} اغتيل الكاتب الجزائري بختي بن عودة عام 1995 بينما يشاهد مباراة كرة قدم. بعد ستة اعوام على اغتياله تستمر اعمال العنف في الجزائر. هنا مقال يلقي الضوء على افكاره. الحداثة هي الموضوع الجوهري الذي شغل فكر بختي بن عودة الذي كان يشغل منصب استاذ في جامعة وهران. الموضوع اهتم به في الجزائر رجال الفكر وكذلك بعض المنظرين السياسيين من قادة بعض الاحزاب. وكما هو معروف فان الحداثة هي احدى الاتجاهات الكبرى التي تتنازع الفكر العربي المعاصر الى جانب التيارين السلفي والتوفيقي. يرجع اهتمام رجال السياسة في الجزائر بموضوع الحداثة الى الظروف الخاصة التي يمر بها المجتمع الجزائري. فقد برز كرد فعل على تحول التراث الى مطلب سياسي مع صعود الاسلام السلفي الراديكالي. ولهذا كانت "الحداثة" في الايديولوجية الجزائرية، لا سيما عند مؤسسيها من رجال السياسة، مثل رضا مالك والهاشمي شريف، رداً على مقولات الاسلاميين. اما الفكر الحداثي عند بختي بن عودة الذي لم يتطرق الى الاشكالية بوصفه مناضلاً، بل بوصفه فيلسوفاً، فهو لا يدخل في سياق الجدل مع الاسلاميين، او بالأحرى مع الاسلاميين وحدهم. وهذا يعني ان الحداثة عنده ليست مجرد موقف من الدين ومن توظيفاته المختلفة، بل هي تصور عام للمجتمع والفرد والفكر والفن ... وعدم اتخاذ الموقف من الدين، ولا سيما من ممثليه وموظفيه، كمنطلق وحيد او اساسي في معالجته لمسألة الحداثة ادى به الى عدم اعتماده المنهج التاريخاني، المنهج الذي جعل رضا مالك، مثلاً، يرى الحداثة اليوم، في العالم الاسلامي، كصيرورة جدلية انطلقت من المعتزلة والفلاسفة المسلمين العقلانيين لتصل في عصرنا الى أوجها كتحرر للعقل من اللاهوت وكفصل بين الدين والدولة. ويبدو عدم تمركز الفكر الحداثي عند بختي بن عودة حول اشكالية الدين امر له ما يبرره اذا ما اخذنا في الاعتبار حالة الانظمة ذات التوجه العلماني في العالم العربي - الاسلامي، فتجربتها لا تكشف عن تعامل راق مع الحداثة خصوصاً في ما يتعلق بمجال الحريات والديموقراطية. صحيح انه حتى عند الهاشمي شريف ورضا مالك وأركون ايضاً لا تختزل الحداثة الى مجرد جدل مع التراث ومع ممثليه ومستخدميه، لكن هذا العامل يمثل الطرف الاشكالي الاساسي. انه من الملفت للنظر اننا لا نجد ولا مرة في كتاب "رنين الحداثة" لبختي بن عودة ذكراً لابن رشد او للكندي او للمعتزلة وغيرهم، وهم المحاورون الاساسيون عند رضا مالك ومحمد اركون وحتى عند الهاشمي الشريف. لكن في المقابل نجد ان اساتذة بختي بن عودة هم هيجل، كانط، فوكو، دريدا، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، اي ان الحداثة عند بختي تتأسس على قراءة للغرب مباشرة، قراءة افقية، وليس على قراءة عمودية، اي تاريخانية، للذات. فالغرب عند مؤلف "رنين الحداثة" ليس حالة خاصة، ليس هوية، ليس "الآخر" في مقابل "الأنا" انه الحداثة ببساطة. فالغرب كما يقول "موجود في مسامات الجلد وطيات اللاوعي، يميناً وشمالاً، بالرضى وبغيره، في اللمس كما في الحس، الغرب اذاً شمولي وليس بجزئي". نستشف هنا نزوعاً الى رفض ايديولوجيات التوفيق، ايديولوجيات التعامل مع الغرب بانتقاء واختيار. الغرب عند بختي مطلق، كل، حالة عامة، لا مهرب منها ما دام موجوداً في مسامات الجلد وطيات اللاوعي. اي ان الغرب ليس هو "الآخر"، انه صورة تجلي الحداثة. شيء طبيعي ومنطقي عندئذ ان ينتقد النزعات المتجذرة حول الذات، تلك التي تعرب عن نفسها بمفهوم "الأصالة" او "الخصوصية" او "الإنية"، او ما يشير اليه بختي بن عودة ب"القبيلة" وابن خلدون ب"العصبية". في "بيان ضد القبيلة" يقول: "ها هي القبيلة تكشف عن الحنين الذي فيها الى داحس والغبراء، الى الحرب الضروس، تكشف عن الضغينة التي تكسو جلدها، تحرك الخلايا الوحشية فيها، وتمنح لجهلها المزركش شرعية مريضة بمحاربة التحديث والاختلاف". اذاً ايديولوجيات "الأصالة" و"الخصوصية" ليست غير صورة