جاءت مسرحية "السمفونية" التي استهلت بها جمعية الثقافة والفنون - فرع جدة موسمها المسرحي لهذا العام لتطرح سؤالاً لطالما شغل متابعي المسرح السعودي الذي يوصف بأنه يعيش سباتاً شتوياً طويلاً. فمنذ بداياته الأولى ظل يراوح ما بين الثبات والتحرك خطوة واحدة الى الأمام أو التوقف لزمن طويل قبل أن يخطو الخطوة التالية. ما الذي يدعو المسرح التجريبي الى الانتعاش في ظل تأخر ظهور المسرح التقليدي؟ هذا السؤال يبحث عن جزئيات للمقاربة بين المنجز المسرحي في معانيه البسيطة وبين مفهوم التجريب المفتوح على كل المدارس وعلى الأفق المتسع. وما يدعو الى مثل هذا القول، تلك التجارب المسرحية القافزة من هنا وهناك في رغبة ملحة للخروج بالمسرح من أطر الدعابة والتفكه الى فضاءات التجريب والتشابك مع المنجز الانساني في هذا الجانب. هذه القفزات تأتي في واقع مسرحي ما زال جمهوره قابعاً عند بوابات قاعات المسرح التجاري من خلال أشرطة الفيديو بمفهومه الترفيهي والحكائي البسيط. ومن هنا تغدو المحاولات التجريبية نغمة نشاز لدى المستهدف من شرائح الجمهور المتعددة التي دأبت على استقبال نوعيات من المسرح السهل والمتواضع على المستوى القيمي. هذا الجمهور لم تثر ذائقته المسرحية بكم تراكمي أو خبرة مسرحية تمكنه من هضم التجارب المسرحية المتكئة على التجريب والمنعتقة من أسر الحكاية والنكتة. الذين حضروا مسرحية "السمفونية" كان أكثرهم يجلس كمشاهد سلبي أمام تجربة مسرحية تطالب مشاهدها بالتداخل مع العرض المسرحي وفك دلالاته في بناء درامي قام على الحوارية المطلقة متخلياً عن الحكاية كبناء يدخل المشاهد في تفاعل مباشر وتصاعدي. فقد تمدد النص بصورة أفقية معتمداً على المفردة لكي تخلق عالمها في ذهن المتلقي، وهذا يتطلب أن يكون المشاهد ممتلكاً تاريخ المفردة وما تحمله من أبعاد تاريخية وفلسفية ومتزوداً خبرة تمكنه من التعرف الى تضاريس المسرح ومعرفة الجيوب المخبأة بين تلك التضاريس المتباينة داخل النص المسرحي. عالم المسرحية كان بسيطاً ومن غير بهرجة تذكر، فالديكور لم يعتن كثيراً بخلفياته واعتمد على خلق الايهام بعزلة الأنا أمام الآخر هذه النتيجة ربما تخلقها أنت كمشاهد في كوننا نتبادل هذا الفراغ حين ينظر كل واحد منا صوب من يقابله. كان الديكور معتمداً على خلفية تمثل ستاراً أزرق اللون يهتز مع تصاعد نغمة الممثلين في مواقف متعددة ومع اكتشاف لغز من ألغاز الحياة تتقدمه آلات الكمان الثماني التي رصت على شكل نصف دائرة وبأحجام مختلفة، ودائرة تتوسط المسرح تغطيها سلاسل. وحاول المخرج محمد الجفري الافادة من الضوء والظلام والعزف الخارجي على آلة الكمان لخلق مؤثرات تتواصل مع النص في خلق عمق لتلك المفردات التي كان يسكبها الممثلان الرئيسان في المسرحية. تم الاعلان عن العرض من خلال النقر على رق أخذ يجوب به الممثل الثالث المسرحية قامت على ثلاثة أشخاص، اثنين رئيسيين والثالث لخلق التنقلات المطلوبة لتسيير الحوار من موقع الى آخر. ومع دوران الممثل ونقره على الرق كان ثمة جثة تتحرك على أرضية المسرح مستجيبة للنقر، فكلما ارتفعت نغمات الرق توترت