية. ليس مهماً ماذا في ذهن ارييل شارون. فمعدنه جلي، وغاياته مفعمة بالحقد والكراهية لكل ما هو فلسطيني، ورغبته الصادقة هي أن تندلع حرب أهلية فلسطينية يدمر كل طرف فيها الآخر. إنه الآن في صدد نزع الشرعية عن ياسر عرفات، وتقزيم السلطة الفلسطينية مع تدمير بنيتها التحتية. اجراءاته العسكرية الأخيرة تستهدف تحطيم عرفات كرمز وتحقير رموز رئاسته، مع العمل المنظم على "التحقير" و"الاهانة" لعرفات بما يقننه في خانة الغضب والحرد والعجز. منذ بدء الحرب الأميركية على الإرهاب، سعى شارون الى اقحام ما لديه من "أجندة" ضيقة واستغلالية على السياسة الأميركية. هدد تارة، وتوعد تارة. فضح نفسه مرة، وأحبط عزيمته بنفسه مرة أخرى. أخطأ في بعض الظروف بما كشف طبيعته وقصر نظره، واستدرك في ظروف أخرى لإنقاذ العلاقة الأميركية - الإسرائيلية في ذهن الرأي العام الأميركي. وما أراده في كل منعطف هو تحقيق هدفين: أولاً، احباط عزم الولاياتالمتحدة على لعب دور مباشر في الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية، ومنع الإدارة الأميركية من التقدم برؤية ومواقف جريئة، حرصاً على الائتلاف الدولي في الحرب على الإرهاب، لا سيما بأقطابه العربية والإسلامية. وثانياً، فرض الرؤية الإسرائيلية، وقوامها أن التحالف ضد الإرهاب يجب أن يرتكز إلى تحالف أميركي - إسرائيلي كقاعدة أساسية مع الربط المباشر بين التجربة الأميركية والتجربة الإسرائيلية مع الإرهاب، كي تصبحا توأماً في انطباع الرأي العام وفي صنع السياسة الرسمية ضد الإرهاب. العمليات الانتحارية في حيفا والقدس التي أعلنت "حماس" مسؤوليتها عنها، وقعت تماماً في مصلحة حسابات شارون، وخدمته غالياً. أما وان العمليات استهدفت مواطنين داخل إسرائيل على متن باص في طريقهم إلى حياتهم اليومية، فإن الانطباع في الذهن الأميركي خالٍ تماماً من القدرة على التمييز بين ارهاب وآخر. لقد نسفت هذه العمليات العمل الدؤوب على التمييز بين الإرهاب والمقاومة للاحتلال، ووضعت الإدارة الأميركية في موقع لا يمكنها من الهروب من تهمة "الازدواجية" لو اتخذت مواقف غير التي تنتهجها. يشاء بعضهم أن يقول الآن إن إدارة جورج دبليو بوش تراجعت عن مبادرة "الرؤية" التي تقدمت بها، وأعطت الضوء الأخضر لارييل شارون ليقوم بعملياته الانتقامية ضد السلطة الفلسطينية والمدن الفلسطينية. جزء من هذا "البعض" إسرائيلي نزعته اعتذارية منابة عن شارون، وجزء منه عربي نزعته سطحية في تقويم المواقف الأميركية. تقع الإدارة الأميركية اليوم في معركة استقطاب، بين أقطابها ومع الكونغرس وبجهد مكثف من مؤسسات تقوم باللوبي لمصلحة إسرائيل، وبمحاولة عازمة من مؤسسات أميركية - عربية - إسلامية تحاول ابراز عقم نصائح ودوافع مجموعات معادية لها. والإعلام يلعب دوراً في هذه المعركة، كما الرأي العام. قد يقال إن هناك انقساماً في صفوف الإدارة الأميركية، إنما ليس من العدل القول إن إدارة بوش اختارت الانحياز لشارون والطلاق من التزاماتها المهمة التي عبرت عنها على لسان الرئيس الأميركي وفي خطاب "الرؤية" الذي ألقاه وزير الخارجية كولن باول قبل أسابيع قليلة، فقرارها الاستراتيجي تم تدوينه رسمياً. أما تنفيذه فهو رهن التطورات والقرارات والمساهمات من منطقة الشرق الأوسط. صحيح أن واشنطن، وكذلك الاتحاد الأوروبي، أكدت على أن "لإسرائيل الحق بالدفاع عن النفس" بعد العمليات الانتحارية، إلا أنها لم تصادق على "حق الانتقام"، بل إنها حذرت شارون من افرازات الانتقام ورفضت نسف ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية من المعادلة. وفيما كان الناطق باسم البيت الأبيض يعرب عن التفهم للحاجة إلى اجراءات انتقامية خوفاً من تهمة "الازدواجية" في وجه الإرهاب، تعمد مسؤولون أميركيون تسريب "غضب" البيت الأبيض من استغلال شارون اللقاء مع بوش الذي انتهى في مصافحة حميمة ليشن عملياته في غضون ساعات منها، متعمداً اظهار الانطباع بأن بوش صادق على العمليات وأعطى الضوء الأخضر. فالبيت الأبيض فهم تماماً تكتيك شارون واستراتيجيته واغتاظ. إلا أنه لم يكن في موقع يمكنه