PIierre Lorrain. La Mysterieuse Ascension de Vladimir Poutine. الصعود الغامض لفلاديمير بوتين. Rocher, Paris. 2000. 456 Pages. هل ثمة من علاقة ممكنة بين روسيا القيصرية في مطلع القرن وروسيا اليلتسنية في مختتمه؟ بلى: الاندياح الذي لا يقاوم لموجة اللامعقول. فعندما تعصف رياح التغيير والتقلب بمثل السرعة التي عصفت بها بالسفينة الروسية، وعندما تنقلب القيم - فضلاً عن النظام السياسي بمثل السرعة والجذرية اللتين انقلبت بهما قيم المجتمع الروسي في تحوله الصاعق من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي بصورته الاكثر بدائية ووحشية معاً، وعندما يقال لنا ان المافيا الروسية غدت في سنوات قلائل الاقوى والأشرس بين مافيات العالم وانها باتت تتحكم ب85 في المئة من المصارف التجارية و60 في المئة من مشاريع القطاع العام و40 في المئة من الشركات الروسية الخاصة، وعندما يقال لنا ان هذه المافيا عينها، البالغ عدد "عائلاتها" اكثر من ثلاثمئة، أودعت من حصيلة اتجارها بالسلاح والمخدرات والرقيق الابيض اكثر من 200 بليون دولار في مصارف موناكو وسويسرا واسرائيل، فلنا ان نفهم لماذا تنداح في روسيا اليوم موجة اللامعقول، ولماذا تغدو الشائعات الاكثر جنوناً والمؤامرات الجهنمية و"التطبيقات" الشيطانية الأغرب من الخيال هي الشبكة المعتمدة في الشارع الروسي، كما في المشهد الاعلامي، لتفسير الاحداث السياسية، لا سيما منها ما يتصل بالصعود الغامض لفلاديمير بوتين، كما يقول عنوان هذا الكتاب. وبالفعل، وعلى سبيل الاستذكار السريع فحسب، فلنذكر ان فلاديمير بوتين المولود في سان بيترسبورغ في 7 تشرين الاول اكتوبر 1952، كان لا يزال موظفاً شبه مغمور في القسم الخارجي من جهاز المخابرات السوفياتية حيث خدم في المانياالشرقية الى ان قدّم استقالته منه في 1980 بعد ان بات متيقناً من ان النظام الاشتراكي القائم لا مستقبل له، ومن ان انهياره وشيك. وعلى امتداد السنوات التسع الفاصلة بين استقالته من جهاز المخابرات وبين تسنمه رئاسة آخر وزارة في عهد يلتسن، كان اسمه لا يزال مجهولاً تماماً على الصعيد الشعبي. فبعد استقالته عاود تسجيل نفسه في الجامعة ليحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق وليعمل كمدير مكتب لرئيس بلدية سان بيترسبورغ، اناتولي سوبتشاك الذي كان درس عليه في الجامعة والذي برز في مطلع التسعينات كواحد من اكبر الديموقراطيين الروس الجدد حماسة للتحول الجذري نحو الليبرالية. وفي 1996 استدعي بوتين الى موسكو للعمل في اطار الجهاز الاداري للرئيس يلتسن. ثم كان اول تطور كبير مفاجئ في حياته المهنية والسياسية معاً عندما اصدر يلتسن - الذي كان "يحرق" بسرعة قياسية كبار الموظفين العاملين معه - مرسوماً بتسميته مديراً لجهاز امن الدولة. كان ذلك في 24 تموز يوليو 1998، وكان بوتين لا يزال في السادسة والاربعين من العمر. ومن أصغر رئيس لجهاز امن الدولة في تاريخ روسيا صار - بموجب مرسوم آخر صادر في 9 آب اغسطس 1999 - اصغر رئيس للوزارة، ثم اصغر رئيس للجمهورية للوكالة في 31 كانون الاول ديسمبر 1999، واخيراً اصغر رئيس للدولة الروسية بعد فوزه بغالبية 52 في المئة من الاصوات في الانتخابات الرئاسية في 26 آذار مارس 2000، وهو لما يتجاوز الثامنة والاربعين من العمر. هذا