حركاتها ومع تهادي النغمة تتراخى تلك الحركات. من هذه المقدمة يظهر لك انك مقبل على عالم سيضج بالابهار. ومع أول حركة حقيقية تصدر على المسرح تجد نفسك وحيداً يتركك النص مع مفردات وحركات متشنجة للممثل عليك ان تتواصل معها وفق ما تمنحه من ذاتك لتلك الحركة والمفردة. ويظل انتقال الحدث - إذا كان هناك حدث فعلاً - مرتهناً لمفصل من مفاصل العلاقة القائمة بين الشخصيتين، فهي علاقة صداقة قديمة تحمل ذاكرة تجمعها نتف من حكاية جريمة تم فيها قتل الحبيبة توصلاً الى قتل الصديق، وان كان الحوار يوصل الى أن الجريمة المرتكبة هي جريمة معنوية، تتشكل من خلال الفزع من اكتشاف ان العمق الانساني يمور بالمواقف المتضاربة وأن الاعماق لا تمتلئ ماء صافياً. ويواصل الحوار ابحاره محاولاً تجسيد علاقة الانسان ومواقفه من الحياة والآخر، وكل شخصية تحمل مفهوماً متقارباً عمن يماثله ويوازيه، ويغدو الداء الانساني مرضاً نتناقله بصورة مختلفة تتحكم في بروزه واختفائه مقدرتنا على التشكل والتلون من خلال اللغة. وتأتي آلة الكمان كعنصر مهم في تشكيل النص المسرحي، فهذه الآلة التي يستخدمها المخرج في تلوين النص هي آلة حاملة للألم. فمع كل مقطوعة وفاصل للحوار تقطع السرد وتدخل الممثلين الاساسيين سجاد الهوساوي وخليل الجهني في منطقة معتمة لاكتشاف عتمة النفس، ليس من خلال العزف وحسب، بل أيضاً من خلال تغير مواقعها على خشبة المسرح، فمرة تنقص اعداد الكمان ومرة يتساقط بعضها ومرة تتحول على هيئة شواهد قبور. هذا التشكل هو محاولة للربط ما بين اللحن في تشكلاته وما بين النفس في تشكلاتها. ويظل المشاهد يلهث للربط بين الدلالات الكثيرة المتناثرة على خشبة المسرح وبين الحوار الذي لم يستطع بناء عالمه بناء يخلق التواصل في فهم محيط النص، بل عليه أن يتخذ جزءاً من ذلك الحوار ليبني حكايته وينطلق بعد ذلك في تعزيز ما أفرزته مخيلته من حكاية يستأنس بها وحيداً. وإن كان الحوار ظل تجريدياً في أحيان كثيرة، إلا أنه نزع في الأخير لبيان موقفنا من الآخر، هذا الآخر الذي يكتشف الممثلان أن وجودهما سوياً وعداءهما المتبادل لوقت طويل لم يكن الا نتاجاً لشخص آخر كان يعبث بمصيرهما وأن من أساسيات اللعبة ان يتم هذا العداء والصراع المتواصل لكي يخرج أحدهما من اللعبة. ويؤكد النص العودة الى القانون الأزلي قانون الغاب حيث البقاء للأقوى وليس للأصلح. هذه الرسالة القديمة كانت هي موضوع مسرحية "السمفونية"، تم حشوها في بناء مسرحي سلك طريق التجريب من غير أن يحسن الممشى الى نهاية النقطة المحدودة له. فقد جاء متوسداً قماشة مستحدثة ولم يتمكن من ملء كل الخانات بالابهار المفترض، ولم يتمكن أيضاً من خلق الشغف والدهشة لدى المتلقي الذي لا تحتمل مخيلته بعداً يقترب من تلك الأجواء فظل تائهاً بين رموز عدة. حاول المؤلف شادي عاشور أن يخلق نصاً مبهراً إلا أن النص غاب في رحلة من الاغتراب جاهد الممثلان في توطينه بأداء راق. و"السمفونية" جهد اكتسب جزءاًَ من الدهشة في البدء وعندما أوغل في التجريد على المستويين اللغوي والدلالي تخشبت العلاقة القائمة بين الممثلين والحضور.