القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    السعودية تتصدر دول «العشرين» في نمو عدد السياح الدوليين في 2024    البكيرية تستعد للاحتفاء باليوم الوطني 94 بحزمة من الفعاليات    الصين لا تزال المصدر الرئيس للاوراق العلمية الساخنة    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    أبناؤنا يربونا    تشكيل الإتحاد المتوقع أمام الهلال    مآقي الذاكرة    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على ضمك    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    إسرائيل - حزب الله .. لا تهدئة والقادم أسوأ    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    "الأوتشا" : نقص 70% في المواد الطبية و65% من الحالات الطارئة تنتظر الإجلاء في غزة    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخطل الصغير "أمير الشعراء" في ذكرى رحيله الثلاثين 1890 - 1968. شاعر "النهضة" المخضرم غنى المرأة والطبيعة
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 1998

ظلم الأخطل الصغير بعد مماته مثلما ظلم في حياته: ديوانه الشعري لم يكتمل حتى بعد مرور ثلاثين عاماً على وفاته وكتبه النثرية التي وردت عناوينها هنا وهناك لم تبق متوافرة. أمّا مقالاته الكثيرة التي كتبها في جريدة "البرق" فما برحت تنتظر مَن يجمعها وينفض عنها غبار السنين. ومَن شاء أن يقرأ الأخطل الصغير "شاعر العرب" و"أمير الشعراء" فلن يقع إلاّ على نسخة مصوّرة من كتاب "شعر الأخطل الصغير" الذي أصدرته دار المعارف عام 1961 وقدّم له الشاعر سعيد عقل ممتدحاً صديقه أيّما امتداح. أمّا ديوان "الهوى والشباب" الذي أصدره الأخطل بنفسه عام 1953 فهو يكاد يكون مجهولاً ولم تبق منه إلا نسخ قليلة، وقد ضمّ جزءاً مهمّاً من نتاجه لم يرد في الكتاب الثاني. ولعلّ السؤال الذي يواجه قارىء الأخطل اليوم هو: هل تكفي القصائد التي جُمعت في هذا الكتاب لتؤلّف صورة حقيقية وعميقة عن شعر الأخطل وعن تجربته الشعرية التي تخطّت الستين عاماً؟
طبعاً لا تكفي القصائد التي ضمّها كتاب "شعر الأخطل الصغير" لأن تكون مرجعاً نهائياً لقراءة تجربته ككلّ. فهي لم تحمل تاريخ كتابتها أوّلاً ممّا جعل مراحل الشاعر تندمج بعضها ببعض. ومعروف عن الأخطل أنّه شاعر المراحل وكلّ مرحلة من مراحله تختلف عن الأخرى اختلافاً بيّناً. وقد أُدخلت ثانياً بعض التبديلات على قصائد عدّة وعلى أبيات ومقطّعات ممّا دفع الأخطل نفسه على لوم ابنه وسعيد عقل معاً على ما فعلاه في جمعهما تلك القصائد. وقد أسقطت قصائد كثيرة من ديوان "الهوى والشباب" وهي تمثل نواحي أخرى من تجربة الأخطل ومن صنيعه الشعريّ، ومن دونها يصعب رسمُ مسراه ورصدُ التحوّلات التي عرفها نتاجه.