الصعود المباغت في مدى اقل من سنتين لموظف من المرتبة الثالثة او الرابعة في الدولة الى سدة رئاستها قدم مرتكزاً جيداً وخصباً لانطلاق موجة من الشائعات التفسيرية الموغلة في الخيال واللاعقلانية معاً، وهو ما ينهض شاهداً اضافياً على ان المجتمعات، حينما تنوء تحت وطأة الشعور بالعجز عن التحكّم بمجرى مصائرها، لا تجد ملاذاً آخر تحتمي به سوى اللامعقول، سواء في شكله الديني عوة الكنيسة الاورثوذكسية الروسية الى الهيمنة ام في شكله السياسي التفسير التآمري للتاريخ. وليس من قبيل الصدفة، من هذا المنظور، ان يعاود اسم راسبوتين ظهوره بإلحاح: فهذا الراهب المشعوذ والمتهتك جنسياً الذي لعب دوراً خارقاً للمألوف في التفسير الشيطاني لسقوط الحكم القيصري وإبادة آل رومانوف على ايدي البلاشفة في مطلع القرن، عاد شبحه يخيم على مسرح الاحداث السياسية في مختتم القرن ليقدم تفسيراً شيطانياً ايضاً للصعود المباغت لفلاديمير بوتين، وهذا في الوقت نفسه الذي كفّت فيه اسرة رومانوف عن ان تكون سلالة رجيمة لتصير سلالة قديسة بعد تطويب الكنيسة الاورثوذكسية ل"الشهداء" من آخر افرادها الذين اعدمهم البلاشفة. ماذا يقول هذا التفسير "الراسبوتيني" الذي راج على سعة في الدوائر العليا للسياسة في موسكو كما في الاوساط الشعبية، فضلاً عن صحافة الفضائح والشائعات؟ بالحرف الواحد ان بوتين حفيد لراسبوتين. فصحيح انه ولد في مدينة سان بيترسبورغ، لكن اسرته قدمت اليها في مطلع القرن من بلدة بوكروفسكايا في سيبيريا الغربية. والحال ان هذه البلدة هي ايضاً مسقط رأس راسبوتين. وصحيح ان جد بوتين لا يمثل في عداد ذرية راسبوتين المعروف افرادها جميعاً. لكن ذلك لا يغيّر من واقع الامر شيئاً. فمعروف ان راسبوتين كان "فحلاً" من الناحية الجنسية، وكانت له علاقات لامشروعة مع العديد من النساء، العذراوات والمتزوجات على حد سواء، ممن وقعن تحت تأثير قدرته التنويمية المغناطيسية. والحال ايضاً انه كان من عادة الآباء في روسيا ان يعطوا اولادهم اللاشرعيين بعض اسمهم، لا كله. وعلى هذا النحو صارت اسرة الرئيس الحالي للدولة الروسية تحمل اسم "بوتين" بعد اسقاط المقطع الاول من اسم "راسبوتين". وتدعيماً لهذا التعليل الاشتقاقي فان صحافة الشائعات لم تتردد في ان تعيد نشر صور فوتوغرافية قديمة لراسبوتين، ومنها يتبين "بجلاء" ان بوتين باستثناء اللحية يشبه شبهاً عجيباً "جده" بعينيه وترسيمة انفه وفمه وسائر تقاطيع الوجه! علاوة على هذا "التفسير" الذي يقول بصورة ضمنية ان بوتين فرض نفسه بقوته النفسية الخارقة على يلتسن واسرته، تماماً كما كان فعل راسبوتين عندما أوقع في أسر قوته الشيطانية القيصر نيقولا الثاني وزوجته الكسندرا فيودوروفنا، هناك تفسير آخر يعزو الصعود المفاجئ لبوتين، لا الى تدخّل قوة نفسية موهومة، بل الى تدخل قوة مادية فعلية تتمثل ب"الاخطبوط المالي" الذي يمثله كبير مليارديريي روسيا اليوم: بوريس بيريزوفسكي. فمعلوم ان هذا المتمول الروسي الكبير ذا الاصل اليهودي ويا للمصادفة التي يطير لها لبّ اللامعقول فرحاً! نجح في الأجل الزمني القصير الذي دامته المرحلة الانتقالية ما بين العهدين الغورباتشوفي واليلتسني في تكديس ثروة مالية هائلة بفضل عملية احتيال حسابية. فقد ادرك بعقله الرياضي وهو خريج اكاديمية العلوم ان الفارق