البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    منع تهريب 1.3 طن حشيش و1.3 مليون قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثون عاماً من الغياب والتجاهل والظلم 1923 - 1971 . توفيق صايغ شاعر الحداثة الأولى عاش منفياً ومات بلا ورثة
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2001

في 3 كانون الثاني يناير وجد الشاعر توفيق صايغ ميتاً في مصعد المبنى الذي كان يقطنه في كاليفورنيا الولاية الأميركية التي كانت بمثابة منفاه الأخير. بعد ثلاثين عاماً على رحيله كيف تبدو صورته شاعراً رائداً ومؤسساً؟ ومتى يرفع عنه الظلم الذي حلّ به طوال حياته وبعد مماته؟
الأعوام الثلاثون التي مضت على رحيل الشاعر توفيق صايغ كانت كافية ربما لتدفع به الى هاوية النسيان. غاب هذا الشاعر غياباً مأسوياً مثلما عاش حياة مأسوية. مات وحيداً مثلما أمضى سنواته غير الطويلة 48 سنة وحيداً كل الوحدة ومنفياً في أعمق معاني النفي. على أن ذروة غيابه تكمن في هذا "التناسي" الذي لقيه بُعيد موته وما فتئ يلقاه وكأنّه لم يترك وراءه أثراً أو كأنّه لم يكن ذلك الشاعر الطليعي والمؤسس وذلك المثقف الكبير والناقد والأكاديمي، بل كأنه أيضاً لم يكن ذلك الشخص المضطرب الذي زرع "الفتنة" الجميلة في سرائر معظم الذين كانوا من حوله شعراء أو كتاباً أو أصدقاء. أما الظلم فيبلغ أوجه في تجاهل توفيق صايغ كيلا أقول في حذفه من معركة الحداثة التي خيضت في الستينات وكان هو أحد فرسانها الأصليين. لماذا لا يُذكر مع الأسماء التي تذكر وحدها دوماً هو الذي كان سبّاقاً الى كتابة القصيدة النثرية التي ما برحت تملك فرادتها اللغوية والأسلوبية؟
ظُلِم توفيق صايغ في حياته كثيراً وكان بحق مثال "الشاعر - الضحية" الذي بذل دمه وعبر عالمه كالطيف غريباً ومنفياً. وفي مماته ظلم توفيق صايغ أيضاً وربما أكثر مذ وقع في مزالق التناسي والتجاهل والاجحاف... ولولا إقدام صديقه رياض الريّس على جمع أعماله الشعرية الكاملة واصدارها قبل عشر سنوات وتبنّي كتاب محمود شريح عنه وهو بمثابة السيرة الأولى التي تكتب له، لكان ابتلعه ذلك الظلام الذي يتحدّث عنه في مفكرته قائلاً: "لم أكن أعمى، كل ما في الأمر أن كلّ ما من حولي سواد". هكذا عادت دواوينه الى الرفوف وكذلك ترجماته القيّمة لتطلّ من هناك على المعترك الشعري ولكن إطلالة خفرة وصامتة. وكان من المفترض حينذاك أن تكون عودة توفيق صايغ أشبه بالحدث الشعري حتى وإن اختلفت الآراء فيه. تُرى متى لم يكن شاعر "الكركدن" شاعراً إشكالياً؟ أليس هو شاعر الصراع الأزليّ في قضايا الموت والحياة والايمان والحب والمنفى؟
كان توفيق سبّاقاً الى كتابة قصيدة النثر العربية لكنّ قصيدته ظلّت أسيرة البداية، بداية هذا النوع الشعريّ الجديد. حتى هو نفسه لم يشأ أن يطلق على قصيدته اسم "قصيدة النثر" بل كان يسمّيها "شعراً خالياً من الوزن والقافية". لم يسمّ شعره أيضاً شعراً منسرحاً بحسب عبارة أمين الريحاني في ديوان "هتاف الأودية" ولا نثراً شعرياً وفق ما سعى اليه جبران خليل جبران أو فؤاد سليمان وسواه من ثمّ. كان توفيق يدرك أنه يكتب قصيدة جديدة مبهمة الملامح وغير منغلقة على نوع دون آخر. قصيدة هي على قدْر كبير من الحيرة: ترفض العروض ولكنها لا تتخلى عن بعض القوافي حتى وإن اقتربت من السجع الشعري. وتستسلم لإغراء النثر الحر ولكن من دون أن تهجر التراكيب اللغوية الكلاسيكية أو التقليدية. وما كان أغرب حماسة سعيد عقل الشاعر الكلاسيكي المحدث إزاء "ثلاثون قصيدة" ديوان توفيق صايغ الأول الصادر في العام 1954. الشاعر الذي يرفض الفصل بين الشعر