للأسرة الاباظية انتشار واسع في مصر في جميع الميادين، تجد بينها رجل السياسة ورجل الزراعة ورجل الاقتصاد ورجل القطن والصحافي والاديب والممثل ومهندس الكهرباء ومهندس الاتصالات السلكية واللاسلكية والمشتغل بالتجارة ووكيل السيارات والعسكري وأستاذ الجامعة والناشر ورجل القانون، بل منهم خبيرات في الطهي وفي الآثار. ولعلها اكبر اسرة حظيت بالرتب والالقاب في مصر، فكان بينها باشوات وبكوات يفوق عددهم عدد اصحاب هذه الرتب في اي عائلة اخرى. ولكن لا يُعرف من بيهنا الا شاعر واحد هو عزيز اباظة، وكان بدوره يحمل رتبة الباشوية. ولئن كان عهد عزيز اباظة بالشعر راجعاً الى فترة الشباب، الا انه يبرز بقامته الشامخة التي شارفت قامة احمد شوقي 1868-1932 الا في عام 1952 عندما فاجأ المجتمع الادبي بديوان "انّات حائرة" الذي وقفه على رثاء زوجته الراحلة، فكان ثاني ديوان في رثاء الزوجه بعد ديوان "من وحي المرأة" للشاعر عبدالرحمن صدقي 1897-1973 الذي صدر عام 1945 وصدر بعدهما ديوان "حصاد الدمع" للشاعر الدكتور محمد رجب البيومي في عام 1979 وكتاب "جَمُدَ الدمع" للعلامة الاردني روكس بن زائد العزيزي اطال الله بقاءهما، وقد صدر كتابه في عام 1981 وهو مزيج من الشعر والنثر. وقد استقبل ديوان عزيز اباظة استقبالاً احتفالياً من جانب جميع اعلام الفكر: طه حسين 1899-1973 وعباس محمود العقاد 1889-1964 والدكتور احمد زكي 1894-1975 وسيد قطب 1906-1966 واحمد امين 1886-1954 واحمد حسن الزيات 1885-1968. وعندما التقيت بعزيز اباظة للمرة الاولى، وهو في هذا المجد السامق، لم اتخيل أنه يمكن ان يكون قد سمع باسمي من قبل. فالكبار الكبار لا يهتمون بمن هم دونهم. ومع ذلك سألني، وكان عائداً لتوه من مديرية المنيا التي كان يشغل فيها منصب مدير المديرية وهو اللقب القديم للمحافظ، ان كان لي سميّ هناك يطالع مقالاته الاسبوعية بعنوان "سوانح" في جريدة "الانذار" المحلية، فقلت له: وعسى ان تكون راضياً عن هذا السميّ. فقال: ولولا رضائي لما اهتممت بمتابعة سوانحه. فقلت له انني هو كاتب هذه المقالات التي ابعث بها للجريدة بالبريد. ثم اضفت أنني لم احلم ابداً ان يكون من قرائي عزيز اباظة باشا الذي له بفنون الكتابة بَصَرٌ شديد، وله بأساليب النثر والشعر عناية كبرى. لم تكن هذه هي التحية الوحيدة التي حظيت بها من عزيز اباظة، اذ قرأ لي مقالاً عنوانه "الضاد الحيّة النامية" في "مجلة التربية الحديثة" التي كان يحررها استاذنا الدكتور امير بقطر 1899-1966 فبعث اليّ برسالة تشجيع واطراء قال فيها "يسعدني ان اشكرك على الجهد الضخم الذي تبذله من سنوات وسنوات في الدفاع عن هذه اللغة الكريمة وما يُراد ان تُقذف بها من حملات هدامة في شكل العامية تارةً وفي شكل ما يسمّونه بالشعر الحديث تارة اخرى، وان كنت ارجو شيئاً، فإنما ارجو ان توالي اتحاف انصار الفصحى بمثل هذه البحوث القيمة". فشكرته على تشجيعه لي، ولا سيما لأن الذين ارتفعت منازلهم في الحياة كثيراً ما يضنّون بالثناء على مَنْ ليسوا من طبقتهم. كان عزيز اباظة معروفاً بلين الجانب والنأي بنفسه عن خوض المعارك او المشاركة في جدل عقيم ولهذا ادهش عارفيه عندما شارك في مناظرةٍ اقيمت في القاعة الشرقية بالجامعة الاميركية في القاهرة في 9 نيسان ابريل 1956 - وكنت من شهودها - حول شعر المهجر، اذ حمل عليه حملة شعواء، ان دلت على شيء فإنما تدل على انه كان يرتجل الحديث دون إلمام كافٍ بشعر المهجر وبآثار اعلامه، حيث قال "ان شعر المهجر لم يبلغ اشده، فكيف يمكن ان نذكر شوقي الشاعر المسيطر المبدع ونحن نتحدث عن شعراء المهجر بأساليبهم الضعيفة ولغتهم الركيكة... فشعراء المهجر فيهم رطانة وفي شعرهم خشونة". والغريب ان كلامه هذا جاء بعد