أمّا الظلم الذي كابده الأخطل الصغير في حياته فتمثل أكثر ما تمثل في الحملات النقدية التي جبهت قصائده وقد قام بها بعض الشعراء والنقاد وفي طليعتهم الياس أبو شبكة ومارون عبّود وفؤاد حبيش صاحب "المكشوف" وسواهم. وكانت "عصبة العشرة" سمّته آنذاك في الثلاثينات ب"حفّار القبور" نظراً الى ما عرّب نظماً من قصائد للشعراء الفرنسيين لم يتوان عن نسبها الى نفسه علاوة على ما اقتبس منهم في بعض قصائده "القصصية" الشهيرة ك"المسلول" و"عروة وعفراء" و"مآسي الحرب" وسواها. وأخذت عليه "عصبة العشرة" ما لم تأخذه على أيّ شاعر سواه كالغلوّ في الرثاء والمدح والتقليد الذي يتفاوت بين التأثر والسرقة وتمثّل العاطفة دون الإحساس بها... واتهم مارون عبّود الأخطل ب"الكذب الشعريّ" وهو في نظره "داء أدبنا الوبيل". وعن قصيدة "عروة وعفراء" قال الياس أبو شبكة أنّ الأخطل لم يخرج فيها على "الطريقة الموروثة البالية في الشعر" وأنّه نسي في بعض المواضع "أنّه يكتب شعراً لا خبراً محلياً". وفي كلامه هذا ألمح شاعر "غلواء" الى جفاف الروح التي أوقعت الصحافة السياسية الأخطل فيه. وكان الأخطل صحافياً من الطراز الرفيع وتشهد على رفعته هذه مقالاته السياسية والاجتماعية التي كان ينشرها في جريدته "البرق" التي أنشأها عام 1908. وليس من قبيل الصدفة أن يُسمّى الأخطل الصغير "صحافي شعر" بعدما انغمس في هموم الصحافة وشجونها ولا سيّما في مطلع حياته حين شرع يناضل ضدّ الحكم التركي الغاشم. ووفّق انطون غطاس كرم في القول عنه أنه كان "يصبّ قضايا الصحافي في أحلام شاعر".
وحين صدر ديوان "الهوى والشباب" عام 1953 وكان الأخطل تخطى الستين لم يجد فيه النقاد والشعراء ديواناً جديداً أو صوتاً جديداً فهو ضمّ قصائد البدايات المتفاوتة بين الغزل والوطنية وبعض المناسبات. ولعلّ تأخّر الأخطل في نشر ديوانه الأوّل أساء اليه بعض الإساءة ولو كان نشره في مطلع العشرينات كما عبّر صلاح لبكي "لكان له وقع الحدث". وبدا الديوان في مطلع الخمسينات وكأنّه مستعاد من مرحلة مضت وغدا غريباً عن المعترك الشعري الذي كان يشهد حينذاك أعمق تحولاته. وكان على الأخطل أن يحسّ غربته عن الشعراء الذين جايلوه وأعقبوه وسعى الى ترسيخ مكانته بينهم آخذاً ببعض النظريات الجديدة لكنه ظلّ ذلك الشاعر "المخضرم" الذي صعب تصنيفه ضمن "القديم" واستحال إلحاقه بالركب الشعري الجديد، وربما تكمن فرادة الأخطل هنا في كونه ينتمي الى القدامى والمحدثين في الحين عينه. وعُرِف عنه موقفه التوفيقي الذي جسّد حلقة بين المفهوم التقليدي للشعر والمفهوم الجديد له والمتمثل خصوصاً في النزعة الرومانطيقية. واعتبر صلاح لبكي في كتابه "لبنان الشاعر" أن الأخطل الصغير هو من مهّد لمدرسة الياس أبي شبكة "بما هيّأ من حجارة البناء وبما تخيّر من الألفاظ الرقيقة وتغنّى بجمال الطبيعة موثقاً عرى الصداقة بينها وبين الإنسان". ويقول الأخطل في ردّه على الصراع بين القدامى والمحدثين: "ما كهول الأدباء وشيوخهم من شبّان الأدب وأحداثه إلا بمنزلة الدرجات الأولى من السلّم، لولاها لم تثبت الدرجات العليا، أو بمنزلة الجذع من فروعه لولاه لم تستمد من التربة أزهارها وجمالها". وانطلاقاً من هذا الموقف وجد فيه الشاعر أدونيس شاعراً يمثل "طليعة الانتقال من الشعر الذي يرتبط بكتب الأدب وقواميس اللغة الى الشعر الذي يرتبط بالحياة اليومية وشجون القلب". واعتبره أدونيس "بداية من بدايات التغيّر في التعبير الشعري". وفعلاً لم يكن الأخطل الصغير بعيداً عن هموم الحياة وشجون الناس سواء في شعره الوطني أو الاجتماعي أم في مقالاته الصحافية. وكانت قصائده ومقالاته تلقى صداها العميق في الأوساط الأدبية والعامة من