والوزن ويناصب قصيدة النثر والشعر المنثور أيّما عداء يوافق في ذروة مجده أن يقدّم هذا الديوان الغريب الذي لم يألف الشعرُ العربي ولا النثرُ العربي ما يماثله ويوازيه. ورأى سعيد عقل في ديوان صايغ "خلجات" و"دماً دافقاً وناراً". وقال: "إنه مزيج من شبق ولاهوت، من كشف علمي وخطيئة وبراءة ملائكية أولى". وكم أصاب سعيد عقل في وصف الشاعر الشاب: "أجرأ الأقلام المشرقية هذا الفتى المضطرب، المحرور العينين. انه يقوم بعمل عجب: من عجم الفكر ومن الباسه ثوباً فريداً...". ولم ينجم إعجاب سعيد عقل بهذا الصوت الشاب إلا من لمسه بعضاً منه في قصائده وخصوصاً تلك التراكيب اللغوية الصعبة التي لا تخلو من الكلفة والمراس دُناي الفراغُ، كالبرقة لمعاناً وخطفاً، حلم مرّ وزال، مولدُ الحمرِ / الورود.... ولعل مثل هذه التراكيب تنتمي الى الشعر الموزون والمقفّى أكثر مما تنتمي الى قصيدة النثر. وهي سترد كثيراً في قصائد توفيق صايغ اللاحقة. غير أن ناقداً حصيفاً مثل مارون عبّود لم يتوان عن ابداء اعجابه بمضمون هذه القصائد آخذاً عليها خلوها من الوزن. ومما كتب مخاطباً الشاعر: "لو ضممت الى صوفيتك المتمردة وفكرتك العنيفة موسيقى الشعر واهتزازاته لكنت الشاعر الأول".
أحدث ديوان "ثلاثون قصيدة" صدمة ما حين صدوره في العام 1954 وخصوصاً عندما رحّب به بعض الشعراء والأدباء "المحافظين" ومنهم أيضاً سعيد تقي الدين الذي قال حرفياً: "لقد صرعني هذا الكتاب". علاوة على الشعراء الجدد ومنهم جبرا ابراهيم جبرا وأنسي الحاج... على أن الصدمة تعني أكثر ما تعني أن ديوان "ثلاثون قصيدة" ظلّ مثار سجال لم ينته بل هو لم يلبث أن شمل أعمال توفيق صايغ الشعرية اللاحقة وخصوصاً ديوان "القصيدة ك" 1960 و"معلّقة توفيق صايغ" 1963. وبدا شعر صايغ منذ الديوان الأول "نسيج وحده" كما يقال وكما عبّرت سلمى الخضراء الجيوسي. وفرادة هذا الشعر دفعت به الى التحرر من أسر المدارس والأنواع وجعلت تقليده صعباً. ولعل هذا ما زاد من "وحدة" أو "عزلة" هذا الصنيع الشعري. قصائد نثر هي الأولى من نوعها ولكن لا أبَ لها ولا أبناء، لا أرومة ولا سلالة. قصائد نثر خالية من الطلاوة والنداوة والانثيال والرومانطيقية وسواها مما ميّز النثر الشعري الذي برز في الثلاثينات والأربعينات. قصائد تمثل ما يسميه كمال خير بك "المذاق الأول لما يجب أن يكون عليه الشعر الحديث". كان ديوان "ثلاثون قصيدة" فاتحة هذه التجربة الحديثة التي سرعان ما انضم اليها جبرا ابراهيم جبرا في ديوانه "تموز في المدينة" الصادر بعد خمس سنوات أي سنة 1959. وكم بدا هذان الشاعران متشابهين شعرياً على رغم اختلاف تجربتيهما الواحدة عن الأخرى. فجبرا ظل مثل توفيق صايغ شاعر بدايات الحداثة فيما كان كناقد في طليعة الحركة الحديثة. ولعل سلمى الخضراء الجيوسي تعبّر خير تعبير عن فرادة "بداية" توفيق صايغ إذ تربطها بالخصائص الحداثية وليس بالخصائص الحديثة. وهي إذ تصرّ على تسمية "ثلاثون قصيدة" ب"الشعر النثري الطليعي" تؤكد انتماءها الى الشعر "الحداثي" في مرحلة كان الشعر العربي يطمح الى أن يكون "حديثاً". فمفهوم الحداثة الشعرية آنذاك لم يكن تخطى حدود الصراع على نظام التفاعيل الجديد أي ما يسمى "الشعر الحر". وكان ينبغي انتظار شعراء مجلة شعر 1957 ليتجلى المفهوم الحداثي للشعر ولتتبلور قصيدة النثر نظرياً مع أدونيس وشعرياً مع أنسي الحاج ومحمد الماغوط. علماً أن توفيق صايغ لم يكن غريباً عن مجلة "شعر" لكنّه لم يكن من شعرائها. وهذا ما عبّر عنه يوسف الخال عندما كتب عن صايغ غداة وفاته قائلاً: "تحاببنا ولكن على خصام وتلاقينا ولكن على افتراق".
