حسناً فعلت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عندما نشرت أعمال الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري الشاعر اللبناني الشهير في خمسة مجلدات، وحسناً فعلت الدكتورة سهام أبو جودة، التي نالت شهادة الدكتوراة على أطروحتها عن الأخطل الصغير، عندما جمعت آثار الشاعر الشعرية والنثرية فجاء المجلد الأول متناولاً سيرة الشاعر وأدبه والمجلد الثاني يضم الديوان الكامل للمرة الأولى لأن شعر الأخطل لم يسبق له أن نشر كاملاً. والمجلد الثالث يتناول آثاره النثرية والذي يجمع خاصة افتتاحياته التي نشرها في جريدته "البَرق". والمجلد الرابع يضم الرسائل التي تبادلها الشاعر مع شعراء وأدباء وعظماء عصره. والمجلد الخامس والأخير يضم أقوال وآراء النقاد في شعره، الى مصادر دراسته. لا شك في أن هذا العمل الضخم قد استغرق وقتاً وجهداً كبيرين نشكر عليه الدكتورة سهام أبو جودة. والأخطل الصغير شاعر من أبرز شعراء العربية في هذا القرن. ولد سنة 1885 أو 1890 وتوفي سنة 1968 قد عاش في ظل ثلاثة عهود: الحكم العثماني ثم الانتداب الفرنسي على لبنان ثم عهد الاستقلال. وعانى من ذلك كله كشاعر وكصحافي تفاعل مع أحداث وطنه لبنان والبلدان العربية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة العربية. وهو يعبّر عن ذلك في ما نظمه من شعر وكتبه من نثر وهو ينم عن التمزق وعن رفض الواقع الذي يحرم الشعب حريته ويغتصب عدالته ويسدّ عليه منافذ الرؤيا الخيّرة. فأدبه وشعره ونثره رسالة حرّة مجردة تدعو الى الإخاء والعدل والوفاق، هدفها تحرير الإنسان من عبودية الاستبداد والظلم والجهل والتعصب. فتتبّع الأخطل المحن العامة التي نزلت بأمته وتقصيّه الأنباء ومعايشته للأحداث جميعها أظهرت ترابطاً وثيقاً بين الصحافي والشاعر، فجاء شعره معالجة للوضع السياسيّ والاجتماعيّ أو تعبيراً وجدانياً خالصاً. فقد تعاطف الصحافي والشاعر وتكاملا، إذ تسنّى للأخطل الشاعر أن يستل من الصحافة بعض قضاياها وأن يدمجها في أحواله الفنية بما يشبه الإلتزام. فالصفة الفنية لم تحصره في برج عاجي، إذ انعكست فيه أحداث العصر، فاتخذها منطلقاً الى ابداعه الشعري الفني بعد أن انصهرت في نفسه وأصبحت حالة وجدانية ذاتية الى حدّ بعيد. ولعله كان من دعاة أن يكون الأدب تعبيراً عن مآسي الأمة. وهو القائل: "الأمة التي لا تعنى بقصائدها الحمر لا تستحق قصائدها البيض". والأخطل مدح ورثى وافتخر ولكنه في الأغلب لم ينظم قصائده مجاملة أو التماساً لنعمة بل إثباتاً لوجوده كشاعر يعيش في عصره ويتفاعل مع أحداث عصره ويعبّر عن شعوره ازاءها وكان ينظم في المناسبات مثل موت عظيم أو اعتلائه العرش أو سدة الحكم أو حدوث كارثة طبيعية أو ما شابه ذلك، ولكنه كان يرتفع بشعره عن المناسبة الآنيّة ويسمو الى حدّ المشاركة الإنسانية. فنراه في رثائه للملك فيصل الأول ملك العراق يصوّر مأساة البطولة في مصرع النسر وما تركته المأساة من جراح في صدر كل عربي. وفي رثاء سعد زغلول، الزعيم الوطني المصري، يشكل موت الزعيم قضية هي قضية كفاح قائد في سبيل شعبه وتحرير وطنه من المستعمر. وفي رثاء جبران خليل جبران عبّر عن مأساة العبقرية في المجتمع الذي يعيش فيه فمأساة جبران هي مأساته هو، صوّر من خلالها يأسه من لبنان وخيبته. عار على لبنان أن يغفل أدباءه الذين يتشردون ويغتربون عنه