واقرأ للقنديل «قصيدة» البلبل، التي نالت الجائزة الثانية في مسابقة القسم العربي في الإذاعة البريطانية عام «1965» قال القنديل: الروض ما معناه يا بلبل إن لم تغرد فيه، أو تمرحِ والزهر من يسكب في ثغره سحر الهوى إن أنت لم تصدحِ والجدول الرقراق ما حاله إن غبت عنه جانباً تنتحي والفجر من يلقاه إن لم تطر في ضوئه الساجي ولم تسبح والوردة الحسناء من ذا الذي يُثير فيها غيرة المستحي إن لم تغازلها تبث الهوى للروض بسّاماً وتشكو الجوى للفجر والزهرة والجدول؟ يا باعث الفتنة زخّارة بالحسن مطبوعاً على ما به وناثر الفرحة رقراقة في لحنه المسكوب من قلبه الشاعر الفنان فيما شدا منك استمد الوحى في غيبه مدا إليك السمع حتى ارتوى قلباهما: قلبّ يخاف النوّى هجراً، وقلب حنّ للأول ويسبح شيخنا مع الشاعر والبلبل في المقطع التالي من هذا النجاء، فيغرد القنديل المضيء على الروابي وموج أليم.. والحياة الكبرى العصية لا ترضخ إلا للمعشر النابغينا للكبير الآمال للباسم الثغر لمن يكتم السقام الدفينا للقوي القوي يصرعه اليأس فيأبى لنفسه أن تلينا للأبيِّ الأبي، للسائر السائر لا ينتحى السكون ركونا أيّها الشاعر الحزينّ وما كنت حزينا، وما نرى أن تكونا قم وزلزل دنياك بالقول والفعل وأشرق من بعدُ فيها وفينا وكنت أود وما تغنى الودادة أن أمضي في ضوء القناديل فأنقل المزيد من شعر أبي القناديل لا سيما قصيدته الطويلة في تكريم الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عبدالوهاب آشي، التي بلغت نحو سبعين بيتاً! والأستاذ الآشي أول رئيس تحرير لصحيفة «صوت الحجاز» التي أنشأها محمد صالح نصيف -رحمه الله- في مكةالمكرمة في العهد السعودي، ثم تحول اسمها إلى «البلاد السعودية» حين ملكها معالي الأستاذ محمد سرور الصبان -رحمه الله- وتولى يومها رئاسة تحريرها الكاتب الصحافي البارز عبدالله عريف، وفي عهد المؤسسات الصحافية أصبح اسمها «البلاد». ومطلع القصيدة في الحفل التكريمي لأستاذنا الآشي الذي أقامه له أدباء أم القرى، قال مشعل القناديل: نفضوا القلوب على القلوب وأقسموا يوم الجهاد بأنهم لن يحجموا وحيا المحتفى به بقوله: يا أيها المثل المكرَّم بيننا رمزا يطيب به الولاء ويعظم والقنديل كثير التفاؤل والسماحة، وله شعر غزل رائع مثل قصيدته في حديثه إلى البلبل قال: والوردة الحسناء من ذا الذي يثير فيها غيرة المستحى إن لن تغازلها تُبثُ الهوى للروض بسّاما وتشكو الجوى وقصيدة أخرى غزلة عنوانها: «ما الذي فيك» قال: ما الذي فيك يا معيداً إلى القلب صباه من بعد أن صار كهلاً؟ والذى تعبس الحياة إذا غاب وتبدو بسّامة إن أطلا كل ما فيك فاتن يعجز اللفظ إذا رام للذي فيك حلا وفي قصيدة أخرى قال: لا تقل إنه الجمال، وما يفعل الجمال فيمن على الجمال تعافى؟ إلى قوله وقد غيّر القافية: فإذا قلت مرة ما الذي فيك.؟ فإني بالسر فيك ضنين معذرة إلى أخواتي وإخوتي، فقد خشيت أن أتهم بالتصابي! فالمرحوم نقل في دراساته المزيد؛ فاعتذر! وقد جنحت إلى الإيجاز في النقل تأدباً مع ساكن طيبة صلى الله عليه وسلم وآله الأبرار وصحبه الأخيار، وشيخنا شاعر ربما ينحسب عليه: وأنهم يقولون! وهو مستثنى لأنه من المؤمنين.. وأصل إلى الحديث عن شعر الأستاذ حسن عبد الله القرشي من خلال دراسة كاتبنا الخطراوي، لأقول إن شاعرنا حقيق بثناء الأستاذ العميد طه حسين كاتب مقدمة ديوان الشاعر «الأمس الضائع». وما كتبه النّقاد في بلادنا وفي غيرها، فالأستاذ القرشي ذو علاقات وطيدة مع شعراء الوطن العربي وخاصة مصر! ولعل من مميزات الشاعر القرشي أنه يحفظ من شعره قدراً ليس قليلاً، وأنه يلقيه إلى بعض الصديق إذا طلب منه ذلك، يلقيه من الذاكرة الحافظة، كما يحفظ من أشعار القدماء المشهورين الذين أعجبه شعرهم! وللأستاذ القرشي نصيب في كتابة القصة فله قصص منها: «حب في الظلام، والحب الكبير، وأنّات الساقية، وأقاصيص»..، وله شيء من الدرسات الأدبية؛ وكان نثره جيداً كلغته عبر قراءاته ومطالعاته، وقد قضى شطراً من حياته في سنيه الأخيرة في القاهرة، وكانت له علاقات وطيدة بشعرائها وكتابها ونقادها، ذلك أنه حفيل بهذه العلاقات والتواصل مع أهل الفكر والشعراء البارزين! ونقرأ من شعره ما قدمه كاتبنا الخطراوي: رنّحته الرياض حسنا أغنَّا يُترع النفس سحرُه الغضّ فنّا طائر ملهم النشيد تفانى بينِ عطف الورود يرتاح وهنا رفرفت نحوه القلوب تناغيه فأشجى القلوب حين تغنّى في مقدّمة ديوان (الأمس الضائع) للقرشي، قال العميد: (لقد سمعت بين ما سمعت من الشعراء شعر الأستاذ الصديق حسن عبد الله القرشي؛ ولم أكد أسمعه حتى كَلَفْتُ به، تمنيت أن أراه منشوراً يقرؤه الناس في الحجاز؛ وفي غير الحجاز من أقطار الأرض). لقد توقفت أتأمل ما قاله الأستاذ؛ ليس لدى قراءتي لكتاب أستاذنا الخطراوي (شعراء من أرض عبقر)؛ وإنما منذ عقود حين طبع الأستاذ القرشي ديوانه (الأمس الضائع) فاستمتعت بما أفضل به الأستاذ العميد يومئذ من ثناء على شعر الأخ حسن القرشي! بل إن عميد الأدب العربي تحدث يوم جاء إلى بلادنا في شهر يناير عام (1955) ومكث بيننا نحو عشرة أيام في ملتقى وفود عربيّة من مصر وبعض الدول العربية، وكان الأستاذ العميد يومها: رئيس اللجنة الثقافية في جامعة الدول العربية؛ وكان من رفاقه الأستاذ الكبير (أمين الخولي) زوج (بنت الشاطي) الكاتبة البارزة الشهيرة (عائشة عبد الرحمن). وفي مقدمة الدكتور طه لديوان القرشي ممّا سرّه أنّه استمع إلى بعض شعرائنا في الاحتفاء به ورفاقه وبقية وفود الدول العربية، ففرح وأشار إلى أن الشعر قد تجدد في الحجاز وعاد إلى سيرته الأولى بعد أن صمت طويلاً! ولعل حديث الأستاذ العميد يذكر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- بمناسبة الاحتفاء به أميراً للشعراء. قال: (افتقدنا الحجاز)؛ وكان من حاضري تلك المناسبة الشاعر الصحافي الأستاذ فؤاد شاكر فألقى بعضاً من شعره ذكر فيه أن الشعر تجدّد في الحجاز! رحم الله من ذكرت ومن سأذكر وعباده المؤمنين... وبمناسبة الحديث عن عميد الأدب العربي وزيارته لبلادنا أنّ مؤسّسة الصّحافة والنّشر بجدّة وهي التي أنشأها الأستاذ أحمد عبيد -رحمه الله- ابن المدينةالمنورة وأصدر منها (مجلة الرياض) يوم تولى الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- الملك؛ خلفاً لصقر الجزيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رطب الله ثراهما... قال الأستاذ مداعباً المحتفين به وبرفاقه في كلمات بليغة قوية! قال: منذ أن وطأت قدماي هذا البلد العزيز الكريم؛ أسمعكم تتحدثون عن رجل، أوشك أن أقطع فيما بيني وبين نفسي أنني لا أعرفه! وقال: (ردوا أنفسكم إلى شيء من القصد فلسنا ضيفاً عليكم؛ وإن أردتم إلا أن نعيدها جذعة وأن نخاصمكم على هذه الأرض، فثقوا بأننا مستعدون)!. ونقرأ قصيدة (البلبل) في ديوانه: (البسمات الملوّنة) فيقول: رنحته الرياض حسناً أغنّا يَترع النفس سحرُه الغضّ فنا طائر ملهم النشيد تفانى بين عِطف الورود يرتاح وهنا رفرفت نحوه الورود تناغيه فاشجى القلوب حين تغنّى قال الكاتب: إنه لم يكن يتحدث في هذه الأبيات عن أي بلبل حقيقي، وإنما يرمز به إلى نفسه؛ ويعبّر عن ذاته! فهو الشاعر الذي غنى أحلامه وآماله، وسكب منه لحوناً (في أحضان الربيع). * * * وانتقل إلى شاعر آخر ممن اختار الدكتور الخطراوي بالبحث والدراسة، فهو شاعر وقاص وصحافي إنه الأستاذ (سعد البواردي)، الذي قال: (إنني أبرأ من كل أدب ذاتي، ولا أرى أدباً إلا ما يخدم الحياة فقط)، ومن هذه العبارة الصغيرة أستطيع أن أستشف اتجاهه في الشعر، ودواوينه الكثيرة التي قدمها مثل (أغنية العودة) الذي طبعه في عام (1961)، ثم (صفارة الإنذار)، (ذرات في الأفق)، (أحاسيس من الصحراء)، (أطياف الربيع)، (لقطات ملوّنة) وغيرها! ويمضي كاتبنا قائلاً: (ومن مراجعتنا لبعض أشعاره وجدناه فعلاً يبتعد كثيراً عن الذاتية والتقوقع في حيّز الفردية؛ وينطلق بكل إمكاناته الفنية يخدم كل غرض حياتي نبيل؛ ويسخر شعره لمعالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية داخل بلده وخارجها؛ وقد أخذت قضية (فلسطين) جانباً كبيراً من شعره). ولعلي آثرت إحدى القصائد التي آتى عليها أستاذنا الخطراوي وعنوانها: (الحارة الزنجية)! فقد قدمها البواردي بقوله: (هناك حيث تقع مدينة (جوهانسبورج) عاصمة جنوب أفريقيا الصاخبة، حيث يوجد أكثر من حارة (زنجية) يخيم عليها الصمت والعزلة)! قال فيها البواردي: الحارة الزنجية يخرقها السبات تبحث عن أصوات تعطي لها الحياة كأنها فلاة تسودها السكينة كأنها موات ليست من الحياة ليست من المدينة الحارة الحزينة جدرانها عوجاء أوتادها عرجاء دموعها تراب أنفاسها السواد متّشحة السواد أظن أن القصيدة من شعر التفعيلة؛ وهو لون من التجديد النغمي. الذي لا مراء في اعتباره من الشعر؛ وإن رفضه من لا يريد أن يسميه شعراً! لكنني ألحظ اضطراب الوزن في قوله: (متشحة السواد)، بحيث لا تستقيم قراءتها إلا مع تسكين (الشين)؛ وله قصيدة أخرى بعنوان: (أنا مسلم) فقال: أنا مسلم... أنا مسلم أنا بالعقيدة مسلم قلبي أطل على الحياة كما تُظل الانجم وجوانحي في أفق أحلامي العِراض تهوّم دعني فما أنا بالمشكك لا.. ولا متبرم ويذكر الكاتب في تحليله لقصيدة (أنا مسلم) قائلاً: (وإنك لتحس من تكراره لجملة (أنا مسلم) تحدياً لمواقف وعقائد دخيلة جحفت بعض ضعاف الإيمان واجتلبت إليها كثير من الضحايا.. إن في هذا التكرار تصميماً وإيماناً... واعتزازاً! وهكذا يجب أن يكون موقف المسلم الذي امتلأ قلبه بمعرفة