لعل عبارة "نسيج وحده" تليق تماماً بشاعر مثل توفيق صايغ: صوت شعري خفيض وخافت ليس هو إلا صوت الشاعر - الضحية الذي كان توفيق صايغ بامتياز. لكنه صوت قاس وان كان مجروحاً. وهذه القسوة رافقت قصائد الشاعر ولم تفارق تجربته ككل. وكان ميخائيل نعيمة من أوائل الذين أشاروا اليها حين كتب عن صايغ قائلاً: "رافقتك عبر الوهاد والحزون والآجام التي تسلكها... فتعبت. أجل تعبت. وكنت أودّ لو تكون سياحتي معك نزهة ونشوة. وأنت يا أخي شاعر وفنان حتى وإن أتعبني السير في وهادك ونجادك". وهذه القسوة عبّر عنها أيضاً أنسي الحاج عندما كتب قائلاً: "تابع توفيق طريقاً واحداً في قول الشعر: طريق الحصى والشوك والوعر... كان يرفع الكلام كمن يرفع الصخر". ومضى أحد النقاد في مهاجمة توفيق صايغ حين لم يتمكن من استيعاب هذه القسوة أو الوعورة الشعرية قائلاً: "أبعدوا هذا الطنين عن أذني، انه نشاز غريب وصفاقة هجينة". ولعل هذه المآخذ على شعر توفيق صايغ هي الخصائص التي تميز هذا الشعر الفريد والغريب والوعر والقاسي الذي لم يُعرف له نظير في الحركة الشعرية المعاصرة.
ليس من السهل قراءة توفيق صايغ. لا اغراء هنا أياً كانت طبيعته، ولا سلاسة ولا صور شعرية ولا نداوة ولا سحر ولا إيقاع يتهادى ولو داخلياً. فالشاعر "يقتحم اقتحاماً" كما يقول سعيد عقل في مقدمته، وهو إذ يقتحم الشعر والحياة معاً إنما يؤثرهما عنيفين: "حياتي تَلاحقُ نارٍ ونار" يقول توفيق صايغ. ويشبّه نفسه ب"الديوان" الذي "لا شعر فيه". ويعترف في مفكرته أنه شاعر مكسور و"يجب أن ينجبر" وانه "فينيق هرم" والقصيدة من "رماده". يبدو شعر توفيق صايغ إذاً غريباً عن الشعر مثلما هو غريب عن النثر أيضاً. غريب في معنى الغربة عن فن الشعر وليس عن جوهره، عن النموذج الرائج والثابت وليس عن الروح الشعري. وإن أمكن استخلاص ما يمكن تسميته "تقنية" شعرية ما من قصائده جميعاً فإن هذه "التقنية" تظل خاصة به وحده. وهي قد تكون أسلوباً أكثر مما تكون تقنية، أسلوباً وربما طريقة في التعبير الشعري. فالشاعر قادر كل القدرة على الجمع بين عفوية التعبير والصفة اللغوية، بين تلقائية الكتابة والمراس الصعب. ولا يدري القارئ كيف يستطيع الشاعر أن يمضي في النقيضين معاً: يعبّر بحرية الى حد المباشرة عمّا يجيش في قلبه ويصقل في الوقت نفسه عباراته وجمله صقلاً فيه الكثير من القسوة. ها هو على طريقة أنبياء التوراة يرثي حياته ويخاطب بارئه مخاطبة "قلبية" وعفوية قائلاً: "طويل ومعتم طريقي اليك..." أو: "أسعى ولا كأس، اتعكّز ولا محجة" أو : "كان عليّ أن أجوب الديار الموحشة/ وأسكب في النهر دموعي..." أو: "أنت الذي حكمت عليّ بالنفي/ وعيّنت في المنفى منازلي...". وها هو على طريقة الشعراء "المتحذلقين" يبالغ في الصنعة أو الرصف، كأن يكتب: ل"غير يدها، يدٍ"، أو: "لا لأنكِ شختِ: ففي اغبرار الذوائب وقار/ وللتجاعيد فعلٌ قصّر عنه الغضوض". ولا يتوانى الشاعر عن استخدام بعض المفردات