فرط ما تحمل من مواقف أخلاقية وآراء مثالية. ولم يدع الأخطل قضية من قضايا لبنان والعالم العربي إلا عالجها شعراً ونثراً. وكان يمارس الصحافة بروح شعرية والشعر ولا سيّما الوطني والاجتماعي بروح صحافية. فدافع عن الفقراء وهجا الحكام الظالمين ونادى بالعدالة وفضح العيوب التي تعتور المجتمع وكاد أن يكون "اشتراكياً" ولكن في المفهوم المثالي طبعاً. وهو يقول في هذا الصدد "أمام الإنسان سبيلان: إما حرب طاحنة وإمّا اشتراكية تحترم القوى العاملة وتحطّم فيها التيجان المستبدّة بمعول البنّائين فيرحم الإنسان أخاه الإنسان". ودعا الأخطل الى العلمانية والى نبذ الطائفية وناضل في سبيل الاستقلال مثلما ناضل ضدّ الاحتلال العثماني. ونادى ب"الأدب الملتزم" الذي سمّاه "الأدب الأحمر" الذي يكتبه "شاعر يستمدّ دمه حبراً لكتابة القصائد الخالدة، قصائد النخوة والأخاء والحرية". إلا أن الأخطل فهم الأدب الملتزم على طريقته إذ ظل محافظاً كي لا أقول تقليدياً في صنيعه الشعريّ المتجذّر في الذاكرة الشعرية العربية. وهو كان أوّلاً وآخراً شاعراً عربياً في ما تعني العروبة من سماحة وأصالة وعراقة. وكتب عن فلسطين ومصر وبغداد والشام وعن الشعراء والساسة العرب أجمل ما كتب من قصائد وطنية ورثائية حتى سُمّي "شاعر العرب" بلا منازع. وعروبة الأخطل حملت سعيد عقل مرّة على انتقاده جهاراً في حفلة أحيتها الجامعة الأميركية في بيروت عام 1937 وألقى الأخطل فيها قصيدة "عروة وعفراء" وما ان انتهى حتى نهض عقل قائلاً أنه لا يحترم شاعراً يعيش على ساحل البحر الأبيض المتوسط ويحمل نفسه الى الصحراء لتوشي قصائده. ولم يكن على الأخطل إلا أن يردّ عليه في بيتين له قائلاً: أنّه ترك معشر القوم الذين حاولوا هدمه في "جحيم من وساوسهم" وختمهما: "رحت أسحب أذيالي على السحب". إلا أن عقل لم يلبث أن صادق الأخطل حتى أنّه سمّاه "شاعر الغزل غير منازع" و"خادماً للحسن" وقال عنه: "في ذمة الجمال جهده المذيب، يهدم في سبيل بنيان أغنى". وحين اتّهم الأخطل بنزعته المنبرية انبرى عقل يدافع عنه معتبراً أن "المنبر كان، لكبار شعرائنا والناثرين بمثابة دار نشر".
ولئن بدا الأخطل تقليدياً في شعره الوطني وبعض رثائيّاته وفي شعره القصصي وبعض المنبريّات فهو استطاع أن يرتقي بنزعته التقليدية الى مصاف الصنعة الجمالية واللغوية المتقنة. حتى في ترجماته وما اقتبس عن الشعراء الفرنسيين الرومانطيقيين سولي برودوم، ألفرد دو موسيه، لويس بويه... كان عربياً في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه. ولم يكن تعريبه بعض القصائد إلا من باب التمرّس في اللعبة الشعرية الجديدة التي كان رسّخها الرومانطيقيون في فرنسا. وكان الجوّ الرومانطيقي يرين على الأوساط الشعرية اللبنانية والعربية ولم يكن عليه إلا أن يلحق بالشعراء الآخرين. وعرف الأخطل كيف ينظم القصائد والمقاطع المقتبسة مضفياً عليها سمات اصالته اللغوية. فهو كما يقول انطون غطاس كرم "يدمج أخبار "الأغاني" بأناشيد دوموسه حتى يتّحد الأصيل والدخيل على وتر واحد". أمّا في شعره القصصي ذي الطابع الأخلاقي والاجتماعي فابتعد عن الجفاف السرديّ الذي وقع فيه مثلاً خليل مطران وقد قال عنه الأخطل انه "شاعر سرد" واعتمد الطلاوة في الوصف والحذاقة في القصّ من غير أن يتخلّى عن المسحة الغنائية التي وسمت كلّ شعره. وفي هذه القصائد بدا الأخطل نظّاماً ماهراً وصانعاً بارعاً في التصوير وفي صوغ العبارات وتطويع الأوزان وصقل اللغة ونحتها كي تخلو تماماً من الشوائب والهنات. واتُهم الأخطل تبعاً لصنعته المتينة بالنزعة البرناسيّة والحذلقة والزخرف و"الزبرجة" كما عبّر مارون عبّود. إلا أن متّهميه أخطأوا في ما