طلباً للحياة الكريمة. وعندما يمدح فإنه يذكر مناقب الممدوح في سعيه الى الخدمة الوطنية والى تقدم بلاده. فإذا ما مدح رجال السياسة فإنه يمجّد البطولة السياسية والمواقف الجريئة التي يقفها السياسي في سبيل الدفاع عن وطنه وعن كرامة شعبه. وفي مدحه الأدباء فهو يمجّد كذلك البطولة الأدبية. وهو قادر على تحويل المناسبة الى حالة وجدانية فنية، إذ يقع في مراثيه ومدائحه على ما يشبه المطابقة بين ذاته وأشخاصه والقضايا التي رافقت أبطاله السياسيين، لا سيما أنه عاش في قلب التيارات المحلية والعربية فإذا قضاياها قضاياه وأبطالها نماذجه. شعره الغزلي وأما غزل الأخطل الصغير - وهو أغزر ما نظم من شعر - فهو حصيلة الجمع بين الحضري الذي يلامس الإباحية، والعذري الذي مصدره دواوين الأمويين من العذريين وبقية نزعة مثالية في النفس الشرقية، وشعر الرومانطيقيين الفرنسيين كموسيه ولامرتين وفينيي، التقت في نفسه مذاهب في الحب اختلفت منبتاً ومشرباً وزمناً، ولكنها اتفقت في جوهرها من حيث أنها صادفت في نفسه موقعاً حتى كأنها أحوال نفسه ذاتها. تغنّى الأخطل بالحب من حيث هو شعور فردي جوهري كشاعر، ومن حيث هو عاطفة إنسانية سامية، وعامل من عوامل نموها وتطورها نحو الأحسن لما فيه من رفق وتعاطف وتسامح. وبذلك جعل من تجاربه الذاتية ومعاناته الوجدانية غداءً له، ثم وسّع مجاله بما استلهم من واقع الحياة الاجتماعية، ولا بدع أنه قدّس الجمال الذي هو مبعث الحب ورَفَد الحب بالراح فإذا هما توأمان، وهو القائل بأن روحه قد توزعت أرواحاً: بعضها للهوى وبعضها للجمال وبعضها للراح. وحب الشاعر ليس وقفاً على المرأة بل يتعداها الى حب الجمال وحب الطبيعة وحب الوطن. بل أنه يحب الحب في جميع مظاهره، يلقاه في الطبيعة، وما تجلّى فيها من مظاهر الروعة وما اختلج من عواطف سامية، فهو يري أن كل شيء يُحب، كل شيء حتى الجماد. فتش الأخطل الصغير عن الحب في قصص الغزل الشهيرة عند العرب القدماء كما في قصيدته "عروة وعَفراء" واستلهامه الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة في قصيدته "عمر ونعم" أو استلهامه كبار الشعراء الرومانسيين الفرنسيين كما في قصائده "المسلول" و"ماذا أقول له" و"الإِناء المكسور" و"الى امرأة" وسواها من القصائد التي اقتبسها أو ترجمها بتصرف عن الفرنسية. وقد جعله سعيد عقل في مقدمة ديوانه "شعر الأخطل الصغير" شاعر الغزل من غير مُنازَع. وانه واحد الوحداء في الغزل. يمزج الأخطل في غزله بين الشهوة الجسدية والحب الصافي العفيف. ولقد جاء غزله استجابة الى ذوق عصره الذي يشوقه أن يقرأ شعراً غزلياً لا يتسم بالفجور والإباحية وهو يلف غزله بستار شفاف من أجل التمويه تاركاً للقارىء أن يفترض ما وراءه فهو يلمّح ولا يصرّح! وهكذا فإن الحب العذري البريء ما فتىء يجتذبه، فالعفة والرقة والأدب كانت تشغله والجمال كذلك، بيد أن الطهر فوق جمال المرأة. ولعل أجمل قصيدة له تعبيراً عن ذلك هي "سلمى الكورانية" فهذه القصيدة جمعت أهمّ ما امتاز به الشاعر ألا وهو الغزل والوطنية. وأحياناً يخالط غزله شيء من الحزن والحنين والبكاء واللوعة والشكوى، يشكو شقاءه في حين والتياعه لفراق الحبيب وهجره. ويتسم أحياناً بالعتاب، فالحبيب جفاه، وهجره فترك جراحات عميقة في نفسه. وكان فشله في الواقع ينقله الى عالم الأحلام والأماني فيتمنى أن يكون وحبيبه نجمتين في