والأفعال الغريبة والمستهجنة شعرياً وبعضها ذو جذر عاميّ: توعوعُ، تُنشْوقُ، تشعطُ، صرصعتُ، يهبّش، تشحشطُ، نطنطَ، حسمسَ، تقربظَ، قوقأ، عرقبَ، معمسَ... ويستخدم أيضاً بعض التراكيب النحوية الثقيلة الوقع من مثل: لوهبتكها، عرّفتكها الأقاصيص، ما الذي حمّلكها... على أن جمع توفيق صايغ بين هذين الاتجاهين العفوية والصنعة يرسّخ ازدواجية الانتماء الشعري الذي تميّز به: شاعر حديث ولكن ذو جذور كلاسيكية. وازدواجيته هذه تؤكّد طليعية مشروعه الشعري الذي هو بحق المشروع الحداثي الأول في حركة الشعر العربي المعاصر. ولعل اصراره على التقفية عدد غير قليل من القوافي داخل القصيدة النثرية من غير أن يعتمد مقاييس العروض، يدلّ على هاجسه الكلاسيكي الذي كان قيد التلاشي. فما أغرب أن تحضر القافية في قصيدة متحررة تماماً من أسر العروض التقليدي والحديث.
شعر واحد
كتب توفيق صايغ الشعر في مراحل متقطعة خلال قرابة 15 سنة بين مطلع العام 1950 ونهاية العام 1970. وقصائده الأولى مثل قصائده الأخيرة لم ينشرها خلال حياته واكتفى بدواوينه الثلاثة: "ثلاثون قصيدة" 1954، "القصيدة ك" 1960 و"معلّقة توفيق صايغ" 1963. لكن شعره ظلّ هو نفسه لغة وملامح و"أساليب" أو "مقاربات". حتى قضاياه الوجودية الميتافيزيقية والشخصية ظلّت تدور حول المحاور الثلاثة التي يمكن اعتبارها أشبه بالثوابت الشعرية لديه: الله أو الماوراء في تجلياته المختلفة، المنفى في معانيه المتعددة: الجغرافي والتاريخي والروحي، السيرة الذاتية وفي مقدمها معاناة الحب الأليم مأساة علاقته بالفتاة الانكليزية كاي. والمحاور أو الثوابت هذه لم ينفصل بعضها عن بعض في أي قصيدة أو مرحلة، بل تداخلت جميعاً وشكّلت فضاء التجربة الفريدة التي خاضها. هكذا تبدو الدواوين الثلاثة وضمنها الديوان الذي جمع بعد وفاته تحت عنوان "صلاة جماعة ثمّ فرد" كأنّها ديوان واحد يتوزّع على مراحل زمنية أو شخصية بالأحرى. فهذا الشعر شخصي بامتياز، شخصي وذاتي حتى وإن بدا يخفي ثقافة شعرية راقية وخبرة نقدية متميزة. فالشاعر كان سبّاقاً أيضاً في بلورة هذه النبرة أو النزعة الشخصية في الشعر الحديث. وبعده سيواصل هذا النهج شاعر مثل محمد الماغوط ولكن عبر أسلوب آخر. ولعل قصيدة "من الأعماق صرخت اليك يا موت" ستكون فاتحة هذا الشعر الذي سيكون له أثر في قصائد كثيرة لاحقة يكتبها شعراء أعقبوا توفيق صايغ. هذه القصيدة لم تتوان سلمى الخضراء الجيوسي عن اعتبارها "ذروة شامخة في شعرنا المعاصر" على رغم التطويل الذي وقعت فيه. ويجب ألا يغرب عن الذاكرة أن توفيق صايغ أقدم خلال سنواته الشعرية على وضع أول انطولوجيا للشعر الأميركي المعاصر في اللغة العربية في العام 1963 وهي لا تزال مرجعاً مهماً وفيها كتب الشاعر القصائد بالعربية أكثر مما ترجمها. أما الحدث الثاني فتجلّى في ترجمته "رباعيات أربع" للشاعر ت. إس. إليوت 1970 ترجمة بديعة وقد أشفعها بمقدمة هي عبارة عن دراسة عميقة وعلمية.
