يصدر حين تلو آخر، كتاب أو تتمّ مقابلة صحافية، تعيد مجلة «شعر» اللبنانية إلى دائرة الضوء. وعلى رغم وفرة تلك الكتابات، إلا أن «الشبهة» لم تُنزع عن المجلة، وبقيت المجلة الشهيرة رمزاً للحداثة الشعرية العربية ولكن بصورتها الإشكالية وغير المتفق عليها، الأمر الذي حتّم على أصحاب تلك المقابلات والكتابات، أن يتخذوا باستمرار وجهة الدفاع عن المجلة، وإعادة النظر في نماذج منتقاة مما طرحته من أفكار أو قدّمته من تجارب شعرية، لعلّ وعسى تبتعد عنها - ولو بعد أكثر من نصف قرن - لائحة الاتهامات الطويلة التي كانت تصيبها. ثمة تناقض صارخ في آلية الدفاع عن المجلة، - آلية يكاد يتبناها الجميع -، إذ إنها تستند إلى إعلاء شأن هامش المجلة والتقليل من شأن متنها، فيتمّ إظهار تشجيعها للشعر الحديث غير الموزون (قصيدة النثر) باعتباره تنويعاً على المشهد، وفي الوقت نفسه تتمّ الإشارة إلى العدد الخاص بشعر المقاومة في الجزائر (العدد 17)، أو إلى نشر قصائد لمحمود درويش (العددان 35، 38) في كلّ مرة تكون التهمة أن المجلة تعادي الالتزام. وتتمّ الإشارة – وإن بصورة أقل - إلى أبوابها التي اهتمّت بالشعر العربي التقليدي (باب من تراثنا الشعري القديم) كلّما كانت التهمة أن المجلة تعادي التراث مثلاً. والظنّ أن تلك التهم وغيرها لم تكن تقف عند حدود الالتزام أو التراث، بل كانت تتجاوز ذلك لتطعن بصورة غير مبرّرة، الشعراء القائمين على المجلة، الذين كانوا في غالبيتهم إمّا منتمين حزبياً أو «عاطفياً» إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، لتسائل خيارهم الشخصي في الإعجاب بالحزب ومؤسّسه أنطون سعادة وأفكاره. كذا ففي كل مرّة يتمّ التطرّق إلى هذه النقطة، يدفع الشعراء (أدونيس والماغوط مثالاً لا حصراً) «الحزب» عنهم، كي يوضّحوا أمراً مضمراً: لا علاقة بين الإبداع الشعري والحزب. وفي بعض اللحظات الهاربة، يتبرأ بعضهم ولو مجازاً من الحزب، رغبةً منهم في التركيز على نتاجهم الشعري وأفكارهم الخاصّة. جملة التناقضات الصارخة التي يدافع من خلالها شعراء المجلة ونقّادها عنها، تبدو كذلك واضحةً في كتاب الشاعر والناقد السوري نذير العظمة «أنا والحداثة ومجلة شعر»، الصادر حديثاً عن دار نلسن، والمؤلَّف من ثلاثة أقسام (في الحداثة، مجلة شعر، المقابلات). يفعل العظمة مثلما فعل غيره، فيعدّ شعراء الالتزام الذين نشروا في المجلة (بدر شاكر السياب، سعدي يوسف مثلاً) ليدلّ على انفتاح المجلة على مختلف التيارات، مغفلاً في الآن عينه كيف انفضّ السياب عنها لاحقاً، كما لو أن خيار السياب أو التزامه السياسي، ليسا إلا أمراً نافلاً يمكن إغفاله. ثمة أمرٌ غريب في استعادة المجلة وتجربتها، ففي حين يرسم العظمة صورةً مشرقةً لها في القسم الثاني من الكتاب، حيث يبيّن أن خميس «شعر» (اللقاءات الدورية التي كانت تعقد حول الشّعر والفكر)، يوازي في أهميته المجلة، ويدفع عنها لائحة الاتهامات الشهيرة متحدياً (هاتوا وثائقكم إن كنتم صادقين). وتتكفّل في حين آخر، المقابلات الصحافية بدفعه – ولو قسراً - إلى مراجعة نقدية أكثر موضوعية من «موسيقى» (لم تفهمونا بعد). وهو ما يتضحّ جليّاً في مقابلتين اثنتين أجراهما الشاعر اللبناني بول شاوول مع نذير العظمة. تتمّيز هاتان المقابلتان – كما غيرهما - بوضع مؤسِسي «شعر» الذين صاغوا أفكارها الشهيرة، وجهاً لوجه مع الجيل اللاحق الذي فتنته فكرة التجديد الشعري كما طرحتها المجلة. لكن ذلك لم يمنعه من إدراك طائفة من المغالطات التي شابت طروحاتها، بخاصّةً حين أظهر المؤسِسون – بعد أن تقدّموا في العمر - تراجعاً عن أفكارهم بطريقة مواربة. الأمر الذي سيدفع بول شاوول إلى القول صراحةً: «كلّ هذا نوافق عليه، لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا أتعبتم أنفسكم في «شعر»، وطرحتم شعار الثورة ضد القديم وطرحتم شعارات الحداثة والتجاوز والتفجير إلى آخر هذه المعزوفات؟». ويكتسب سؤال شاوول شرعيته من الأثر السلبي لمبالغة جماعة» شعر» في التنظير الشعري، الذي ظهر في أحايين كثيرة وكأنّه أقرب إلى القواعد المقدسة التي يجب اتّباعها لدخول جنة الحداثة. والكلام عن الحداثة يحيل على نظرة نذير العظمة إليها، نظرة شذبتها الأيام والمعرفة: «أن يثور الإنسان على