يرى ابن رشيق في كتابه "العمدة" أنه، في العصر الجاهلي "كانت القبيلة من العرب، إذا نبغ فيها شاعر، أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس". ولم يكن باستطاعة المحدثين أن يطمحوا الى مثل هذه المكانة المبجلة. لذلك تحملوا "البلاء" بصدر رحب، وحولوا الاحتفال الى داخل القصيدة. فالفجر الذي كتبه أجدادنا في جاهليتهم، لا يغطيه صدأ الأزمنة والحقب... وإننا نقترب منه، وكأنه فجرنا القريب... وكذلك شأن الشعر الحق. يقول الحياة التي يعيشها الشاعر أو يغني المواجع والتحديات التي ترصدها روحه وتعاينها نفسه فيخاطب وجداننا ويحكي لنا سيرة وجد أو هجر أو إباء أو بطولة أو تمرد أو ذل أو غدر فتصير السيرة التي حكاها الشعر وكأنها سيرتنا. كأن الوجد وجد تعانيه أرواحنا وكأن الهجر نذوق ويله وكأن الإباء نحياه. وهذه السير والحياة التي يقولها الشعر ويغنيها هي في حياتنا وشعرنا وأيامنا باقية بشكل من الأشكال. عنترة بن شداد في شجاعته وانتصاره على الخوف يحيا فينا كأنه يغني بين ظهرانينا: بكرت تخوفنا الحتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها ان المنية منهل لا بد أن أسقى بكأس المنهل وطرفة بن العبد هذا الجد المملوء بالحياة والمنشد ملء روحه وأيامه نشيد الشجاعة والمتطلع الى هناءات نفسه العالية. شعر هذا الجد الخالد في الحياة ومواجعها وملذاتها أليس شعراً سرمدياً نغنيه كل حين: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي أرى العمر كنزاً ناقصاً كل ليلة وما تنقص الأيام والدهر ينفد الشاعر علي سليمان في كتابه الجديد عن الشعر الجاهلي يتوقف عند آمال أجدادنا الشعراء وعند شقاء نفوسهم وشجاعتهم ومخاوفهم ويحاول في كل وقفة أن يقرأ شعر الأجداد وحياتهم بشفافية الشاعر ولا يمكنه أن يهرب من شفافية علاقته بالقصيدة وجراحات الشعراء وهواجسهم. وعلي سليمان يؤكد هوية الشعراء الجاهلين وهوية الشعر، ويتبين سجلات وبيانات أحلام أولئك الفرسان الذين عاشوا يجابهون المخاوف ومصاعب الحياة وويلات الأزمات والحروب. وتمردوا على التقاليد الضيقة والأعراف المؤذية للأحلام. لا تغيب عن الذاكرة والبال قصائد الجاهليين وشجاعاتهم وستبقى ترددها البيداء والأزمنة: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها ان الكرام قليل.