ولئن لم يكن توفيق صايغ غريباً عن الشعراء العالميين الذين "عرّبهم" أو قرأ أعمالهم وما أكثرهم ومنهم إليوت وباوند وشكسبير وغوته وويتمان ورامبو ومالارمه وفاليري وريلكه...، فهم لم يتركوا آثاراً بيّنة في شعره مقدار ما تركت مثلاً قراءته الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد. وهو أصلاً كان وضع بحثاً جامعياً تحت عنوان "التوراة كأدب" وكان له من العمر إحدى وعشرون سنة، ونمّ هذا البحث الذي لم ينشر أسوة بمقالاته الكثيرة عن موهبته النقدية الكبيرة التي راحت تتجلى في كتاباته اللاحقة. ولم يتوان جبرا عن القول عنه "أبرع وأعمق ناقد عرفته العربية من دون منازع". ومَن يرجع الى "مذكراته" وقد سمّاها "عن فلان: شبه سيرة ذاتية" يلتمس فيها وجه المثقف الكبير والقارئ النهم. ففي تلك المذكرات يدوّن جملاً ومقاطع اختارها من الكتب التي قرأها وهي تعبّر عن أفكاره وعن أحواله ومواقفه. ومن الأسماء التي ترد: إليوت، بودلير، بافيزي، كيركيغارد، القديس انطونيوس، سفر الجامعة، حزقيال، كافكا، رامبو، أغوسطينوس، بريخت، هنري ميلر، ريلكه، ماياكوفسكي، بيكيت، أيوب، إرميا وسواهم وسواهم... ويمكن حقاً رسم صورة ذاتية للشاعر من خلال هذه الجمل التي اختارها وترجمها. وفي بعض قصائده وظّف ثقافته الفلسفية و"الاسطورية" مستوحياً شخصية فاوست الذي وقع معاهدة مع الشيطان يتحدث صايغ عن ضرورة التقاء الله والشيطان فيه كي يتمكّن من كتابة الشعر وكذلك شخصية كريلانس القائد الروماني الذي كان استوحاه شكسبير، وشخصية افروديت الاغريقية. وهناك أسطورة "الكركدن" وقد تنافس فيها مع الكاتب المسرحي أوجين يونسكو الذي كتب مسرحية في هذا العنوان صدرت في العام 1963 أي في العام نفسه الذي نشر توفيق صايغ قصيدته الشهيرة: "بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن". لكن تأويله لهذه الأسطورة يختلف تماماً عن تأويل يونسكو.
وإذا بدا نتاج توفيق صايغ الشعري على قدر من الضآلة إذ لم يتخط الدواوين الثلاثة مبدئياً فإن هذا النتاج يحفل بما يجعله نتاجاً إشكالياً وطليعياً و"حداثياً" وليس حديثاً فقط. فالأسئلة والقضايا التي قامت عليها الحداثة لاحقاً تكمن بذورها في هذا النتاج المضطرب والحائر والقلق والذي استطاع فعلاً أن يمهّد الطريق للثورة الشعرية المقبلة. وفرادة هذا النتاج الشعري تتمثل في عدم القدرة على تقليده. فهو يمنح مفاتيح ولكن لا يمنح نماذج أو مثالات. ولعل هذا ما زاد في انغلاقه على نفسه وعلى ملامحه و"حداثته" الخاصة. نتاج شعري شخصي جداً يحاور العصر لا ليتأثر به بل ليجعله صورة عن جوهره وهو جوهر الوجود القائم على الصراع الأزلي والمأساة الأبدية. فالشاعر عاش حياته وشعره معاً كحال من الصراع المأسوي الذي لم تنتصر فيه حياته ولا شعره بدوره. فهو ما إن يعترف أن مأساة حياته حبه الأليم أعادت اليه الشعر حتى يجاهر في احدى رسائله الى جبرا في العام 1966: "ليتني ما زلت أعرف أن أكتب الشعر. لكن في قائمة الخسائر، للشعر مقام أوّليّ...". ويقول في احدى قصائده الأخيرة التي لم تخل من اليأس: "قلمي جفّ. جننت". أما حال الصراع المأسوي هذه فعرفها توفيق صايغ كانسان مقتلع ثم كشاعر منفي أقصى حالات النفي. فهو سوري المولد، فلسطيني الانتماء، لبناني الهوى،مثقف عربي مغترب يظنه اليمين يسارياً