ظهرت الحداثة كتيار سياسي وايديولوجي مستقل، في الجزائر، بعد أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988 التي تمخض عنها دستور 1989 الذي بمقتضاه تم التحول من الاحادية الحزبية الى التعددية. فالحداثة الجزائرية جاءت بالدرجة الأولى كرد فعل على ظهور الحركة الاسلامية كقوة سياسية أساسية بعد التحول الى الديموقراطية التعددية وظهور مؤشرات اقتراب الإسلاميين من الوصول الى السلطة بعد فوز "الفيس" بالانتخابات التشريعية الملغاة. ويمكن القول بان التيار الحداثي الجزائري انحدر من الأصول التالية: - حزب جبهة التحرير الوطني بالنسبة لرضا مالك الذي كان ينتمي الى الحزب "العتيد"، والذي هو اليوم أحد ممثلي التيار الحداثي. فقد كان السيد مالك من محرري "برنامج طرابلس" 1962 و"الميثاق الوطني" 1976، وهو الميثاق الذي يعبر عن برنامج وايديولوجيا الحزب الحاكم والوحيد آنذاك، والقائم على النزعة التوليفية بين الاسلام والحداثة الايديولوجيا الاشتراكية في ذلك العهد. وقد أدى ظهور التعددية الى انفصال رضا مالك عن "الأفلان" والتخلي عن النزعة التوفيقية ليصبح من دعاة الحداثة. - المصدر الماركسي: إذ أدَّى انهيار الايديولوجية الاشتراكية والمعسكر الشرقي الى تخلي التيار الماركسي الذي كان ممثلاً أساساً في حزب الطليعة الاشتراكية في الجزائر، عن الخطاب الاشتراكي العلمي وتبني الخطاب الحداثي ويمثل اليوم هذه النزعة الحداثية المنحدرة من أصول ماركسية الهاشمي شريف رئيس حزب م.د.س. - المصدر البربري: أي المصدر الذي تبلور حول مسألة الهوية الوطنية. فالحداثية ههنا، بوصفها ترتكز على مقومات كالعالمية واللائكية والعقلانية، جاءت كرد فعل على حصر الهوية الوطنية في العروبة والاسلام، أي جاءت لإحداث نوع من التوازن في التركيبة المرجعية للشخصية الوطنية. ولهذا نجد في اطار هذه النزعة الحداثية دعوة الى ادراج الحداثة كبعد رابع للهوية الجزائرية الى جانب الأمازيغية والعروبة والاسلام. لكن مع ذلك نجد أن الهاشمي شريف، الحداثي المنحدر من الايديولوجيا الماركسية هو الذي نظر أكثر من غيره للعلاقة بين الهوية والحداثة، خصوصاً في كتابه "Algerie Modernite Enjeux En Jeu". والحداثة الجزائرية التي هي نتاج رجال كانوا، ايديولوجياً، ينتمون الى اليسار، يمثلها سياسيون كرضا مالك والهاشمي شريف، وكتاب وأدباء أمثال رشيد مهموني وعبدالحميد بن هدوقة في مجمل أعماله الروائية وواسيني الأعرج في أعماله الأخيرة، لا سيما "منحدر المرأة المتوحشة" و"سيدة المقام" و"مصطفى لشرف في مختلف مؤلفاته، وغيرهم. لكن في هذه المداخلة المتواضعة سنركز بالأساس على مؤلفات الحداثيين السياسيين لأنهم هم أساساً الذين نظروا لإشكالية الحداثة واللائكية التي تهمنا في هذه المداخلة المتواضعة. يشترك الحداثيون الجزائريون في اعتبار اللائكية أساساً رئيسياً من أسس الحداثة. ولهذا يتحدث الهاشمي شريف عن "التوليف بين الحداثة ... واللائكية المتصلة بها" مؤكداً أنه "في ما يخص موضوع اشكالية الدولة، ينبغي حسم النقاش بالضرورة بالفصل بين الدولة والدين..." ويوضح