نائب أمير منطقة تبوك يشارك الأيتام إفطارهم    ديوانية الغرفة تستضيف مدير عام التعليم بمنطقة تبوك    بلدية محافظة النبهانية تطلق بطولتها الرمضانية لكرة القدم    أمانة تبوك تتيح تقديم ترخيص الخدمات المنزلية عبر منصة بلدي    صور مشرقة ل"كشافة تعليم الطائف" في خدمة المعتمرين بميقات السيل    جستر محايل تشارك فعاليات أطفال التوحد ضمن فعاليات مبادرة أجاويد 3    جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالعيص تنهي برنامج ( أكلفهم ولك أجرهم )    نيوكاسل يتوج بكأس (الكاراباو) بعد غياب 70 عاماً عن البطولات    ‫الأخضر يدشن معسكر الرياض استعداداً للصين واليابان    لوران يريح اللاعبين خمسة أيام    استمرار الجهود الميدانية لفرق هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية في الحرمين الشريفين    وزير الدفاع الأميركي: الولايات المتحدة ستواصل مهاجمة الحوثيين لأسابيع    الخارجية تستضيف رؤساء البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية في رمضان    المملكة تسهم في إحباط تهريب سبعة ملايين قرص مخدر في العراق    محافظ البكيرية يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين "التعليم" و"جمعية الساعي على الأرملة"    ولي العهد يطلق خريطة العمارة السعودية ب19 طرازاً    محافظ الأحساء يرعى حفل تكريم 78 طالبًا وطالبة فائزين بجائزة "منافس"    المملكة تواصل دعم المشروعات التنموية والخدمية وتعزيز الحماية الاجتماعية    مستشفى الأمير ناصر بن سعد السديري بالغاط يواصل حملة "صم بصحة"    محمد نور يتوقع بطل دوري أبطال آسيا للنخبة    الزلزولي خيار جديد على رادار الاتحاد    م.النعيم: التزام المشغلين بحقوق المستهلك 55%    الأثر الثقافي للتقاليد الرمضانية    %43 من الطلاب المعاقين بالمرحلة الابتدائية    ترفيه ومبادرات مجتمعية    تي تي إم تحتفي بإرثها في ملتقيات رد الجميل    متى تحسم درجات المواظبة ؟    أخطر رجل في الجماعة الإرهابية: مرحلة الإمارات (7)    إصلاح قدرات الناتو ضرورة لمواكبة التهديدات المتسارعة    نوتات موسيقية لحفظ ألحان الأهازيج الشعبية    مرسم مفتوح ومعرض تشكيلي في رمضان زمان    العلمانية.. عناصر جديدة لفهم مسارها    «مسام» ينتزع 548 لغمًا خلال أسبوع في اليمن    4.67 ملايين للعناية بمساجد الأحساء    إفطار لصحفيي مكة    طاش مديرا تنفيذيا للمدينة الطبية    321 عملية أورام تعيد الأمل لمرضى جازان    100 متطوع ومتطوعة بحملة صم بصحة    تجديد مسجد العظام المبني في العهد النبوي    نائب أمير نجران يثمَّن جهود الأفواج الأمنية.. ويكرم الطلاب المميزين    الكوادر النسائية بأمانة المدينة.. تعزيز جودة العمل البلدي    مكة في عهد الوليد بن يزيد.. اضطرابات سياسية وتأثيرها على إدارة الحرم    أمير منطقة جازان يعتمد نتائج الفائزين بجائزة جازان للتفوق والإبداع    الهلال يخسر لاعبه في الديربي أمام النصر    وسط تشديد الحصار واستمرار المساومات حول عدد الأسرى.. 2.4 مليون إنسان يقتلهم الاحتلال ببطء داخل غزة    التزام راسخ بتعزيز الأمن والاستقرار في العالم.. ولي العهد.. دبلوماسية فاعلة في حل الأزمات الدولية    «المداح.. أسطورة العهد» مسلسل جديد في الطريق    ولي العهد يبحث مستجدات الأحداث مع رئيسة وزراء إيطاليا    بمشاركة حكومة دمشق لأول مرة.. المؤتمر الأوروبي لدعم سوريا.. ماذا يريد الطرفان؟    سفيرة المملكة في فنلندا تدشن برنامج خادم الحرمين لتوزيع التمور    الأذان.. تنوعت الأصوات فيه وتوحدت المعاني    وغابت الابتسامة    الصحة تجدد التزامها بحماية حقوق المرضى    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بعد الحداثة كنقد لاذع للحداثة
نشر في الحياة يوم 26 - 05 - 1999

لم يعد الفكر العربي في منأى عن ما بعد الحداثة، لا من حيث انتشار معالم هذا الأخير، بل من حيث أن كوكبة من النقاد العرب أصبحت تدين به كمنظور فكري. ولا شك أن معظم هؤلاء يقع في دائرتي الابداع والنقد الأدبي، إلا أن هناك اليوم رموزاً فكرية عربية لما بعد الحداثة من أبرزهم، على الأقل، علي حرب في لبنان، وعبدالسلام بنعبدالعالي في المغرب، وعبدالله الغذامي في السعودية.