بين السعر الرسمي والفعلي للروبل في بداية مرحلة انهياره الكبير من شأنه ان يوفر ارباحاً طائلة لمن يعرف كيف يتلاعب بهذا الفارق. ومن ثم بادر يؤسس في 1991 شركة لتصدير السيارة الروسية الصنع جيغولي المعروفة باسم اللادا في الخارج، ويبيع الواحدة منها بسعر 7000 دولار اميركي ويسدد ثمنها للمصنع الروسي بالروبل، اي ما يعادل 250 دولاراً فقط. وقد كرر عملية الاحتيال عينها مع شريك له كان مديراً مساعداً في شركة "آيرفلوت" للطيران. ففي الخارج كانت تباع تذاكر السفر بالاسعار الدولية بالدولار، وتسدد قيمتها في الداخل بالروبل الروسي. وكانت النتيجة ان تحول بيريزوفسكي في مدى اشهر قليلة الى واحد من اعظم اثرياء العالم، الامر الذي أتاح له ان يرشو الطبقة الحاكمة الجديدة الروسية، وفي المقدمة يلتسن وعائلته. فصار يلقب ب"الكرمان" اي "الجيب" الذي تغرف منه الأسرة اليلتسينة على سعة، لا سيما ابنة يلتسن التي امتلكت على هذا النحو فيلا فخمة في الشاطئ اللازوردي في فرنسا كوت دازور مع مطار خاص عائد اليها، تقدر قيمتها بعشرين مليون دولار. هل موّل بيريزوفسكي اذن حملة بوتين الانتخابية؟ هذا غير مستبعد ولكن هل معنى ذلك ان الرئيس الروسي الجديد تحول الى رهينة للملياردير النصّاب؟ هذا مستبعد. ذلك ان شبكة الصحافة والتلفزة الواسعة التي يملكها بيريزوفسكي ما لبثت، بعد فوز بوتين، ان تحولت الى بؤرة معارضة له، صنيعها في ذلك صنيع ابنة يلتسن وزوجها اللذين انقلبا على بوتين، او انقلب بوتين عليهما منذ ان صار "رجل دولة". ان هذا الصدام بين الرئيس الروسي الشاب وبين "اولياء نعمته" قدم بطبيعة الحال مادة جديدة للشائعات الاكثر جنوناً في موسكو، ومنها ان بوتين يدين بالشعبية التي ضمنت له الفوز في الانتخابات الروسية، لا للأموال التي وضعها بيريزوفسكي في تصرفه وهذا الاخير انتهى به الامر الى ان يعتقل ويُقدم للمحاكمة بتهمة الاختلاس والافلاس الكاذب وتهريب الاموال الى اسرائيل، بل للعمليات الارهابية المدمرة التي شهدتها المدن الروسية في اثناء الحملة الانتخابية والتي اوقعت نحواً من 300 قتيل في عمليات تفجير للمباني السكنية. فرغم ان عصابات المقاومة الشيشانية تبنت بصورة رسمية هذه العمليات، فإن الشائعات في موسكو حمّلت مسؤوليتها لجهاز امن الدولة الذي كان يتولى رئاسته بوتين. بل اكثر من ذلك فان هذه الشائعات عينها جعلت من شامل بيساييف، زعيم الاسلاميين الشيشان، عميلاً تابعاً للجهاز نفسه، الامر الذي يعني ان الحرب الشيشانية برمتها فضلاً عن عمليات التفجير الارهابية لم تكن الا "تمثيلية" أُعدت سلفاً لرفع شعبية بوتين بوصفه "رجل الساعة" القادر وحده على مواجهة الاحداث العاصفة في زمن تفكّك فيه كل شيء في روسيا اليلتسنية، خلا جهاز امن الدولة. اذن فسوق اللامقعول ناشطة في روسيا. هذا اقل ما يمكن استخلاصه من هذا الكتاب الذي لا يروي سيرة حياة بوتين وصعوده الغامض بقدر ما يروي سيرة حياة روسيا نفسها في العهدين الغورباتشوفي واليليتسني. فروسيا التي كانت ام اللامعقول منذ زمن تكونها التاريخي في عهد ايفان الرهيب، مطلع القرن السادس عشر، مرشحة لأن تبقى بنته لحقبة اخرى من الزمن، بانتظار ان تستكمل مرحلتها الانتقالية الراهنة لتعيد تأسيس نفسها - بعد الفاصل الشيوعي على قاعدة من الديموقراطية والعقلانية.