السماء جارتين أو كجناحي طائر لا يفترقان، لكنه لا يلبث أن يعود الى الواقع فيرى أحلامه العذاب ذابلات وأمانيه هاربة كالضباب. وخلاصة القول أن غزل الأخطل أنه في أول عهده كان يدور حول السرد والمخاطبة والاستفهام الساذج يستعين بها على ابراز لوعته وغزل لا يتعدى الصور القريبة المنال والتشابيه التقليدية المألوفة فالورد والعناب وغصن البان وعيون المها والجاذر ووجه البدر غالباً ما ترد في غزله الذي يشبه في صوره وتعابيره ما جاء في الشعر العباسي وخاصة عند العباس بن الأحنف والبهاء زهير وسواهما. ومن أبرز خصائص شعره الغزلي النغم والموسيقى وحسن اختيار الألفاظ ذات الجرس والتي تتآلف وتتسق مما أعطى شعره سمة خاصة به جعلته شعراً صالحاً للغناء غنّاه عدد كبير من كبار المطربين على رأسهم الموسيقار محمد عبدالوهاب. وهو في غزله مقلد فإذا المرأة عنده في حديقة الحيوان: فعيون المها والجاذر وأعناق الظباء، أو من حديقة النبات: فيشبه خدّها بالورد، وفمها بالأقحوان، وثديها بالرمان، وقدها بالخيزران وغصن البان وشعرها بالليل... شعره الوطني والسياسي عاش الأخطل الصغير قضايا وطنه لبنان كما واكب أحداث الأمة العربية وخصوصاً قضية فلسطين. وعبّر في قصائده عن الأحداث الاجتماعية والسياسية ومعاناة الشعب الرازح تحت نير الاستعباد لا يرتاح من نير حتى يخضع الى نير جديد. فمن نير الأتراك الى نير الاستعمار الفرنسي في لبنان وسورية وشمال أفريقيا والاستعمار البريطاني الذي سيطر على بلدان عربية عدّة على رأسها مصر والعراق والخليج العربي. وقد عبّر عن آرائه تلك بواسطة الشعر والنثر لأنه صحافي كان يعالج في جريدته البرق التي غالباً ما كانت دولة الانتداب تعطلها كما كانت تفعل السلطة العثمانية من قبلها. وقد أحصت له الكاتبة سبعاً وعشرين قصيدة سياسية تناول في عشر منها العهد الحميدي والدستور العثماني، وجمال باشا السفاح. وفي ثلاث منها نال من سياسة فرنكو باشا وتدهور الأوضاع في متصرفية جبل لبنان، ونظم قصيدتين في تمجيد الأرزة واستقلال لبنان بعد الحرب، واثنتين في موقفه من سياسة الانتداب ونقمته على الدولة المنتدبة وخمساً في استقلال لبنان، وقصيدة في سورية، واثنتين في فلسطين واثنتين في تحية مصر. ومن شعر المواقف أيضاً قصائد المدح والرثاء ولا سيما التي يتناول فيها بعض الزعماء السياسيين والقادة والملوك العرب وقد سبق وأشرنا اليها. والقصيدة لا تعدو أن تكون سرداً لواقع الحال، تخلو من الأغوار الفكرية في معالجة الحرية والاستبداد، غير أن الشاعر استعاض باللوحات الشعرية والفيض الشعوري الساخط، وبإبراز المظالم، وعيش الشعب المسهّد في أقبيته النميمة، والوشاية، والقهر، والفساد، والنغم الخطابي المثير للعاطفة الساذجة. وهو يتناول كذلك السفّاح جمال باشا الذي شنق الأحرار في سورية ولبنان سنة 1915 - 1916. ويتناول قضية المفارقة، بل الطلاق القائم بين حكام لبنان وآمال شعبه. التزم فيها النزعة الرومانسية الإصلاحية سياسياً واجتماعياً، وعبّر عن ضمير الأمة من خلال ذاتيته. وتمتاز هذه القصيدة بالرؤى الصُوَرية، يرسم فيها البلاد سفينة حطمها الاستعباد، ونخرها السوس، من محتكرين ومستبدين، تمرّغت في حمأة الشهوات وديست بالأرجل، زعيمها جلاد وأمينها جاسوس، والحكام عصابة دأبها الخداع والمكر، يجبون الضرائب من دمع البائسين، ومن قوت الفقراء ودم الأطفال. فيجزع