محاضرةٍ مستوعبةٍ ألقاها الشاعر المهجري جورج صيدح 1893-1978 استشهد فيها بنماذج رائعة من شعر المهجر. فانبرى للرد عليه صيدح نفسه والشاعر المصري محمد عبدالغني حسن 1907-1985 والصحافي المصري محمد زكي عبدالقادر 1909-1982 في حين كتب عباس محمود العقاد يقول "ان عزيز اباظة، ان فاته الانصاف في حملته فلم يفته حسن النية. والمهجريون اكبر من مدرسة لاتساع مذاهبهم ولتنوع طرائقهم ونزعاتهم. لقد وفوا لأوطانهم وللغتهم وأقاموا جماعة عربية كبيرة في البلاد الغربية خلّدتهم هناك وخلّدت معهم الادب العربي". وترددت اصداء هذه الحملة في مصر حيث سارع الاباظيون الى الدفاع عن عميدهم، في حين اندفع الاديب المهجري نظير زيتون 1896-1967 للذود عن حياض المهجريين فقال "ان ذنب الادب المهجري انه انطلق من قيود التقليد او المحاكاة والجمود والنسج على المنوال، واستزرى بعض التعابير القديمة التي تفشّى فيها الابتذالُ والمناهج البدويّة البعيدة عن اوضاع الحضارة النامية، وصدف عن النهجية او الكلاسيكية الباردة المجترة التي لمعت في عصر الطلل والسيف والجمل. ذنبُ الادب المهجري انه دفن بعض الالفاظ والتعابير المحنّطة، واستخرج من كنوز اللغة لآلئها وجواهرها الحافلة بالجزالة والطلاقة والجرس الموسيقي واللمعان والطرافة والسلاسة". وبعدما انجاب غُبار هذه المعركة، استصوبتُ ان اتدارك ما استشعرته من قلة إلمام عزيز اباظة بالشعر المهجري، فقدمت اليه مجموعة من دواوين كبار الشعراء كنتُ تلقيتها هدية من اصحابها، وكنت واثقاً من انه بعدما يطلع عليها سيراجع نفسه في احكامه المعممة الجائرة عن هؤلاء الشعراء. وانتهزت فرصة حوارٍ اجريته معه بتكليف من تلفزيون الظهران وسألته عمّا اذا كان ما زال يعتقد ان شعر المهجر غريب عن اللغة العربية وبه رطانة اعجمية. فقال ان في المهجر شعراء كباراً يندرجون ضمن الفحول، ولكن هناك شعراء لم تكتمل لهم ادواتهم وإن كانوا يجتهدون في استكمالها. فكان هذا التصريح من جانب عزيز اباظة آيةً على ان آفة الارتجال وعدم الاطلاع هي التي ورطته في الاحكام التي ساقها. اختار عزيز اباظة ان يُثري ديوان العرب بمجموعة من المسرحيات الشعرية التاريخية، ربما في محاكاة منه للشاعر احمد شوقي الذي كان مفتوناً بشعره بصورة عامة وبمسرحياته الشعرية بوجه خاص. ولعل عزيز اباظة تفوَّق على شوقي في "التكنيك" المسرحي، لأن اهتمام شوقي كان منصباً في المقام الاول على الحوار وليس على التفاصيل المتعلقة بالمسرح وبأزياء الممثلين وبتغيرات وجوههم، فهي امور تركها شوقي لمخرجي مسرحياته يرتبونها بأنفسهم، في حين حرص عزيز اباظة على تحديدها بنفسه كما يفعل المحترفون من مؤلفي المسرحيات. فأخرج المسرحيات الشعرية التالية "قيس ولبنى" و"العباسة" و"الناصر" و"غروب الاندلس" و"أوراق الخريف" و"قيصر" و"زهرة" و"شجرة الدر" و"شهريار" و"قافلة النور" الى جانب "ديوان عزيز اباظة" وديوان "تسابيح قلب" وديوان "إشراقات السيرة الزكية". وعندما مُثلت مسرحية "العباسة" في دار الاوبرا الملكية انعم الملك فاروق على عزيز اباظة برتبة الباشوية ودعاه هو والفرقة القومية التي مثلت المسرحية ولجنة القراءة الى قصر عابدين لتناول الشاي معه. ومُثلت مسرحيات اخرى لعزيز اباظة، صادفت نجاحاً كبيراً وبرهنت على ان الجماهير التي تستهويها في الغالب الاعم المسرحيات السوقية، تستطيب متابعة المسرحيات الشعرية بلغتها الراقية وموضوعها الرصين اذا ما تهيأت لها اسباب الاخراج على المسارح. ومؤكد انها لو مثلت اليوم لرفعت من شأن المسرح، واجتذبت اليه الجمهور المثقفين وعشاق الفن الاصيل. كان عزيز اباظة فارع الطول جميل الصورة فيه كل أمارات الارستقراطية الشريفة. عاش معظم عمره في وظائف حكومية دون ان "تُقَوْلِبَهُ" البيروقراطيات المتحكمة فيها، فقد كان بشخصه وبثقافته اكبر من جميع المناصب التي شغلها وهي قمة الجهاز الاداري في مديريات القليوبيةوالمنيا ومنطقة القناة والبحيرة وأسيوط. ومع ذلك حرص في كل عمره على عدم الاشتغال بالسياسة الحزبية التي هي الطريق السلطانية المفضية الى مناصب الوزارة، وكان يدرك ان الخلود الادبي ابقى وأدوم من اي منصب وزاري وإن طال به المقام. وكان طبيعياً ان يُختار رئيساً لمجلس ادارة مطبعة مصر وكانت في عهده من ارقى المطابع وأتقنها في مصر - ومن اسفٍ ان ابوابها مُغلقة اليوم تنعى من بناها. كما كان طبيعياً ان يُختار عضواً في المجلس الاعلى لرعاية الفنون والآداب ومقرراً للجنة الشعر بعد وفاة العقاد، وأن يُمنح جائزة الدولة التقديرية في عام 1965، وأن يُختار عضواً في مجمع اللغة العربية في مصر في عام 1959 خلفاً للمستشرق إنو ليتمان الالماني 1875-1958 وعضواً مراسلاً في المجمع العلمي العراقي. ولد عزيز اباظة في 13 آب اغسطس 1898 في قرية الربعماية بمحافظة الشرقية، وتخرج من مدرسة الحقوق في عام 1923، واشتغل بالمحاماة فترة انتقل بعدها الى سلك القضاء. وانتخب عضواً في مجلس النواب ثم عين عضواً في مجلس الشيوخ. ورزئ بوفاة زوجته الاولى في 19 حزيران يونيو 1942 وهي التي رثاها في ديوان "انات حائرة" وتزوج للمرة الثانية من كريمة اسماعيل صدقي باشا 1875-1949 رئىس الوزراء الاسبق. وكان لعزيز اباظة راوية يحفظ شعره ويلازمه ملازمة الظل هو انور احمد ت1984 وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية الذي اختير ليمثل دور الزعيم مصطفى كامل باشا 1874-1908 في الفيلم السينمائي الذي سجل سيرة حياته، وهو الذي اشرف على طبع "ديوان عزيز اباظة" وكتب مقدمة له، اذ كان عزيز اباظة قد توفي في 10 تموز يوليو 1973. وكان لعزيز اباظة قصيدة مترعة الابيات نظمها في الملك ادريس السنوسي ملك ليبيا وألقاها في محضره، وسمعته ينشدها في المذياع في ذلك الوقت، ولكنها أُسقطت من الديوان مع ان قيمتها الادبية تعلو على اي قيمة سياسية فيها. كما خلا الديوان من قصيدته الطويلة بعنوان "قال صفوان" وفيها اجرى على لسان هذا الحكيم نصائح يُهتدى بها في حكم الرعية وفي التعامل مع الناس وفي ارساء دعائم العدل وفي نُشدان الاصلاح وفي غياث البائسين وفي قمع الحقد، وفي النأي عن الغلواء، وفي حفظ الود وفي التحلي بالصدق، وفي الاعتصام بالتواضع، وفي رفع آيات الشكر للخالق. وهي قصيدة اثارت من الرضى مثل ما اثارت من السخط عند نشرها لأول مرة، فالمستكبرون استقبلوها بالنفور في حين استقبلها الخيرون بكل حفاوة. وكنتُ سألت عزيز اباظة عمّا يصنع الشاعر، فقال ان الشاعر لا يُصنع بل يولد وقد رُكبت فيه موهبة الشعر فطرياً، ولكن عليه ان يتذوق حلاوة الشعر القديم، ولا سيما شعر المتنبي والبحتري، والشعر الحديث ولا سيما شعر احمد شوقي لكي يصقل بذلك موهبته ويُنشد شعراً جميلاً لا نظماً سقيماً. وفي عام 1969 اقيم في لبنان حفل لتأبين الشاعر بشارة الخوري الاخطل الصغير 1885-1968 شارك فيه عزيز اباظة بقصيدة استوحى مطالعها من قصيدة الاخطل في رثاء شوقي الموسومة "في رُبى الخلد" حيث قال الشاعر اللبناني: قف في رُبَى الخلد واهتف باسم شاعره فَسُدْرَةُ المنتهى ادنى منابره إلهةُ الشعر قامتْ عن ميامنه وربّةُ النثر قامت عن مياسره فقال عزيز اباظة في رثاء الاخطل: قف في ربى الخلد واهتف في مقاصره بشاعرٍ ملأ الدنيا كشاعره البحتري تهادى عن ميامنه يختال، والمتنبي عن مياسره والقصيدتان من البحر والوزن والقافية نفسه - والقافية تتكرر هنا وهناك لتقارب اللفتات الشعرية لدى الشاعريْن. وبين الشعراء قُربى وإن تباعد بينهما المكان والزمان وتوالي الحقب. * كاتب مصري.