تراثٍ يجهله وبخاصّة تراثه هو. إن هذا ليس من الإبداع في شيء وليس من الحداثة أبداً». ويتسّق هذا الكلام مع نظرة العظمة «الناضجة» إلى التراث: «رفض التراث كنموذج للإبداع، والقبول به كغذاء يساهم مساهمة فعلية في تكوين الشخصية الفنية». وتنسجم كلتا النظرتين مع شعر نذير العظمة الذي كتب القصيدة (يسميها القصيدة الموحدة في كتابه) والشعر الحديث بشقيه الموزون (شعر التفعيلة) وغير الموزون (قصيدة النثر). يؤكّد العظمة في اكثر من موضع أنّه ابتكر القصيدة المدورة (1958)، كما يؤكد أنه هو الذي عرّف أدونيس ومحمّد الماغوط الى يوسف الخال: «أتى أدونيس من دمشق وعرّفته الى يوسف الخال، ثم جاء في ما بعد محمد الماغوط إليّ في بيتي الكائن يومئذ في برمانا... وعرّفته الى يوسف الخال». الأمرُ الذي يضعه فوراً في مصاف مؤسِسي المجلة الشهيرة، لكن الغريب أن أهمّ الكتب التي تطرّقت إلى المجلة (كتاب يوسف الخال ومجلته «شعر» - جاك أماتاييس السالسي ومجلة «شعر» (بالفرنسية) - دنيا أبو رشيد باديني)، لم تركّز على دور العظمة، لا بل أن كتاب سلمى الخضراء الجيوسي (الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث) لم يذكر نذير العظمة مطلقاً، خِلافاً لكتاب الشاعر والناقد السوري الراحل كمال خير بيك (حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث) الذي كان أكثر إنصافاً للعظمة ولتجربة حركة «شعر» ككلّ. ومردّ ذلك أن خير بيك كان عارفاً بخبايا الأمور وما لم يفصح عنه صراحة شعراء المجلة، إذ يبدو أن الموقف من التراث أدّى دوراً حاسماً في فرط عقد المجلة. والمؤلم أن نذير العظمة لا يشير إلى ذلك بصورة مباشرة فهو ينثر أسئلة من دون أن يجيب عنها بعد زهاء خمسين عاماً من تركه للمجلة (مطلع 1962): «وما يسميه يوسف الخال بجدار اللغة بدءاً من عام 1963 ويعطف عليه أدونيس بهوية لبنان لم تكن هي الأسباب الحقيقية لانفراط المجلة مع أهميتها» أو «أليس جدار اللغة مشكلة مفتعلة أو تبريرية لانصراف المبدعين عن المجلة الذين كانوا في صدارتها ومن مؤسسيها؟». وعلى الباحث أن يربط بين مجموعة من المعلومات المتناثرة في الكتب ليصل بنفسه إلى نتائج ملموسة. إذ يبدو أن شعراء المجلة انقسموا حول الموقف من التراث، فمنهم الحصيف الذي أدرك استحالة وعبثية الانقطاع عنه، ومنهم المتحمس الذي ظنّ التجديد تخليّاً تامّاً عنه. ونحن نعلم أن نذير العظمة ألّف كتاباً عن الشاعر الجاهلي عدي بن زيد العبّادي، وأن أدونيس وضع مختارات من الشعر القديم في كتابه الشهير «ديوان الشعر العربي»، وأصل قصّة الكتاب يرويها جاك اماتاييس السالسي في (يوسف الخال ومجلته «شعر»)، وهي تعود إلى استحداث باب «من التراث الشعري القديم» في المجلة، ومن قام بذلك: «وعندما سألتُ أنسي الحاج في حديث خاصّ عن مدى اشتراك شعراء المجلة في هذا المشروع، قال لي إنهم كانوا شديدي الحماسة في البداية، ولكن سرعان ما ضعفت عزيمتهم أمام مشقّة العمل الذي واصله أدونيس وحده». وقد توقف هذا الباب في منتصف عام 1962 عندما ترك أدونيس المجلة، ولم يتخلَ أدونيس عن أحد أكثر مشروعاته أهميةً وفائدة، فقد صدر «ديوان الشعر العربي» بعيداً من مجلة «شعر». ربما كان المرء ينتظر من الشاعر والناقد نذير العظمة أن يحمل كتابه هذا أجوبةً أكثر إقناعاً عن مجلة «شعر» وبدايات الحداثة، أجوبة تتمتع بقدر أكبر من الجرأة والصدق والقدرة على النظر إلى نهاية الخمسينات وبداية الستينات بعين القرن الواحد والعشرين، فلا يرى في المجلة مفتاحاً وحيداً للحداثة، ولا في انتساب أعضائها إلى الحزب أمراً هامشياً، وأن يتذكّر مثلاً أن الفلسطيني توفيق صايغ واللبناني ألبير أديب كتبا الشعر غير الموزون (قصيدة النثر) قبل الماغوط (توفيق صايغ ثلاثون قصيدة 1954، ألبير أديب لمن 1952)، وأن الحداثة الشعرية بدأت من العراق مع بدر شاكر السياب قبل مجلة «شعر». وربما عليه أن يبحث أكثر في ما نسبه لأبي العتاهية من ابتداعه لبحر المحدث (المتدارك)، فأبو العتاهية لم يبتدع بحراً، ولم يقل «أنا فوق الأوزان»، بل قال: «أنا أسنّ من العَروض» وفي رواية أخرى «سبقتُ العَروض». والقصد أن فرصة أخرى تضيع في إعادة النظر بمجلة «شعر» وبتجربة مؤسِسيها، وبوضعها في سياقها الصحيح في تاريخ الشعر العربي الحديث.