ر. مالك من جهته "بأن" الحركية الاسلامية لا يبدو أنها قدرت حق قدره حجم التطور التاريخي الذي تمخض عنه ذلك التصور لانسانية ذات أساس لائكي هي في صميم الحداثة". ويوضح أن هذه اللائكية "لا تعني ترك التدين، أو تهميش الايمان، بل عدم تدخل اللاهوت، بوصفه لاهوتا، في بناء المجتمع الجديد". كما يرى ملياني أحمد أن "قيام الدولة العصرية ... لا يمكن تصورها خارج احدى خاصياتها الأساسية المتمثلة في فصل الدائرة السياسية عن الدائرة الدينية" ولهذا اقتضت الديموقراطية عند الحداثيين منع الرأي الآخر المؤسس على الدين من الظهور في مجال السياسة. وذلك - كما يضيف أحمد ملياني - أن "... سلوكات ومواقف الأحزاب الاسلامية تبين خطورة المغالطة التاريخية التي بمقتضاها أن الديموقراطية يمكن أن تتضمن الأحزاب الدينية الاسلاموية وأن تدرجها ضمن ديناميكية التناوب على السلطة". واذا كان الحداثيون المنحدرون من اليسار الماركسي مثل الهاشمي شريف يشيدون بلائكية مصطفى كمال أتاتورك ويعتبرونها خطوة رائدة وتاريخية في مسار اللائكية في البلدان الاسلامية، فإن الحداثية التي يمثلها ر. مالك والمنشقة عن توفيقية جبهة التحرير الوطني، تنظر بعين النقد الى هذه التجربة. وذلك بحسب ما يقول مؤلف "التراث والثورة" لأن: "الثورة الكمالية لم تكرس جل طاقتها لتغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتركيا، بل لادخالها بكل قوة الى العالم الأوروبي". وكما تربط الحداثية الجزائرية بمختلف اتجاهاتها بين الحداثة واللائكية فإنها تربط كذلك بينها وبين العقلانية. لذلك يقول الهاشمي شريف، زعيم حزب م.د.س. أنه: "لا وجود ولا يمكن أن توجد سيادة للعقل، ولا ايمان حقيقي، من دون لائكية الدولة". ويدعونا ر. مالك من جهته الى أن "نفهم العالم الحالي كتحول الى عالم العقل. وبتعبير آخر أن نفهمه كحركة الحداثة نفسها". واذا كان ماكس فيبر يؤكد دور البروتستانتية في نشأة الرأسمالية، المنتصرة اليوم، والباحث الجزائري على الكنز يقول إن: "الرأسمالية قد تطورت في الأصل في الوقت الذي عرفت فيه البلدان الأوروبية اصلاحات دينية وربطت التنمية بانتشار الايديولوجية الدينية، و هذا ما حدث في كل من بريطانيا وأميركا الشمالية وهولندا الخ"، مضيفاً في السياق نفسه أنه "نستطيع تسجيل المكانة المرموقة التي يتربع فوقها اليابان داخل الاقتصاد العالمي بالمقارنة مع الصين، في الوقت الذي ربط فيه اليابان ربطاً عضوياً الدين بالدولة وبالمجتمع نجد الصين تعمل المستحيل لمنع ذلك"، فإن الربط بين الحداثة والعقل واللائكية عند الحداثيين الجزائريين قد جعل من نقد الدين - لا سيما من نقد ومنع توظيفاته السياسية والايديولوجية - الشرط الأول للحداثة. فالدين هو الذي يطرح في مواجهة الحداثة وفي مواجهة العقل وفي مواجهة اللائكية. ومن ثمة لا يستغرب أن يطلق مصطفى لشرف قولته المشهورة "الجزائر مريضة بدينها". وعلى رغم أن بعض الحداثيين لا سيما رضا مالك وبدرجة أقل هاشمي شريف يؤسسون حداثتهم اللائكية على تبلور العقلانية وتطورها في التاريخ الاسلامي متخذين من العقلانية المعتزلية