واليسار يمينياً... كان توفيق صايغ كل هؤلاء معاً ولم يكن أياً منهم. وإن اعتبره البعض فلسطينياً مثلما أدرجته سلمى الخضراء الجيوسي في موسوعة الأدب الفلسطيني فهو لا يندرج في سياق الأدب الفلسطيني الذي عُرف - أكثر ما عُرف - كأدب مقاومة. علماً أن فلسطين لم تفارق أبداً ذاكرته ولا وجدانه ولا مخيّلته. لكن توفيق صايغ لم يستطع أن يناضل كشاعر مثلما ناضل كمثقف وأكاديمي. ولم يستطع كذلك أن يذيب تجربته الذاتية والفردية في التجربة العامة والجماعية ولا العكس أيضاً، بل هو كتب "شعراً شخصياً في عصر التوجهات الجماعية، وشعراً شمولياً في عهد الشعر الوطني..." كما تعبّر سلمى الخضراء الجيوسي. وتخلّى كذلك عن اللهجة البطولية والنبرة النضالية والحماسية مدركاً أن الشاعر ضحية وليس بطلاً، كائن مقتلع ومنفيّ وليس صوت الجماعة. لكن نزعته الفلسطينية الشديدة دفعته الى جعل يسوع الناصريّ مخلّصاً وضحية في وقت واحد، ونموذجاً للفلسطيني المعذب والمضطهد والمنفيّ. ولم تكن مسيحيته العميقة والواضحة إلا مسيحية التضحية ومسيحية الفداء. إنها المسيحية المأسوية التي انتمى اليها توفيق صايغ كشاعر والتي دفعته الى مخاطبة يسوع الناصري بجرأة قائلاً له: "طويل ومعتم طريقي إليك... لا تعثّرني أكثر... لا تدعني أتمرّغ أئن/ أتمتم صلوات نسيت نهاياتها... وأرفع يدي/ وقلبي وفمي: أعنّي، أعنّي...". ويقول في إحدى القصائد أيضاً: "كسيح ولا مسيح". إلا أن ثورة توفيق صايغ على الناصري وعلى البارئ لم تكن إلا ثورة الكائن المؤمن. فالشك لديه هو شك المؤمن الذي يتعذّب على غرار أيوب ويرثي على غرار إرميا.
كان توفيق صايغ شاعر المنفى بامتياز، كان شاعراً لا وطن له، مقتلعاً ومغترباً. حتى المرأة التي أحب لم تستطع أن تكون الوطن - البديل، حتى الشعر أيضاً، حتى الحياة نفسها، حتى الموت كذلك.، وكم عجز هذا الشاعر عن الإقدام على الانتحار الذي كان يساوره دوماً. وها هو يخاطب بارئه قائلاً: "أنت الذي حكمت عليّ بالنفي/ وعيّنت في المنفى منازلي". إنه المنفى في كل أبعاده ومعانيه يدفع الشاعر الى عيش حال من الصراع الدائم: صراع وجودي بين الشاعر والبارئ، بين الذات والآخر، بين الذات والأنا، بين الكائن والحب، بين الخطيئة والنعمة، بين البراءة والتجربة، بين الفكر والوجدان... وعوض أن يخرج توفيق صايغ منتصراً من مزالق هذا الصراع خرج ضحية، ضحية ولكن غير مهزوم. فحياته أصلاً لم تكن سوى هزيمة طويلة أو مجموعة هزائم ولكنّها هزائم الشاعر النبيل الذي انتصر على الحياة بالموت وعلى الموت بالموت نفسه.
مَن يقرأ توفيق صايغ يشعر أنه يحتاج الى أن يقرأه باستمرار على رغم صعوبة هذه القراءة أو "وعورتها". ومَن يطّلع على الخيبات الكثيرة التي صنعت هذه الحياة البائسة التي كانت حياته يشعر أنه في حاجة الى أن يعرفه أكثر. شخصية مأسوية عظيمة وشاعر مأسوي عظيم ليس في ما كتب فقط، بل في ما عاش وشهد، في صمته الإلهي وعذابه المقدّس. ولعلّ شاعراً مثل توفيق صايغ يظل شاعراً مجهولاً، شاعراً وحيداً كل الوحدة وفريداً ويتيماً وبلا أبناء ولا وطن. وكم يستحيل اختصار شاعر هو أكثر من شاعر، بل هو فوق الشعر وتحته وفي نواحيه الخفية والسرية التي لا يعرفها عادة إلا الذين مُنحوا سر المعرفة والحدس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.