تسجل المرحلة الراهنة من العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية أدق وأعمق مساهمة من القاعدتين الشعبيتين في صنع المصير الفلسطيني والمصير الإسرائيلي ومستقبلهما المشترك. فأي إقبال على اتفاق بين القيادتين يأخذ بالضرورة في حسابه إما البناء على استعداد القاعدة الشعبية الواسعة لتقبله، أو العزم على نقل هذه القاعدة إلى الاقتناع به. وفي كل من الحالين، يوجد جديد في علاقة القيادتين بالقاعدتين يتطلب الجرأة على الصدق والشفافية. كذلك الأمر إذا كان الاتفاق مستحيلاً، فإن المسؤولية مشتركة، قيادياً وشعبياً. ولأن في كل من الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية مخاوف وشكوكاً وحيرة وقلقاً، سيزداد الانقسام وتتوسع المعارضة، وإلى حين التوصل إلى اتفاق أو إلى نقيضه، سيُكثف توزيع الأدوار كجزء من العملية التفاوضية وعملية تهيئة الرأي العام، الأمر الذي يجب أن تتنبه إليه النخبة في مرحلة تطالبها بلعب دورها بمسؤولية وباحترام للوعي الشعبي. قد يكون من المبكر الجزم بأن كلاً من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك أو أياً منهما اعتبر التصعيد على الساحة ضرورة كجزء من المعركة السياسية. الواضح ان من بين أسباب عدم توصل قمة كامب ديفيد في شهر تموز يوليو الماضي إلى اتفاق هو بُعد القاعدتين الشعبيتين اللتين لم تكونا جاهزتين لما يتطلبه الاتفاق من تنازلات. وتلك القمة مزقت اسطورة "القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل" عندما طرح باراك القدس على طاولة المفاوضات بشق نافذة على تقسيمها لتكون عاصمتين للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وأثناء الستة أشهر الماضية، وقع اختراق في الذهن والعاطفة والفكر الإسرائيلي في شأن القدس، كما في شأن حتمية قيام دولة فلسطينية ذات معنى وصلاحية وحتمية ازالة الاحتلال. فقد ادرك الإسرائيلي ان العيش بطمأنينة يتطلب منه الاعتراف بحقوق الفلسطيني والكف عن الطمع والغطرسة. جاء هذا الإدراك نتيجة التطورات التفاوضية والانتفاضية معاً. قمة كامب ديفيد بدأت المعركة على القدس على طاولة المفاوضات، والانتفاضة نقلتها إلى الساحة الشعبية. المفاوضات تناولت مبدأ الاستقلال، والانتفاضة جعلته شعاراً "بأسنان". هناك رأي بأن ايهود باراك ما كان ليرسل ألفي جندي لمرافقة زعيم ليكود ارييل شارون إلى الحرم الشريف لو لم يكن في ذهنه نقل المعركة إلى الساحة الشعبية كجزء من استراتيجية ايضاح الخيارات أمام الرأي العام الإسرائيلي. هذا الرأي يشير إلى تردد الرأي العام الإسرائيلي في دعم الاتفاق ومعارضته "التنازلات" في شأن القدس، فكان على باراك أن يساهم في "الاستفزاز" كي تتفجر الأمور ويتطلع الإسرائيلي على ما ستؤول إليه في حال الفشل في التوصل إلى اتفاق. كان عليه أن يرتدي بزة الجنرال ويقمع في الأراضي المحتلة، كما ضد عرب إسرائيل، ليوضح للقاعدة الشعبية الإسرائيلية أن المعركة غير قابلة للانتصار. بغض النظر ان كانت وجهة النظر هذه دقيقة أو وهمية. إن كان باراك جازف حقاً باستراتيجية المعركة قبل الاتفاق، أو ان كان استدرك بعد الانفعالية والاعتباطية، لقد واجه الرأي العام الإسرائيلي خياراته بصورة لا سابقة لها بسبب تداخل المفاوضات والانتفاضة. كذلك الأمر على الساحة الفلسطينية، فإن القاعدة الشعبية الفلسطينية دخلت طرفاً في صنع القرارات السياسية. قد يكون ياسر عرفات بدوره ساهم في صياغة التطورات منذ زيارة شارون الاستفزازية وأدارها بكل حكمة وبراغماتية كجزء من استراتيجية وضع الفلسطيني أمام خياراته. أو قد تكون الانتفاضة الشعبية هي التي فرضت نفسها طرفاً في المفاوضات. المهم أن الشراكة بين القيادة والقاعدة الشعبية الفلسطينية تطورت لتجعل الطرفين مسؤولين عن الاتفاق أو نقيضه. ولأن العد العكسي إلى القرار بدأ، توجد حاجة الآن إلى الشفافية بدلاً من الاحتفاظ بالأوراق السرية. وللتأكيد، فإن فن التفاوض وقواعده تتطلب الاحتفاظ بأوراق سرية، والقصد ليس كشف الأوراق لغايات اطلاع الطرف الآخر عليها للاستفادة منها. القصد ان عملية تسريب نقاط الاتفاق والاختلاف تتشابك مع عملية تهيئة الرأي العام الفلسطيني بصورة تتطلب الآن الايضاح بصدق وبشفافية. فكما ان هناك حاجة إلى ضمانات دولية لاتفاق فلسطيني - إسرائيلي وإلى غطاء عربي لأية موافقة فلسطينية على اتفاق، فهناك حاجة لأن تكون القاعدة الشعبية الفلسطينية طرفاً في التنفيذ كما في الموافقة على التوقيع على اتفاق. هذا لا يعني ان المعارضة ستختفي أو أن القائمين على حملة "تخوين" القيادة الفلسطينية سيتراجعون عن مسيرتهم. لكن شرح المطروح والخيارات بصدق وشفافية يساهم في عملية الاقناع والطمأنة بعيداً عن المزايدات والأوهام. فهذه المرحلة الأخيرة من المفاوضات، وفي غضون 20 يوماً ستأتي لحظة الاستحقاق. التوقيت ليس حصراً ذا علاقة بانتهاء ولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون في 20 الشهر المقبل وإنما السبب أساساً ان الطرفين فاوضا إلى أقصى درجات التفاوض. وما يقوم به الطرف الفلسطيني الآن، لجهة الاستفسار والتدقيق في التفاصيل، هو حق مشروع وعمل سياسي ضروري من أجل ضمان الحقوق وتحسين الترتيبات المعروضة، الأمنية منها خصوصاً. ولأن عملية السلام بشقها الفلسطيني - الإسرائيلي وصلت إلى مفترق الحسم، فإن ما ستنتج عنه الجولة الأخيرة برعاية بيل كلينتون لن يكون اتفاقات مرحلية وانتقالية وإنما سيكون اما وثيقة اتفاق نهائي أو انتهاء المفاوضات. ما يترتب على الاحتمالين واضح للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ولذلك فإن القرارات موجعة، ان كانت لجهة استمرار الصراع أو لجهة التنازلات المطلوبة إذا كان سيقع اتفاق. بيل كلينتون لن يفرض اتفاقاً على أي من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وهو لا يتناول الملف من منطلق الحاجة الأميركية إلى اتفاق. مصادر قوته ونفوذه في لعب دوره الآن لها علاقة بخلفه إلى البيت الأبيض كما بتحرره من الاعتبارات الانتخابية وواجباته نحو الحزب الديموقراطي ونائبه آل غور وزوجته هيلاري، التي كسبت معركة سناتور نيويورك. إنه يدخل الحلبة بتخويل من الرئيس المنتخب جورج دبليو بوش. وهذا ما يجعل إمكان تحويل مرحلة "البطة العرجاء" إلى "بطة رشيقة" واردة، وقد بقي حوالى 20 يوماً لتحقيق النقلة. فإدارة جورج دبليو بوش ليست متشوقة لأن ترث نزاعاً فلسطينياً - إسرائيلياً، ولا هي راغبة بمنافسة بيل كلينتون على تحقيق الانجاز التاريخي في اتفاق. ولأن الإدارة الجمهورية المقبلة شبه أوكلت إليه المهمة، فإن بيل كلينتون يلعب دوراً مميزاً له زخم فريد تدرك القيادتان الفلسطينية والإسرائيلية أهميته. فياسر عرفات يدرك أن بيل كلينتون وصل إلى أقصى "الشراكة" الممكنة لأي رئيس أميركي أن يصلها مع الطرف الفلسطيني، نظراً للعلاقة الأميركية - الإسرائيلية التحالفية. وهو يدرك أيضاً ان جورج دبليو بوش لن يحرص شخصياً على لعب دور، بل إنه سيسعى بقدر المستطاع إلى انحسار الدور الأميركي برمته في عملية السلام للشرق الأوسط. هذا إلى جانب اطلاع كلينتون الدقيق على حيثيات المواقف والحقوق والمفاوضات بما يجعله أكثر قدرة على الانصاف والعدالة. ويدرك باراك أن "شراكة" بيل كلينتون له في التوصل إلى اتفاق "مظلة" ضرورية، خصوصاً أن الرأي العام اليهودي في الولاياتالمتحدة ينافس الرأي العام الإسرائيلي على "الوطنية"، يدرك ان إدارة كلينتون لبّت إسرائيل إلى أقصى الحدود، وان إدارة بوش لن تقلدها في ذلك. وهو أكثر الناس ادراكاً ان انجاح جهود كلينتون ينعش جذرياً مستقبله السياسي، فيما افشالها سيشكل أكبر استثمار في انهاء المصير السياسي لايهود باراك. كل هذه اعتبارات تكتيكية ضرورية، إنما، في نهاية المطاف، ما يُصنع في الأيام المقبلة يصب في عصب صنع المصير، فلسطينياً وإسرائيلياً، والقيادتان كما القاعدتان الشعبيتان تعيان ذلك. ومن المهم ان تتوقف الحملات والمزايدات أقله احتراماً للقرار الصعب واعترافاً بأن النخبة ليست مكلفة بمعاملة القاعدة الشعبية وكأنها قطيع. فالرأي العام يضم أكثر من مجرد النخبة، وليس واجباً على النخبة الامعان في الانتقاد والمخالفة لتثبت صوتاً لها. فإذا كانت معارضة، لها حق المعارَضة إنما بصورة لا تفترض أن صوتها وحده هو الصحيح. فهذه مرحلة تتطلب احترام الرأي الآخر والعمل بديموقراطية كي يكون القرار صحيحاً. وفي أي حال، مهما كان القرار، باتفاق أو برفض الاتفاق، فإن بنية شراكة بين القيادتين والقاعدتين الشعبيتين جديدة من نوعها فرضت نفسها في الساحة العربية - الإسرائيلية.