وجهوا اليه من تهم ولم يصيبوا منه مأخذاً حقيقياً فهو وإن أعمل قلمه كثيراً في شعره ذاك ونقّحه مثنى وثلاثاً لم يكن يقع في شرك الاصطناع والافتعال و"التنوّق" كما عبّر أيضاً مارون عبّود. وإذا غدت قصائده القصصية والوطنية اليوم تقليدية وقديمة أسوة بما كُتب عصر ذاك فهي ما برحت تحافظ على متانتها وجزالتها وكأنّها أمثولات في النظم والقصّ والتصوير. وهي أصلاً لم تعرف الهلهلة ولا الركاكة ولا النثرية التي عرفها مثلاً بعض الشعر المهجريّ وبعض النتاج الذي سبقه. غير أنّ شعريّة الأخطل الحقيقية لم تتجلَّ إلا في شعره الغزلي والوجداني. في هذه القصائد يبرز شغف الشاعر بالجمال وولعه بالغناء الوجداني وميله الى البلاغة والبيان والبديع. قصائد فيها الكثير من الطلاوة والرقّة، تغنّي الحبّ والألم وتستوحي سحرها من الطبيعة الفتّانة ومن الذكريات المشوبة بالكآبة الناعمة. ونجح الأخطل نجاحاً باهراً في الدمج بين الأناقة في التعبير والبساطة الصعبة التي تفيض بالعفويّة والتلقائية. وجمع بين المراس الحادّ والطلاوة فإذا أبياته تتهادى تهادياً نغمياً وتهمس همساً خفراً. ولعلّ هذه الصفات جميعها جعلت من الأخطل الصغير شاعر الجمال والرقّة، شاعر الألفة والعذوبة، شاعر النشوة والشفافية، شاعر اللطافة والرونق. وهذه الصفات ميّزته عن معظم مجايليه من الشعراء ومنحته فرادته كشاعر محافظ ومجدّد في الحين عينه. وقصائده الغزلية والوجدانية شاعت ولا تزال وما برح هواة الشعر يردّدونها نظراً الى رقّتها التعبيرية وسحرها البياني وموسيقاها اللفظية وجمالها التصويري. ولم تعرف هذه القصائد لا المداورة ولا الغموض ولا التعقيد ولا الثقل بل كانت واضحة وسلسة كلّ السلاسة وعذبة ولطيفة كالربيع في لبنان. وشعر الأخطل أصلاً هو شعر "ربيعي" بامتياز كما أشار عبداللطيف شرارة فالألوان تنبثق من صوره والأطياب تفوح من مفرداته والأضواء تلتمع في ثنايا عطفاته. والحالة "الربيعية" هذه جعلت الشعر هذا يحافظ على نضارته وألقه ويواجه مأساة الزمن والذكرى. عالم ربيعيّ يفيض بالظلال والورود والجداول والأضواء... عالم تكتشف فيه الحياة معناها الجميل الذي كاد يطمسه الحزن والألم واليأس. وليس من المصادفة أن ينهض هذا العالم على حطام الماضي وأرض الذكرى وتربة الخريف. ولم يحي الشاعر الحالة الربيعية المشبعة بالرواء والجمال والبهاء إلا ليواجه قباحة الحياة ويأس الزمن والحالة الخريفية التي تحتل قلبه وروحه. وبعدما خاب خيباته المختلفة سياسياً واجتماعياً واكتشف يقيناً أنّ الحاضر يزول والزمان يجري بلا رحمة والجمال يتلاشى ولم يبق أمامه إلا أن يستعيد الماضي ليجعل من الذكرى مرجعاً ومآباً. ولا غرابة أن يحضر الماضي بشدّة في قصائده الوجدانية فهو اليه يعود في غمرة كآبته وحزنه. وكلّما عاد الى الماضي تذكّر شبابه وهواه والأمل الذي لم يتحقق: "بكيت على الشباب بدمع عيني" يقول، وفي إحدى قصائده يقول أيضاً: "واهاً لأيام الصّبا وزمانه". وهي الذكرى في مفهومها الرومنطيقي تعيد الى الشاعر شعلة الحب، شعلة "الهوى والشباب": "كيف أنساك يا خيالات أمسي" يقول الشاعر في مطلع إحدى قصائده. والشاعر الذي وجد نفسه وحيداً مع خيالات أمسه أضحى شاعر الليل، شاعر الأرق والتأمل، شاعر الوجدان والأسى: أنا ساهر والكون نام/ وكلّ ما في الكون نام.../ نام الجميع ومقلتي/ يقظى تجول مع الظلام...". ويقول في قصيدة أخرى شاكياً: "أعرني بعض شجوك يا حمامُ/ فقد غلب الأسى وعصى الكلامُ". ومثلما هرب الشاعر الى الشراب لينسى يهرب أيضاً الى الحبّ ليواجه غدر الزمن وغيلة الأيام. والحبّ لدى الأخطل هو واقع وذكرى، قائم في الحاضر وفي الماضي على السواء، حبّ عذريّ وإباحيّ بعض الإباحية.