القبيلة القديمة، استمرار ظهور "الآخر" في صورة العدو، محاربة كل ما هو جديد وكل ما لا ينسجم مع هوية "الأنا". بختي يرفض التوفيقية الأفقية، اي التركيب بين "الأنا" و"الآخر"، بين "الأنا" بوصفها خصوصية و"الآخر" بوصفه صورة الحداثة، كما يرفض التوفيق بين الماضي والحاضر، بين التراث والحداثة. فالحداثة عنده لا تتعايش إلا مع نفسها. هي كالجسم الذي يلفظ عضواً غريباً مزروعاً فيه. من هنا رفضه لما يسميه "عشق الترميم والعفو عما سلف"، داعياً الى "وضع مفاهيم الجذرية والقطيعة والخلخلة في مقدمة الاستراتيجيات المؤهلة لكنس آثار القدامة وعبارات الماضوية...". لهذا السبب يضيف بلغته المتميزة قائلاً: "الحداثة ذهاب نحو الموت. فهل الشرقي يقبل الموت؟". الموت المقصود هنا بالطبع هو موت الماضي، لكن ليس كمادة للمعرفة، كذاكرة، لكن الماضي كفاعل مؤثر في السلوك والوجدان والفكر، كهيمنة على الحاضر. الحياة في عالم الحداثة تقوم عند بختي، مثلما هو الأمر عند غيره من الحداثيين الجزائريين على الأقل، على العقل وليس على الروح، على الغرب وليس على الشرق. بذلك تكون حداثة بختي بن عودة امتداداً لفلسفة الأنوار العقلانية. هي كما يقول:"تدريب العقل على مبادئه"، اي تخليص الفكر من الرواسب. يقول في مكان آخر: "ليس هناك فكر غير قابل لأن يكون موضوع تفكير، بل قصدية الموضوع هي ان تكون هذه الأوالية نفسها جوهر التفكير". وهذا يعني انه لا يمكن تصور الحداثة كفكر نهائي ومطلق، كاكتمال يغني نهائياً عن السؤال والجواب. فالحداثة تفكير في نفسها وفي نتائجها، اي انها تجاوز دائم لتجلياتها وتحققاتها، ولهذا يقول: "لا معنى للحداثة اذا لم تكن تساؤلاً حول الحداثة نفسها...". وحول دور السياسي والمفكر المبدع في صنع الحضارة، يؤكد بختي اولوية هذا الاخير، مستشهداً بقول عبدالوهاب المؤدب: "ان الاصلاحات التي تغير المجتمعات لا تصدر عن الحركات السياسية حتى لو كانت متحالفة مع الرعب ... فالعمل الذهني المثابر والصبور والمتمهل هو الذي يجدد المجتمعات. وتراكم الابداعات والعلامات هو الذي يحافظ على الشعوب او يجدد قواها". ولهذا كف التاريخ بالمفهوم الحديث من ان يكون مجرد تاريخ الملوك والحروب، بل صار تاريخ الانجازات البشرية في شتى ميادين المعرفة والفن والاقتصاد والعمران الخ... ولهذا فإن الحداثة في الوطن العربي - حيث الفعل السياسي يعلو على كل شيء - تتوقف على قلب سلم القيم كي يحتل المنتجون الحقيقيون للحضارة المكانة التي يستحوذ عليها رجال الحكم. في السياق نفسه يؤكد ارتباط الديموقراطية بالثقافة، وبالتالي اولوية المفكر على السياسي، قائلاً: "ان الديموقراطية نتاج ثقافي يتربى في وسط يزدان بالألفة والعقل والإنصات والأنوار، نتاج لا يتفوق فيه السياسي على الابداعي مهما ظل منزع الدولة - الأمة، هو صاحب السيادة وصاحب المطلقية...". كيف يمكن تحقيق الحداثة في مجتمع كالمجتمع الجزائري، اي، كما يقول بختي بن عودة، "في مجتمع بدئياً غير متجانس، منفعل وأكول، يتكاثر بسرعة، ينتظر ولا يبدع، يترنح ولا يجرؤ، وتتحكم في تفاصيله البدايات، بدايات الخلق، اي البرمجة الموثوق منها لإرادة الإنسان دائماً". ورذا ما شئنا التبسيط، صغنا قوله على النحو الآتي: "كيف يمكن ان تتحقق الحداثة ويتأسس وعي متحرر من الخرافة وإيجاد المواطن في مجتمع غير متجانس، تحكمه العاطفة وليس العقل، غير منتج، يعتمد على الاستهلاك ويتميز بنمو ديموغرافي سريع، لا يعرف الابتكار، غير واثق من نفسه وخاضع في تفاصيل حياته ووعيه للمكتوب وللقضاء والقدر؟". ذلك هو تشخيص بختي بن عودة للمجتمع الجزائري على ضوء معيار فكره الحداثي. بالنسبة الى مؤلف "رنين الحداثة" ينبغي التفكير في الجزائري خارج مفهوم الخصوصية وحتمية التاريخ، خارج ما يسميه "وهم الدولة الوطنية". وهذا يعني ان تحقيق انسانية الجزائري غير ممكنة خارج اطار الحداثة، لأن هذه الأخيرة ليست غير تحقيق انسانية الانسان.