ربه، وزخرت نفسه بالإسلام الراسخ المكين). وهكذا نطوي صفحة ونفتح أخرى لنقرأ مداد الدكتور الخطراوي، الذي حمل بين دفتي كتابه ألمع الشعراء الذين قدموا قصائدهم مطبوعة في ذاكرة التاريخ والأدب! ولعل من هؤلاء الذين تميزوا بخفة الروح والظرف والحيوية الدّافقة، فتراه شابًا لم يتخط الثلاثين! ولعل (أرض عبقر) ما زالت ملأى بشعرائها النخبة.. وأن محطتنا قبل الأخيرة التي أزفت على النهاية مع شاعر كان مغرّداً منذ صغره، بمطالعة الكتب الأدبية شعراً ونثراً! والقديم منها بصفة خاصة؛ ثم أخذ يتجه نحو الجديد المعاصر، ونقل عنه (أنه من الهائمين في صحراء الرومنسية والمغذّين في ركبها المنطلق إلى المجهول! إنه الشاعر: (محمد سليمان الشبل)؛ الذي قيل فيه بأنه أخذ يتجه نحو الجديد المعاصر، وعلى وجه التحديد؛ صوب الأدب المهجري؛ ومدرسة جبران منه بالذات)... فينشد في قصيدة (البلبل الأخرس): يتلوى والأغاني بين جنبيه تنوح نغم في قلبه الخفاق يغدو ويروح كلّما فيه من الشّدو دموع وجروح وعويل من أسى الماضي به اللحن فصيح ويرى الكاتب أنها مأساة الفن والطموح؛ يرسمها شاعرنا (الشبل) ويغنيها بحرقة ونشيج موّله! ولا يود أن ينهي حديثه عن هذا البلبل؛ دون أن يعرض مشاهد متنوّعة تعجزه تدعو للرثاء؛ وتدعو إلى المشاركة الوجدانية في المصاب. وفي قصيدة (وداع) يرى الكاتب أن الشاعر فخم الألفاظ قوي الإيقاع، لا يختلف عن شعراء الدولة العباسية؛ وليس في شعره تلك الرقة التي لاحظناها في النصوص السابقة! فقال: صبرت عنك وما لي عنك مصطبر لولا بقايا منًى طافت بها الذكر غنّت فهوّم روحي في مناهلها وأرّق القلب من أطلالها أشر يعرض الكاتب حال الشاعر الشبل؛ مشيراً إلى أنه لا يصطبر؛ فهو رجل تؤرقه الأطلال وأثار المحبوب. ويضيف الدارس واصفاً هذا الشاعر بأنّه: «في عامة أشعاره شاعر مجدد شكلاً ومضموناً؛ مرتبط في قراءاته لدواوين القدماء والمحدثين! وقد لاحظنا ذلك بوضوح فيما أوردناه». لقد نقلت ما أمكن من دراسة الدكتور محمد العيد الخطراوي لشعراء من أرض عبقر كما قدّمها النّاقد في كتابه؛ تارة بالتحليل وتارة أخرى بالنقد البناء من وجهة نظره! وحسبي ذلك... وفي الصفحات التالية لديوان: (غناء الجرح)، من منشورات نادي المدينةالمنورة الأدبي بتاريخ 1 - 6 - 1297 ه؛ لشاعرنا وكاتبنا وناقدنا الدكتور الخطراوي -رحمه الله.. وقد أهداه إلى (كل عربي ورث عن أسلافه رفض الذلّ والصغار؛ وألزمته أخلاقه العربية الذود عن الذمار). ولعل قصيدة (غناء الجرح)، أول من لفت انتباهي، ربما لعنوانها! قال الشاعر: لفحة الشوق تبعث الحلم حيا يتهادى على ذراع الثريا يطأ الحاضر الذليل ويُلقي بنثاراته مكانا قصيا ثم يُلوي به الطموحُ إلى أن يجعل الشهب مركبا ونَجيا أي لوم على السجين إذا ما حنّ للفجر مشرقا ووضيا وأتأمل لأحلل عنوان القصيدة التي ترمي إلى الألم والجرح؛ بينما مطلع الأبيات يدعو إلى الشوق والحلم، وإلى ربط بين عنوان القصيدة والأبيات؛ فقرأت ما بين أسطرها دعوة إلى نبض يؤمن بقضيته فأعطاها من فكره وجهده! ولعل الأبيات التالية تشرح ما عناه الشاعر فنقرأ: يا أخا الجرح طال شوقي وسهدي والأسى في الفؤاد يُمعن كيّا