تعود "عملية السلام في الشرق الأوسط" الى الحزب الجمهوري بعد ثماني سنوات امضتها في أحضان الحزب الديموقراطي، تارة مهمشة وتارة على حافة الاختراق. الجمهوريون أطلقوا "العملية" والديموقراطيون خاضوها بكثير من الاخطاء. وما انتهى اليه الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون من فشل وخيبة أمل واحباط يأتي بمثابة هدية الى الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش كان يفضل ألا يرثها، لكنه يتلقاها "خلاصة" عملية أوضحت معالم الخيارات والقرارات. فإدارته ستقاوم التورط في المتاهات التوفيقية والتفاوضية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، مهما حاول اي من الطرفين جرها اليها، وذلك كجزء من سياسة مرحلية موقتة. وعندما تقرر ادارة بوش ان الوقت حان للعب دور لا بد منه فإنها لن تمضي بأسلوب كلينتون الذي بدأ مترفعاً وانتهى متورطاً. وكي تستفيد من الاخطاء والانجازات، من المنطقي لها نقل "عملية" السلام للشرق الأوسط، ما لم تثبت انهيارها تماماً، الى حفلة تتويج لها في مؤتمر دولي على نسق مدريد الذي استغرق اعداده تسعة شهور وحرص على توازي المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية. اخطاء بيل كلينتون لا تبرر الحملة عليه بتجاهل التطورات المهمة في المواقف الاميركية الرسمية نحو الطموحات الفلسطينية. والمصلحة العربية تقتضي التنبه الى ان تعابير اللوم والتهم والغضب من كلينتون قد تترك مرارة في فم بوش. فمهما جاز للطرف العربي ان يحكم على ما قام به الرئيس الاميركي من وجهة نظر الحقوق العربية، فإن الطرف الاميركي لا ينظر الى المسألة من وجهة النظر العربية ذاتها. وجورج دبليو بوش وافق بيل كلينتون ضمناً وتنسيقاً الى حد ما عندما طرح الأخير مقترحاته علناً في نيويورك الاسبوع الماضي. وبالتالي، من الضروري التنبه الى استحقاقات تخوين الرئيس الاميركي، اذ انها سترتد على الطرف العربي. الحكمة في وزن المواقف والخيارات وإبراز الحقوق والمطالب وليست في اطلاق العواطف لمجرد ان "فش الخلق" مريح. فالمنطقة آتية الى مرحلة صعبة مهما جدّ على الساحة التفاوضية أو الانتفاضة، خصوصاً اذا افرزت الانتخابات الاسرائيلية فوز المتطرف ارييل شارون. فمجرد اختيار الناخب الاسرائيلي شارون رئيساً لحكومته يعني انه يقول للفلسطيني انه لا يبالي به ولا بالتعايش معه، والمشكلة في شخص شارون وشخصيته اكثر مما هي في ما سيفعله أو يرفض القيام به. البعض يرى ان شأنه شأن من سبقه من شخصيات ليكود المتعصبة، من مناحيم بيغن الى اسحق شامير، وأنه يمكن يفاجئ كما فاجأ بيغن بانسحابه من سيناء أو شامير بدخوله عملية السلام في مدريد. والبعض يرى انه "بغيض" في عمقه سيتبنى "الفصل" اللئيم كسياسة لتلقين درس للداعين الى تنازلات. المهم ان يوضح الناخب الاسرائيلي اسباب مواقفه مهما كانت، بأنه حقاً غير جاهز للسلام ولكلفته، أو بخيبة أمله برئيس الوزراء المستقيل ايهود باراك بسبب عدم تماسك شخصيته وليس لأنه كسر المحرمات. ايهود باراك وقع ضحية نفسه. انه الرجل الذي أقدم بخطوات متناثرة من دون ان يمضي في الإقدام. بدأ متأخراً، وتلكأ في منتصف الطريق، ووصل