في سباق مع الزمن، يجد الفكر العربي نفسه في كل مرة أمام ضرورة الركض إلى الأمام لمتابعة المستجدات الفكرية في الغرب ومحاولة استيعاب أسسها ومقوماتها. فنحن على المستوى التاريخي ما نزال نراوح على عتبات الحداثة، وعلى المستوى الفكري العمومي نعيش فصاماً وخليطاً ثقافياً، لكننا على مستوى النخبة الفكرية لا نخلو من طليعة وريادة تواكب آخر تحولات وانعطافات الفكر في الغرب من دون أن يعني ذلك ان زمننا التاريخي، وزمننا الفكري قفزا على حتمياتهما وعلى موقعيتهما ومحدداتهما التاريخية.
يقدم ما بعد الحداثة نفسه ك"ما بعد"، أي كتجاوز وتخطٍ للحداثة في صورتها الكلاسيكية، وكقطيعة مع الحداثة كمرحلة وكموقف تم الاستغناء عنهما. إلا أن التحليل المعمق يبين أن ما بعد الحداثة موقف ذو وجهين:
فهو في الظاهر، قطيعة، وانفصال، وجدة، وتجاوز. لكنها، في ديناميتها العميقة، استمرار للحداثة، ومواصلة لها، ووفاء لمنطقها، وتعميق لروحها كقطيعة وتجاوز مستمر لذاتها، وكتجذير لاسلوبها العدمي.
وما أريد التركيز عليه هنا هو المظهر الأول لما بعد الحداثة كمنظور يقوم أساساً على نقد "الأوهام المباطنة للحداثة".
يبدأ ما بعد الحداثة بنفي الطابع المطلق الذي تريد الحداثة أن تضيفه على نفسها، فتعبتره مجرد لحظة تاريخية وفكرية كغيرها من اللحظات، فهي ذاتها تقليد وتراث من بين تقاليد عدة، وليست هي طليعة البشرية، أو لحظتها النهائية المثلى. بل ان لها كالتقليد ذاته مشروعيتها الداخلية الخاصة وغناها الخاص اللذين لا يمكن تعميمهما كما لا يمكن اختزالهما.
يأخذ ما بعد الحداثة على الحداثة تنصيبها للعديد من الأصنام: التقدم، العقل والعقلانية، غائية التاريخ، الايديولوجيات والحكايات التفسيرية الكبرى. التاريخ البشري ومن خلاله التاريخ المحلي. وفي المنظور الحداثي سيرورة عقلانية حتمية وغائية تحكمها الإرادة الإنسانية وتوجهها عبر خط تاريخي متصاعد، نحو تحقيق الأهداف الكبرى للبشرية، المتمثلة في تحقيق الحرية، والعدالة، والمتعة، والسيطرة على الطبيعة وترويضها لمصلحة الإنسان، ومصالحة الإنسان مع نفسه.
لكن هذا التصور، تبين في ضوء تعرجات التاريخ المعاصر، انه مجرد حلم، ومثال لا يعكس الواقع في شيء.
فالتاريخ البشري ليس خطياً، ولا بسيطاً، بل هو تاريخ ملتوٍ ومتعرج، كما أنه ليس تقدماً خالصاً، فهو يعمق السيطرة في الوقت الذي يحقق فيه قدراً أكبر من الحرية. وهو أيضاً تاريخ الرغبات والأهواء والانفعالات والمكائد والمصالح، في الوقت الذي يقدم نفسه كتاريخ يحكمه العقل والعقلانية، والقيم الاخلاقية المثلى. وعلى رغم ان ما بعد الحداثة يعيب على الحداثة أوهامها ونسقيتها وانغلاقها ونرجسيتها المعيارية، فإنه هو ذاته لا يدخر جهداً في سبيل استكمال نظرته وإضفاء طابع الشمولية عليها.