وسدى تربط الضمادات إن لم يكن الجرح حافزا أبديا مسعرا للكفاح رمزا لثأر مطعم النصر حاقداً عنجهياً إلى أن قال: من يغرس الحياة في الأرجل العجفاء والشوق كي تطيق المضيا إنها في مسابح الصبح تحيا وهي من هاهنا تحث المطيا روعة في التّصوير للألم والجراح لقضية تُقلقه وتقلق كل عربي مسلم يدافع عن حماه وأرضه المسلوبة! إنه جرح كل مواطن (فلسطيني)؛ ومسلم ذي اهتمام إلى استرداد وطنه، ليعيش في رغيد العيش حين تعود أو تسترد القدس موطناً عربياً! ودعوة إلى الاستشهاد في سبيل المسجد الأقصى من براثن المعتدين: والتزم دوحة الحياة وناد يا فلسطين ها أنا عدت حيا ومن جرح قضية نؤمن بها إلى أخرى! حملنا الشاعر إليها برهافة (أمسية في العيد)؛ وقد أهداها الشاعر إلى فضيلة أستاذنا الشيخ محمد الحافظ بن موسى المعلم والمدرس والقاضي بالمدينةالمنورة -رحمه الله ورطب ثراه.. وقد كتب الشاعر هذه القصيدة بتاريخ 2 - 10 - 1387 ه؛ فنشر فرحه مبتهجاً، قال: العيد حيا وابتسم، فأهنأ بعيدك ياحرم واهتف لربك معلنا تسبيحه أنّي تؤم الله أكبر وحده يهدي إلى الخلق النعم وإذا الأصيل بشمسه قد مال من خلف القمم فأنشد مقاماً هادئاً في عروة حيث الكرم في دار شيخ فاضل قد قام نحوك واحترم واحرص على جلساته زخرت بمختلف القيم جلسات أنس دافق يعيا بما تحوى القلم العلم ألقى رحله برحابها وجثا الكلِم إنها فرحة نلقاها بين السّطور؛ يعيشها الشاعر ويهديها إلينا! وقد برع في نظم الأبيات، بفرحة الشاعر بحلول العيد! تلك المناسبة السعيدة المتجددة في قلبه بما تملؤه من أجواء البهجة والسعادة؛ التي تنشرها في احتفاء الشاعر بهذه المناسبة الفريدة! ولم تنس ذاكرته (المسجد الأقصى)؛ فيبكي شاكياً: يا طيبة الفيحاء ما للدمع في عينيك جم تبكين أختا دنست حرماتها تلك الطغم تسطو الذئاب على الشياهي إذا سها راعي الغنم ويحملنا البساط إلى ديوانه (في دائرة الغبار) آخر زهرة أو ثمرة كطعم التوت أو التفاح، لشاعرنا الخطراوي، فأحاول أن التقط من حديقته الغناء، فأعطر هذه الوريقات بأريجها! وكما قلت آنفاً في تلك الوقفة على: (غناء الجرح)، أرى أنّ الشاعر أهدى هذه الإضمامة الشعريّة إلى كل دمعة ترقرقت في عيون الأمهات الوالهات، وإلى كل قطرة دم أريقت على أرض معاركنا مع الأعداء، وكل قلب ينبض بالبطولة والإنسانية العارمة؛ وكل نفس أوّابة تؤمن بالإسلام والعروبة؛ وتهدي ولاءها إلى هذا الوطن العزيز. وكأني أقرأ حالات متناغمة ورؤى اختارها الشاعر لنصوصه، فقالها في ثرثرة المرايا: وحين يسافر بي الحلمُ عبر المدائن متكئا فوق خصر الطفولة يستاف من صدرها المستهام بهارا وهيلا وقطفا من الزنجبيل المطعّم بالزعفران فينهال سيل القوافل مني إليا وتنهل مني المواجع تسخر مني المراجع حاسرةَ الرأس ايقاع المفردات في النص متواتر؛ كأنه يتحدث عن حياته اليومية؛ فيصلنا إحساسه بذاك الإرث الحي، فيقول: ماذا عن الأهل والدار؟ ماذا عن الأشقياء؟ وتسأله عن دماء الضحايا وبعض القضايا، وبعض الشظايا التي تشعل الليل لولا المرايا إنه وصف ثم تداعيات لنص يعج بمدلولات؛ دفعت به للتطلع كي يصل إلى إجابة.. دفقات من النصوص المسترسلة في دائرة الحيرة المركبة... بإيقاع سريع من اللغز! فالشاعر يستوحي بالسمع للفجر وهو يغازلها بلقاء جديد على جناح لجة؛ فاستل ضحكة وأطلق قدميه للريح! إنه يركض خلف الفراشات في الحقل؛ يعبث بالفل والياسمين، ويضع للنحل بيتا من الطين؛ ويلعق العسل ثم ينهض؛ يهتز لظله وكأنه يغازله! صور تُرى همسات الكلمات دافقة مما حوله! الشاعر إذاً يباري السحاب؛ ولعله يرى نفسه» أبو زيد أو عنترة! « فيكسر غصناً؛ وتمتد يده إلى آخر يقطف منه ما فيه من ثمر أو زهر؛ وقدماه موحلتان فلا تقويان على السّير.. وكأنه يريد أن يرسل إلينا إشارة، فهو وحيد بين موت وخوف وصمت! من مشاهد الغياب التي تظهر فجأة أشباح الظهيرة تبدو في مهب الريح، ولكن المنحى متأخر جداً، وكأنهما صوتان في دائرة الغبار! وبأي المسارات نمضي..؟ وللعابرين الذبول على مدخل الطرق العارية والزحام اللدودُ يفاصلني إلى أن قال: ويلوّنها بالسفر لتعلن ثورتها وتمرّدها ثم ترمي بوجهي الدفاتر الغبار الذي عناه الشاعر، ما هو إلا الزحف والقتل! إنها (تراجيديا) أو (برتريه) رسمها بألوان مختلفة؛ هويتهم العقل بالإفك والهذر؛ والنوم ويكتب لافتة للخلاص: فلا تعجبوا إن أضعنا المسارا وعشنا على جانبيه غبارا و.... عمتم ظلاما! وعتم غبارا رحلة جديدة من رحلات الشاعر حين؛ قال: وعود على بدء وعطفا على أزمة سابقة يعاودني الشوق للموت للنوم في خيمة العافية ويبرأ مني المكان ويهرب مني الزمان ويكتبني في عداد المصابين بالسيلان وبالهوس العربي والنّزق الوطني وتلكم جرائم لا تغتفر ثم قال: وها الحوت في اليم يفتح فاهُ ليصنع «مشربه» من دمائي وهذى الرياح العتية تصفعني... وتذل طموحي ويرهقها أن ترى كبريائي وتمضي تذكرني بذيول الخطيئة. حين رضيت بفك الحصار * * * ثورة على الزمان... وأشياء أخر تسافر كالحلم القرمزي، وترحل أنّى تشاء.. وحين تجيء الحقيقة يساقط الحلم سأصرخ: يا ليتني كسرة إلى أن قال: أقدّم نفسي للجائعين وأطعم ذاكرتي الفقراء ويا ليتني قطعة من قماش توفر للبائسين الكساء ويا ليتني خيمة تحتويهم وتشملهم بوفير الغطاء ويا ليتني كنت أغنية تخفّف ما فيهم من عناء وعود على بدء حديث بتعبير مهموس، ولغة ذات إيقاعات خاصة إن صح هذا التعبير! أغنيات يحملها في قلمه وروحه ووجدانه! وأستاذنا الخطراوي يفكر في الخلاص الجماعي لا الفردي! فقصيدته مليئة؛ تحكي الكثير وتتخطى حاجز الصمت! في نفسه كل ألم الكون؛ فذاته فيها سقم ووجع العالم! فالشاعر أضاء شمعة في عالم مسيّج بالظلام والظلم! وتناول قضية أخذت من وقته ومداره الكثير! هي قضية وطن، ومأساة شعب وإنسانه مساحة بيضاء! أفرغ فيها الشاعر حزناً صادقاً ليس فيه زيف أو رياء! بحروف مردها الجنون والأسى، بوجع مؤلمة، تطوّق القارئ بحال من الشجن! مردها وطن ولد معه ولماض باق!... نبرات متشحة بالغيوم والخيبة... صيغت بها أشجانه! وارتحلنا (أرخبيل: مدن؛ مع بطولات خاض فيها الشاعر بين مدن بالوصف وعنف الحياة وقسوتها! لم تخل من الآلام والآهات المتلاطمة.. فكان دمعه يسبق مداده: عدت وحيدا هائما ومفلسا بخارج الأسوار كما بدأت ... في مخارج الأبواب وفي يدي اليمين يراعة ومحبرة وفي اليسرى كتاب يغني للتراب مصارع الأحب