الى النهاية متخبطاً بين الإقدام والتقاعس. وعلى رغم ما تركته سيرته السياسية من قمع واعتباطية، فإن ايهود باراك أخذ الاسرائيليين، والعلاقة الاسرائيلية - العربية، الى محطة لا سابقة لها من حيث الاستعداد الذهني للاسرائيليين الى ما تطورت اليه المواقف الاميركية الرسمية حيال ملف الشرق الأوسط برمته. قد يكون باراك ضحية ذهن القاعدة الشعبية الاسرائيلية وفكرها اكثر مما هو ضحية شخصيته. وقد يكون خصمه اللبناني أو السوري أو الفلسطيني هو الذي دفع به الى ضرورة تنبيه اسرائيل الى حقيقة وواقع خياراتها، تماماً كما نبه ميخائيل غورباتشوف الاتحاد السوفياتي الى حقيقته وواقعه، فعوقب لأنه فضح الاسطورة وأبرز الأوهام. وللتأكيد، فإن اصدار ورقة النعي لمستقبل باراك السياسي لم يحن موعده. فالعملية السياسية الاسرائيلية معقدة، والاسرائيليون في مأزق وقد يقررون ان ما يمثله باراك هو خيارهم وليس ما يمثله شارون. وإذا فشلت محاولات اقناع باراك بالتنحي، أو ارغامه على الانسحاب من العملية الانتخابية، فإن القرار الاسرائيلي في أهم مراحله، بغض النظر عن الرجال المطروحين للمنصب. واذا اقتحم شمعون بيريز، أو أُقحم في الساحة الانتخابية فإن دلالة ذلك ان الاسرائيليين في وارد شراء الوقت وليس اتخاذ القرار. فبيريز يمثل "الرغبة"، فيما باراك يمثل "الجرأة". ومن الضروري التذكير بأن بيريز أفشل "الرؤية" التي جعلته "حمامة" سلام ليس فقط عندما تصرف "صقراً" في مجزرة قانا، وانما لأنه ابلغ الى مصادر موثوق بها غضبه العارم من "تجّرؤ" باراك على طرح "التنازلات" في شأن القدس. قد يكون بيريز "تأقلم" الآن مع طروحات باراك، لكن باراك هو الذي ساهم في فرض المعادلات الجديدة. هذه المعادلات لا تعادل الشوط المطلوب لتحقيق النقلة في العملية السلمية، لكنها قفزات في أي حال، قفزات على الصعيد الاسرائيلي كما على مستوى مواقف الولاياتالمتحدة الاميركية. على الصعيد اللبناني، مثّل تحقيق الانسحاب الاسرائيلي، سواء كان هرباً أو خلاصاً، بمردود أو من دونه، بانتصار منطق المقاومة أو بحصره في جبهة، بخضوعه للرغبة الاسرائيلية الشعبية أو بقيادتها اليه، باعتباره حلقة في العلاقة مع سورية أو بفصله عنها، واقعاً جديداً أخرج اسرائيل من مستنقع وسجل اعترافاً لها بفشل سياسة ومن ثم العدول عنها. على الصعيد السوري، أدت المفاوضات الى نتيجة في منتهى الأهمية، وهي وضوح العرقلة أو العراقيل أمام التوصل الى اتفاق وتعريفها. فالمشكلة واضحة، وهي ليست ايديولوجية ولا سياسية ولا ذهنية اذا ما تقررت معالجة قضية بحيرة طبريا. والقصد ليس نفي الناحية السياسية أو تلك المتعلقة بفكر العداء أو التطبيع وانما هو الاشارة الى تعريف العقدة عملياً. وهذا مثال على فشل باراك في القدرة على المضي بالشوط الى نهاية المسافة، كما هو على أخطاء ادارة كلينتون التكتيكية والاستراتيجية، فقد فات كلينتون وفريقه ان لعزل المسار السوري وتجميده تأثيراً كبيراً في المسار الفلسطيني ومستقبله. وبسبب قصر نظر الفريق، وكلينتون نفسه ايضاً، ظن ان في الامكان "إقفال" المسار السوري موقتاً بعد الاخطاء التي ارتكبت في قمة جنيف بين كلينتون والرئيس