كان الأخطل الصغير عربياً في غزله وعلى طريقة عمر بن أبي ربيعة وبهاء الدين زهير وبعض شعراء الموشحات وهؤلاء هم الأقرب الى قلبه كما اعترف أكثر من مرّة يتغنّى الأخطل بالحبيبة ويسرد بعض أخبار حبّه وأحوال عشقه. وفي قصائده حضرت هند ونعم وسلمى وميّ وارتقى الغزل الى مصاف "النسيب" كما تقول العرب وهو رقيق الشعر في النساء واندمج في ما يُسمى "تشبيباً" وهو ذكر النساء ووصفهنّ. ولم يخرج غزله عن النمط القديم إلا قليلاً فمعانيه شبه مطروقة وكذلك موضوعاته كلهفة اللقاء ولوعة الفراق وألم الذكرى. قصائد غزلية لطيفة تذوب رقّة وتحناناً تحمل من بني "عذرة" براءة الحبّ وفطريته ومن الشعر الإباحي أعذب المفردات والصفات وتحفل برقيق المشاعر وأعذبها وأشدّها رومانطيقية. وبعض المعجم الغزلي الذي ساكن تلك القصائد يدلّ بوضوح على انتمائها العربي أوّلاً وعلى الاندماج بين الطبيعة والمرأة: مقلتا المها، عنق الظبا، ورد الوجنتين، رضاب المسك، قدّ كالقصب، وجه كالبدر...
والمرأة لديه هي سليلة الطبيعة تستمدّ جمالها من فتنتها وبهاءها من سحرها وبها تتكامل وترتقي في إحدى قصائده يقول: "قتل الورد نفسه حسداً منك/ وألقى دماءه في وجنتيك". وكثيراً ما ارتبط حبّ الأخطل بالذكرى فهو في أحيان غالبة جزء من ماضٍ سحريّ ولّى الى غير رجعة ولم يترك وراءه سوى بعض الذكريات. ولعلّ حبّ الأخطل هو حبّ الحنين والشوق، حبّ مستعاد من عمق الوجدان والسريرة وليس شهوة عارمة أو رغبة أو لذّة عابرة حتى وإن وردت لديه مفردات كالصدر والنهد والعنق... فالهوى هو في مرتبة الشباب الذي أضحى بمثابة ذكرى، يبتعد وينأى كلّما تقدّم العمر وبلغ: "ما كان أحل قبلات الهوى...". ربما أخطأ بعض النقاد في قراءة الأخطل الصغير قراءة جاهزة أي عبر الأنواع الشعرية والأغراض التي حفلت بها قصائده. فشعره يعصي على التصنيف "الموضوعاتي" ولا يُأسر داخل المدارس. فهو ليس تقليدياً صرفاً ولا جديداً كلّ الجدّة ولا هو رومانطيقي صرف ولا واقعي صرف.