يقف ما بعد الحداثة على المستوى المعرفي ضد يقينيات الحداثة، وضد عقلانيتها الصارمة والمفرطة، وضد تصورها المطلق للحقيقة ال - حقيقة وضد سيادة منطق بل ميتافيزيقا الهوية، داعياً إلى اللايقين In-certitude، ممجداً الاختلاف والانزياح والتأجيل، ذاداً عن النسبية والنسبوية، مولياً الاهتمام للسياق، وللتناص، والمسارب والانفتاحات، والهوامش والشقوق، رافعاً الشكل إلى مستوى المضمون والدال إلى مستوى المدلول، والسطوح والثنيات إلى مستوى الأعماق. وعلى المستوى القيمي مجد ما بعد الحداثة قيم التسامح ضد قيم الانغلاق والتعصب، وقيم التعدد ضد قيم الوحدة الصاهرة، وقيم الاختلاف ضد أشكال القهر والاختزال التي يمارسها مبدأ الهوية، والحرية ضد مظاهر الانضباط التي هي الوجه الفولاذي للعقلنة، والنزعة إلى ثقافة السلم ضداً لثقافة الحرب التي هي المستنقع الذي تعيش فيه ضفادع البيروقراطية السياسية، وتحقق عبره هيمنتها الشاملة على المجتمعات بدعوى حمايتها من العدوان الخارجي.
في المستوى السياسي يميل المنظور ما بعد الحداثي نحو تمجيد الديموقراطية كترياق ضد العنف، ونحو حقوق الإنسان كدرع واقٍ من الاستبداد السياسي الممارس على الفرد المنسحق في المجتمع المعاصر.
الثقافة السياسية التي يدعو إليها ما بعد الحداثة هي ان الاجماع هو مجرد اسطورة سياسية ذات مفعول سلطوي. وبالتالي فإن من الضروري مناهضته والقبول بتوافقات وتراضيات جزئية، وبإقامة أنوية تضامنية، وتدبير الاختلاف السياسي باعتباره أمراً واقعاً ضرورياً ومقبولاً.
كما تناهض اتجاهات ما بعد الحداثة الايديولوجيات الكبرى المفسرة والمعبئة الهيغلية - النزعة الوضعية - التصور اليهودي المسيحي للتاريخ - الماركسية - النزعة التقدمية الساذجة المنحدرة من عصر الأنوار - النزعة التطورية - الاشتراكية...، وهي المنظومات التبريرية واليوتوبية المؤطرة ايديولوجياً للممارسة السياسية التي هي في عمقها ممارسة براغماتية ومصلحية مزركشة بالايديولوجيات الخلاصية والتي هي بدورها مجرد انشوطات سياسية بيد سادة الحقل السياسي ومستثمريه.
والنموذج الأمثل للحكايات الاسطورية الكبرى المؤسسة للحداثة هو حكاية الأنوار التي تصور التاريخ البشري كملحمة تتجه نحو تحقيق التقدم بسبب تطور العلوم والتقنيات، وبفضل تعميم التعليم الذي هو القوة الضاربة ضد النزعات الظلامية. هذه الحكايات الكبرى، حسب جان فرانسوا ليوتار، فيلسوف ما بعد الحداثة في فرنسا، سواء كانت أساطير أم حكايات تاريخية، تهدف إلى إضفاء المشروعية على السياسة والاخلاق وعلى كل الممارسات الاجتماعية. كما تهدف إلى تعبئة التاريخ في اتجاه الوعد بتحقيق المجتمع الكوني المتحرر والعقلاني.
لكن ما بعد الحداثة لا يسلم هو ذاته من النقد والتجريح. فهو بالنسبة إلى نقاده مجرد حساسية جديدة غير متحددة الملامح ولا يمتح هويته إلا من خلال معارضته لبعض ملامح الحداثة.
كما أنه تخلٍ عن أجمل شعارات الحداثة ومطامحها في انجاز الكونية وتحقيق التقدم، وسيادة العقل، من أجل الدفاع عن الخصوصية والنزعات اللذية والجمالية، والميولات المحافظة التي تعكس استقرار مجتمع الاستهلاك والوفرة.
هكذا يبدو ما بعد الحداثة، الذي هو على النقيض من الحداثة الظافرة وذات الطابع الثوري في بداياتها، يبدو وكأنه نكوص نحو مراحل سابقة من تاريخ البشرية، كانت تسودها ثقافات تقليدية متنوعة، ومحافظة ومغلقة على بعضها من دون تواصل أو انفتاح.
إلا أن سدنتها يردون بأن الحداثة عندما حاولت توحيد الإنسانية عبر قيم كونية منذ عصر النهضة مروراً بالأنوار والثورة الفرنسية، والثورات العلمية والتكنولوجية، فإنها اتخذت الكونية ذريعة لتعميم ونشر الثقافة الغربية، باعتبار أنها تمثل النموذج الأمثل للثقافة الإنسانية المتقدمة... وبالتالي فإن مُثل الحداثة لم تكن إلا قناعاً جميلاً يخفي وراءه الاستعمار واستغلال خيرات الشعوب ونهب أراضيها، وكذا الغربنة التدريجية للكون كله.
* كاتب من المغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.