الراحل حافظ الأسد، وعلى رغم الرسائل المهمة التي بعث بها الرئيس الحالي بشار الأسد، من دون تنبه كلينتون وفريقه الى مغزاها واهميتها. وفعلت ادارة كلينتون ما زعمت الحكومات الاسرائيلية ضرورة فعله، أو رغبت فيه، وهو هضم مسار بعد الآخر أو تفرقتها تحت عنوان أولوية هذا على ذاك. ما لم تدركه ادارة كلينتون هو وطأة تجميد المسار السوري على حركة المسار الفلسطيني. فلو كان هذا المسار متحركاً لما طرأ على المسار الفلسطيني هذا القدر من الحذر والضغوط، ولما احتاج الرئيس ياسر عرفات ذلك "الغطاء" العربي والاسلامي الذي بحث عنه تكراراً وقيل له: اتخذ القرار ونحميك لاحقاً. تلك كانت احدى أهم الاخطاء الرئيسية التي ارتكبها كلينتون وفريقه، وهي تماماً ما يجب ان يتمثل اساساً في طروحات بوش وفريقه. لذلك فإن ضرورة التحرك على أساس "مدريد 2" انطلاقاً من "خلاصة" عملية السلام في الشرق الأوسط مقارنة مع منطلق "اطلاقها" عام 1991. وتتوفر سورياً أدوات "الخلاصة"، سواء في اتفاق بين الطرفين على تطبيق مثال تحديد الاممالمتحدة لما يسمى "خط الانسحاب" بما يسمح لهما بالاحتفاظ الكامل بمواقفهما، أو عبر ارسال مفاوض اميركي رفيع المستوى ليقوم بما قام به جيمس بيكر وزير الخارجية في عهد جورج بوش الأب، والرجل الفاعل وراء الكواليس في عهد جورج بوش الإبن، من تفاوض واتفاق قبل حضور مؤتمر أو اجتماع. فمؤتمر دولي على نسق "مدريد 2" مقبول سورياً من حيث المبدأ شرط ان تكون أهدافه "تتويجية" وليس مجرد "تمرين" آخر في "عملية" سلام. كذلك على الصعيد الفلسطيني - الاسرائيلي، فإن ما وصلت اليه المفاوضات وما اسفرت عنه مذكرات وبيانات الايضاحات والاستفسارات تفيد بضرورة الانتقال الى التتويج بدل الخوض في جولات اضافية من البحث عن وسائل المرحلية والانتقال، فما حدث في السنتين الماضيتين، وبالذات منذ الصيف الماضي الى الآن، شكل انقلاباً في الذهن والفكر والعاطفة الاسرائيلية أولاً والفلسطينية والعربية ثانياً، مع اختلاف بُعد وأثر الانقلاب. فالاسرائيلي قلص أوهامه، والفلسطيني استعادها بزخم عربي ليست فيه مقومات الاستمرارية. وفي هذا خطر. خطر على ما حققته المسيرة الفلسطينية، تفاوضياً وانتفاضياً. فالعاطفة العربية صادقة من دون شك، انما "مؤسساتية" الدعم ناقصة. فلا الدول المصدرة للبترول جاهزة لتخصيص دولار "برميل" لفلسطينيي السلطة أو الانتفاضة، ولا هناك في الأفق ما يفيد بأن الحكومة الاسرائيلية الآتية ستتوقف عن سياسة الفصل والخنق الاقتصادي والمواجهة القاتلة مع فلسطينيي الانتفاضة. هذا لا يعني الدعوة الى وقف الانتفاضة، وانما يعني ضرورة وضع الاستراتيجية العملية بما يجعلها قابلة للاستمرار وليست ضحية للأوهام. وفي إطار مثل هذه الاستراتيجية، من الضروري التدقيق في المواقف السياسية التي ترافق الانتفاضة، كإفراز لها أو كفرض منها، مثل ما جاء في المواقف المعلنة للرئاسة الاميركية المتمثلة اليوم في بيل كلينتون بأن أفكاره ومقترحاته ذاهبة معه هراء. انه رئيس اميركي وضع مقترحات ومواقف في خطاب مدروس بشكل نتيجة مفاوضات، وكلامه ليس مجرد تعليق على حادث هنا أو هناك. بين أهم ما جاء في "مسودة" كلينتون