من كشف شارون أو مشاعر بوش، لأن صوت الإرهاب كان أقوى. وهذا تماماً ما تمناه ارييل شارون من أجل تحقيق الهدف السياسي الأساسي في ذهنه، وهو احباط وافشال مبادرة "الرؤية" الأميركية ومهام مبعوث وزير الخارجية الجنرال انتوني زيني. ففي طيات تلك المبادرة بوادر الضغط الأميركي على إسرائيل والزامها تجميد المستوطنات وازالتها، ووقف اجراءات الحصار الاقتصادي، والكف عن إعادة احتلال الأراضي الفلسطينية، والاقلاع عن تدمير البيوت والعقاب الجماعي، وانهاء الاحتلال، والتوصل إلى اقامة دولة فلسطين على أساس القرارين 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام. كل هذا مرفوض في ذهن شارون. قد يكون القاسم المشترك بين "حماس" و"الجهاد" وغيرهما من المنظمات الفلسطينية، وبين شارون وغيره من الأفراد والأحزاب الإسرائيلية، الرفض التام لخيار التعايش. كل منهما يريد إلغاء الآخر، إذا تمكن. وكلاهما يلعب أوتار المعادلة الأمنية على حساب المعادلة السياسية. الطرفان يسيطران على الساحة الآن، بدعم من القاعدتين الشعبيتين، الفلسطينية والإسرائيلية، والفارق ان أحد الطرفين حكومة، والطرف الآخر معارضة. بغض النظر عن المواقف الرسمية الأميركية والأوروبية والعربية الداعية ياسر عرفات إلى اتخاذ ما يلزم من اجراءات تجاه المنظمات المتطرفة، إلا أن المسألة تتعلق أساساً بالعلاقة بين السلطة الفلسطينية والمعارضة السياسية والمسلحة لها. منطقياً، لا مجال للتعايش بين سلطة/ حكومة يفترض أنها صاحبة القرار على البقعة الفلسطينية، وبين منظمات/ معارضة تنسف في الجذور ذلك القرار بالسلاح وبعمليات تلغي خيار السلطة وتساهم منهجياً في تقويضها. لربما تود القاعدة الشعبية الفلسطينية نفي ناحية الصراع على السلطة وتأجيل حسم الخيار بين فلسطين كبديل لإسرائيل وبين فلسطين تقوم في بقعة ازالة الاحتلال. لربما تعتقد أن الانتفاضة المفتوحة الافق والزمان هي أفضل الخيارات. إلا أن واقع اليوم هو أن لا مجال لاستمرار النهجين التفاوضي والانتفاضي معاً. أحدهما لا بد من أن يلغي الآخر. وهذا ما يشكل أبرز التحديات أمام القاعدة الشعبية الفلسطينية: اختيار كيفية تقرير المصير، تفاوضياً أم انتفاضياً، عبر السلطة الفلسطينية أو عبر البدائل عنها المتمثلة في منظمات مثل "حماس" و"الجهاد". والقاعدة الشعبية الإسرائيلية بدورها مطالبة بحسم أمرها بدلاً من المضي في نمط التقاعس والازدواجية والاختباء وراء الأعذار. ذلك أن ارييل شارون يجسّد التطرف والبغض والحقد والرفض لمبدأ الأرض مقابل السلام، متبنياً منطق استخدام القوة وفرض الأمن بالقوة كبديل عن حل سياسي لا يمكن التوصل إليه سوى عبر ازالة الاحتلال. فإذا كان هذا خيار القاعدة الشعبية الإسرائيلية، لا داعي لياسر عرفات أن يجازف ليُتهم بأنه يقوم بدور الذراع المنفذة للقرار الإسرائيلي. ولن يتمكن عرفات من قيادة شعبه إلى تبني خيار الحسم تفاوضياً ما دامت القاعدة الشعبية الإسرائيلية توافق على مثابرة شارون في قمعه وإرهابه للفلسطينيين ونفي حقهم بدولة مستقلة على كامل الأراضي المحتلة. فعلى رغم أهمية الشخصيات الفلسطينية والإسرائيلية في مسيرة هذه المأساة، إلا أن الطرح الأساسي يتعدى الشخصيات ويصب في خانة السياسات وجهوزية القاعدتين الشعبيتين، الفلسطينية والإسرائيلية، على اتخاذ القرارات. ما يحدث اليوم يخدم تحويل الأنظار عن الحسم الضروري، بالذات على الساحة الإسرائيلية. فالعمليات الانتحارية اطلقت جوقة "انذار" عرفات و"اعفاء" شارون. استبدلت توجه الضغط على شارون دولياً وأميركياً بذخيرة له لتقويض مهمة زيني. نقلت المعادلة من مطالبة إسرائيل بمعالجة جذرية للنزاع إلى "التوسل" لدى شارون عدم تدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية. أجبرت عرفات على الاختيار بين انقاذ السلطة الفلسطينية وبين انهيارها بقرار من المعسكر المتطرف في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية. فالتأجيل لم يعد ممكناً. والتطورات المقبلة لن تحسم فقط لمن القيادة الفلسطينية، بل ستحسم الخيار بين استمرار المفاوضات أو استمرار الانتفاضة.