والفلسفة الاسلامية محطتين رئيسيتين في مسار العقلانية ، فإنه يمكن القول إنهم ينطلقون ضمنها من الاعتقاد أن التاريخ يعيد نفسه. وهو الاعتقاد نفسه الذي يقول علي الكنز أن الماركسيين العرب قد عملوا به في دراستهم للمجتمعات العربية، ومن ثمة نظرتهم الى "تاريخ البرجوازيات الغربية خصوصاً في بعض فتراته المحددة، على أنه النموذج الأصلي والمرجعي لتاريخ البشرية جمعاء". وهذه "المماثلة والقياس بالغرب" علي حد تعبير على الكنز، هو الذي جعل الحداثيين الجزائريين لا يرون الحداثة والديمقراطية الا مرتبطتين باللائكية لأنها هكذا تتجلى في الغرب. ونتيجة لما سبق، ليس مستغرباً أن نجد الحداثيين بأحزابهم وجمعياتهم ومثقفيهم يقفون في الصف الأمامي في الدعوة الى تبني اللائكية دستوريا والى منع الأحزاب السياسية ذات المرجعية الاسلامية وإلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي فاز بها الاسلاميون. وقد كانوا السباقين كذلك الى تأسيس "التجمع من أجل انقاذ الجزائر" الذي ظهر بعد نتائج الانتخابات التشريعية التعددية. وإذا كان بالطبع لا يمكن ارجاع الأزمة الى مجرد صراع بين اللائكيين والاسلاميين، مسلحين أم لا، فإنه لا يمكن أن ننكر في آن واحد وجود هذا البعد. فالحداثيون كما يؤكدون منذ بداية الأزمة في تصريحاتهم وتحليلاتهم وتحركاتهم ظلوا يدرجون مواقفهم في سياق الصراع بين الحداثة و"الظلامية" أي الاسلاموية والمسلحة منها أو السياسية. وظلوا يعارضون أي حل سياسي للأزمة الى أن جاء الوئام المدني الذي طرح للاستفتاء بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولذلك وصفوا بالاستئصاليين. وقد تعرض العديد من مثقفيهم الى الاغتيال مثل الروائي الطاهر جاعوط، والباحث رابح سطنبولي، والمسرحي عبدالقادر علولة والدكتور جبايلي والفيلسوف بختي بن عودة، ورابح قنزات وغيرهم. وحتى لا نقع في التعميم، يجدر بنا أن نشير الى وجود اتجاه حداثي مصنف ضمن التيار الديموقراطي في الخريطة السياسية الجزائرية وقف ضد الارهاب ولكنه من غير أن يدعو الى الغاء نتائج الانتخابات التشريعية أو الى منع الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية. وهذا الاتجاه الذي كان من أوائل الداعين الى حل الأزمة سياسياً، يقترح، في ما يخص اشكالية الدين والدولة، تعويض شعار "الاسلام دين الدولة" ب "الاسلام دين الشعب"، وعدم الاكتفاء بالفصل بين الدين والدولة بل كذلك بين الجيش والسياسة. وهو المطلب الغائب في أدبيات الاتجاهات الحداثية الأخرى. إن إشكالية الحداثة والتراث التي تطرح في الفكر العربي والاسلامي كموضوع للجدل والنقاش على الصعيد النظري فقط، كانت في الجزائر موضوع صراع قاسٍ ودموي على رغم أنه، وكما سبق القول، لا يمكن اختزال الأزمة الى بعد واحد مهما كانت أهميته. ولأن قضايا الديموقراطية والحداثة واللائكية والاسلام وحقوق الانسان هي قضايا تهم كل البلدان العربية والاسلامية فإن التجربة الجزائرية الحية والمريرة الجديرة أن تكون موضوع تأمل موضوعي وعميق من قبل المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين لا سيما وأن الأوضاع لا تختلف اختلافاً جوهرياً بين بلد عربي وآخر. ولعل الأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو ضرورة تفادي قراءة الواقع الجزائري والعربي بصورة عامة انطلاقاً من نظريات ومنطلقات لا يعصمها بالضرورة صدورها في بلدان غربية متقدمة من الخطأ عند تطبيقها على غيرها من المجتمعات. فالعلم وحده يملك طابع الموضوعية والتجرد والعالمية، لكن النظريات المتصلة بالمجتمع والتاريخ وثيقة الارتباط بالمجتمعات التي تظهر فيها، ومن ثمة لا تصلح دائماً وبطريقة ميكانيكية كأداة لقراءة المجتمعات الأخرى. وهذا يعني أن ما يكون عقلانياً كمنهج واجراء في مجتمع معين قد يؤدي الى نتائج لا عقلانية وربما بالغة الخطورة عند تطبيقه على مجتمعات مغايرة. لهذا يرى علي الكنز "أنه من الضروري والأجدى أن ننطلق في النقد الجذري للايديولوجية العقلانية الحاضرة في عالمنا العربي، مضيفاً أن "تاريخ العالم العربي في القرن العشرين ليس باعادة ولا تكرار لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر". وعليه فإن مسائل الحداثة والديموقراطية والعقلانية واللائكية والدين لا يمكن أن تعطى لها بالضرورة الاجابات الجاهزة نفسها المكرسة في المجتمعات الأخرى أو تناولها بمعزل عن التطور العام للمجتمع لا سيما على صعيد بنيته التحتية، الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية. وهناك سؤال يجدر بنا محاولة الاجابة عنه وهو: لماذا لم يستطع التيار الحداثي، وفي سياق تعددي، أن يتحول من حركة لها وزنها على صعيد النخب الفكرية والايديولوجية الى حركة فاعلة سياسية بوزنها الجماهيري؟ السبب يتمثل في كون الحل اللائكي الذي توصلت اليه البلدان الغربية بفعل تطور داخلي وطبيعي لمجتمعاتها لم يجد الشروط الموضوعية نفسها المناسبة في الجزائر بحكم التطور العام الذي يوجد عليه المجتمع. كما أن الربط بين الحداثة والعقلانية، دون غيرها، أدى الى عدم ادراك أهمية الوجدان، تلك الطاقة التي قال عنها الفيلسوف الفرنسي سان سيمون أن لا شيء عظيم يمكن أن يتحقق بدونها. إذاً أدى "تأليه" العقل أي إيلاؤه سلطة مطلقة عند الحداثين الى فكر نخبوي لا يصل الى وجدان الشعب مما يفسر صعوبة تحول الحداثية الى حركة سياسية فاعلة في سياق ديموقراطي تعددي في مجتمع كالمجتمع الجزائري والاسلامي عامة، أي تعذر تحقيق الحداثية كمشروع سياسي بطريقة ديموقراطية. هذا ما يفسر لماذا يدعو الحداثي الهاشمي شريف مثلا الى تأجيل العمل بمبدأ الاقتراع العام، العمود الفقري للفعل الديموقراطي، الى أن يتم حل مسألة الدولة والمجتمع الحديثين" وذلك لأن "الاقتراع العام مرتبط بالمواطنة، والمواطنة نفسها مرتبطة بالديموقراطية الجمهورية، وهذه الأخيرة ذاتها مرتبطة بالحداثة". وهذا يعني في نهاية المطاف أنه في الوقت الذي يؤكد فيه الحداثيون على اللائكية راهناً، يرون في آن واحد، على الأقل بالنسبة للبعض منهم، أن الديموقراطية ليست موضوع الساعة وليست الطريق المؤدي الى الحداثة. ولهذا يبدو الفكر العلماني في طريق مسدود سياسياً وايديولوجياً. * كاتب جزائري.