للسياسة الاميركية الدائمة ان هذه المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس اميركي ان حل النزاع يقتضي قيام دولة فلسطينية ذات سيادة قابلة للتطبيق متماسكة جغرافياً، وان تضم القدس عاصمتي دولة فلسطين واسرائيل المعترف بهما دولياً. وللمرة الأولى، يخاطب رئيس اميركي الاسرائيليين قائلاً: "لقد اكتشفتم ان أرضكم هي أرضهم"، وللمرة الأولى ايضاً يعلن ان الضمانات الأمنية لاسرائيل "يجب ألا تأتي على حساب السيادة الفلسطينية أو التدخل في وحدة وسلامة الأراضي الفلسطينية". هذه أمور حيوية وجوهرية يجب الاعتراف بأهميتها، اذ انها تعلن ضرورة زوال الاحتلال والمستوطنات لقيام دولة فلسطين بتواصل جغرافي وعاصمتها القدس. والاعتراف بالايجابيات لا ينفي السلبيات الكثيرة في طروحات بيل كلينتون كما لا يعني ان الرزمة يجب ان تكون مقبولة كما هي بما تضمه أو تفتقده. فما لا تحتويه مقترحات كلينتون هي الحسم الواضح والصريح والضروري للسيادة الفلسطينية على الحرم الشريف. وبين اسوأ وأنقص ما فيها عدم الاقرار بمبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين كما الحقوق القانونية المتمثلة في الملكية مع التمييز بين الملكية وبين تطبيق حق العودة عملياً. والاسوأ ان اخراج الرزمة لم يوفر للرئيس الفلسطيني الأرضية التي تمكنه من ابراز الايجابيات فيها بسبب المواربة في معالجة السيادة على الحرم الشريف وحقي العودة والتعويض. والقفز الى اعلان "انهاء النزاع" كنقطة بداية وليس في نهاية تطبيق الاتفاق والخطوات العملية فيه كما يجب منطقياً. وفي كل حال، يوضح ما وصلت اليه عملية السلام من جرد للمواقف يوضح نقاط الاتفاق والاختلاف ويحدد متطلبات ومعالم السلم والتعايش وانهاء النزاع العربي - الاسرائيلي. بهذا يمكن القول ان "عملية" السلام وصلت نهايتها، والآن تبدأ "خلاصة" العملية التي بدأت في مؤتمر مدريد عام 1991 في عهد جورج بوش الأب في اعقاب حرب الخليج الثانية وكانت انجازاً كبيراً لوزير الخارجية جيمس بيكر الذي استثمر تسعة شهور في وضع أسس العملية في مفاوضات مع دول المنطقة وأطرافها قبل توجهها الى مؤتمر مدريد. يجوز القول ان بيل كلينتون ساهم في تقويض عملية السلام في الشرق الأوسط في ترفعه عن تناولها في البدء ثم في رفضه ممارسة الضغوط اللازمة لانقاذها عندما توضحت هشاشتها الى ان خاضها بكل عزم لربما بعد فوات الأوان وتحت ضغوط زمنية مصطنعة. الآن، ومع عودة الفريق الجمهوري عام 2001 الى البيت الأبيض قد تعود قاعدة اعتبار عملية السلام في الشرق الأوسط في صلب المصلحة الوطنية الاميركية. وهذا يعني ان الفريق الخبير بالمنطقة سيبدأ في صياغة تصوره لكيفية نقل عملية السلام الى خلاصتها حتى وهو يبتعد عن التعامل معها أو نقيضها في المراحل الأولى. فإذا ثبت انحسار امكان الاتفاق الثنائي الفلسطيني - الاسرائيلي في الاسابيع القليلة المقبلة، من المنطقي بدء الاعداد لمؤتمر دولي على نسق "مدريد 2" على جميع المسارات، إما لدعم فصل بنّاء للفلسطينيين والاسرائيليين في انسحاب اسرائيلي وقيام دولة فلسطينية أو احتياطاً لفصل لئيم تقوم به الجرافات والبنادق والخنق الاقتصادي.