لحالهم، ويستنفرهم لمحاكمة الحكام المستأثرين بالسلطة ونصرة الوطن الجريح. ولكن ماذا جنى الشاعر من ذلك كله سوى اليأس والحزن والعذاب والحرمان والبؤس؟! وفي وجدانياته أثناء الحرب العالمية الأولى نجد اليأس مسيطراً فارقته فرحة الشباب واسودت الدنيا في ناظريه وقضى الدهر على آمال الغرّ. شعر المناسبات لم يسلم شعر الأخطل من المناسبات شأنه في ذلك شأن شعراء زمانه. ولكنه يرتفع في كثير من الأحيان عن المناسبة - والشعر هو ابن المناسبة - والشاعر الكبير هو الذي يتخطّى المناسبة - كالرثاء والمديح والتهنئة - ويحولها الى حالة وجدانية يصهرها في نفسه فيأتي شعره شعراً غنائياً رائعاً. ولكنه في بعض الأحيان يأتي مديحه متكلّفاً ليس فيه سوى المجاملة المفرطة. ومديحه هذا يتناول نفراً من رجالات السياسة والدين والمجتمع ممن أسدوا خدمة للمجتمع رغم أنه في أول عهده بالشعر هاجم شعر المديح والذين ينظمونه لأنه نابع من التزلف والمسايرة. وهو يرد مديحه الى الوفاء وليس الى أي شيء آخر كالتكسب أو الارتزاق أو جني أية منفعة مادية أو معنوية حين يكتب قصيدة يحيّي فيها الشاعر خليل مطران. وفي الواقع لم يمدح الأخطل تزلفاً واستعطافاً أو تكسباً - ولكنه يعبّر عن عاطفة صادقة وانفعالات وجدانية حميمة في الغالب. لذا نراه يمدح بما يشارك فيه كأن يشيد بمناقب الممدوح في سعيه الى الخدمة الوطنية وتقدم البلاد. فإذا استثنينا قصيدته "عيد الجلوس" - التي سبقت الإشارة اليها - والتي هنّأ بها السلطان عبدالحميد في عيد اعلان الدستور سنة 1908، فإننا لم نقرأ له مدحاً في أحد من رجال السياسة العثمانيين. وأما الرثاء فله في شعر الأخطل حصة الأسد وأحصت له أبو جودة اثنتين وأربعين مرثية، ثلاث عشرة خصّ بها الزعماء والقادة السياسيين، واثنتين وعشرين رثى فيها الأدباء والشعراء، وله سبع قصائد موزعة في رثاء والده والطيارين فتحي وصادق وسواهم. وهو في رثائه، شأن شعراء جيله أمثال شوقي وحافظ، في قلب التيارات القومية المحلية والعربية، فإذا قضاياها قضاياه ومصائبها مصائبه وأشهر قصائده الرثائية في رثاء سعد زغلول والملك فيصل الأول وجبران خليل جبران وأحمد شوقي. نثره حسناً فعلت أبو جودة التي جمعت نثره بين دفّتي كتاب وهو كان قد نُشر في جريدته "البرق" التي أسسها سنة 1908 وأوقفها عن الصدور سنة 1932 بعد أن تعرضت الى التوقف والتعطيل أثناء الانتداب الفرنسي. كان يكتب افتتاحياتها ويضمنها آراءه السياسية والاجتماعية والوطنية ويتناول فيها قضايا تهم الشعب أو تمس حقوقه وحريته وجعلها منبراً للدفاع عن وطنه لبنان وسائر الأوطان العربية الى تناول الشؤون الأدبية وتشجيع الأدباء والشعراء على نشر نتاجهم فيها. وهو جمع بين الشاعر والصحافي الذي يهتم بهموم الشعب ويتتبع المحن التي تلم بالوطن ويدافع عن العمال والفلاحين والناس البسطاء والمساكين. والى ذلك كان من دعاة القومية العربية والتحرر والاستقلال ونبذ الطائفية والمتاجرة بالأديان. دافع عن حق البلدان العربية في الاستقلال وعن حق فلسطينوالعراق وسورية ومصر ولبنان. والى ذلك فهو يكتب في أصحابه من الأدباء والشعراء ورجالات الفكر والأدب. وخير ما نختم به ما يقوله عنه توفيق يوسف عوّاد: "لقد غنّى بشارة الخوري الجمال والحبّ والحق والحرية، ولبنان والعروبة. وديوانه ليس سجلاً لآلامه وآماله فحسب، بل لآلام جيل كامل وآماله".