شعر الأخطل الصغير هو شعر المراحل بل شعر النصف الأول من القرن العشرين في ما ضمّ من أبعاد وأحوال ومقامات. وشعره أوّلاً وآخراً هو شعر مناخ خاص، شعر جواء لم تكن مألوفة تماماً في مطلع القرن. شعره شعر الحريّة والعفوية والتلقائية وقد قال جملته الشهيرة التي تعبّر عن نظرته الى الشعر: "الشعر مشاع، لكلّ إنسان أن يحتكم فيه بما يستلذّه هو من رقّة وجزالة وبما يأنس به فهمه وروحه معاً". وكان لا بدّ أن يشيع شعر الأخطل الصغير في أصوات محمد عبدالوهاب وفيروز وسواهما وأن ينساب انسيابه الموسيقي المشبع بالطلاوة والرقة. في العام 1961 حين بويع إمارة الشعر وكان قد تخطّى السبعين وملؤه الخيبة من تلك المبايعة وقف الأخطل الصغير ينشد: "أيوم أصبحت لا شمسي ولا قمري..." وشبّه نفسه ب"عود بلا وتر". حينذاك كان يشعر أنّه ظلم كلّ الظلم لعدم مبايعته إمارة الشعر للتوّ بعد وفاة أحمد شوقي في العام 1932. لكنّ الظلم الأشدّ والأعتى هو الذي لحق به بعد وفاته وتمثل أكثر ما تمثل في عدم اكتمال ديوانه.
ترى الى متى سيبقى الأخطل الصغير شاعراً يتيماً، شاعراً بلا ديوان؟
الأخطل الصغير : قصائد مجهولة
عرف الحبيب
رويدك فالصبابة لا تدوم
ولا يبقى لك الوجه الوسيم
وسوف إذا رأتك العين يوماً
يغضّ بها الأباء فلا تشيم
وسوف أراك لكن ما أرى ما
به قد كنت من قبل أهيم
وهبتك في الهوى قلبي فأمسى
وفيه منك يا قمري كلوم
فكيف تريد أن أبقى مقيماً
على حفظ العهود ولا تقيم
وتطلب في الهوى خلاً جديداً
ويرغب فيك صاحبك القديم
محال أن تكون لنا حبيباً
وأن نرضى بودّ لا يدوم
وأن تختال من عجب علينا
ولا نشكو اليك ولا نلوم
فيا مَن لجّ في الأعراض مهلاً
فليس لما أتيت به لزوم
ليالينا التي مرّت سلامٌ
عليها كلّما هبّ النسيم
نعم أنسى
أتحسبني أنسى ليالينا التي
رشفنا الهوى فيها على نور بدرها
أتحسبني أنسى خفوق جوارحي
وقد شدّ رأسي زندها نحو صدرها
أأنسى الذي أملت عليّ عيونها
فنظّمته عقداً نفيساً لنحرها
أأنسى؟ نعم أنسى إذا صحّ زعمهم
بأنّ فتى غيري يلمّ بفكرها
على ثغرها قبلاً طبعت قصائدي
بثغري فليهنأ فتاها بثغرها
في الهوى
ولي في الهوى شعرٌ أرقّ من الهوا
وأصفى من الدمع الذي أنا ساكبه
تميس به الأغصان يانعة الجنى
وتختال في برد الجمال كواعبه
سرت كهرباء الروح
سرت كهرباء الروح منك فأثّرت
عليّ بما في الروح من قوّة الجذب
فلا بدع أن يهتزّ قلبي كلّما
تسرّب روح الكهرباء الى قلبي
ملائك أم شياطين
فواتن كتب الله الشقاء لنا
بهنّ هل من فتى فيهنّ يفتينا
شيخ المحبّين قل لي هل فواتننا
كنّ الملائك أم كنّ الشياطينا
يا بدر
لك الله يا بدر من صابر
على حالة ذاب منها الحجر
فلم أجتز السنوات القلائل
حتى سئمت فعال البشر
وأنت على طول عهدك بالناس لم تبرح
الدهر هذا المقر
فما أنت يا بدر إلا جماد
وما فيك للروح أدنى أثر
وربّك لو كان فيك شعور
لكان تولاّك منا الضجر
كيف لا أشتهي
سألتني وطفلها يعلقُ النهد
فيمتصّ نهلة غبّ نهله
ويشمّ الأريج من جنّة الصدر
ويروي من نبعها العذب غلّه
أفلا تشتهي لو أنّك طفل
مثل هذا؟ فقلت قول مولّه
كيف لا أشتهي إذا كان حظّي
حظّ هذا الصغير أفعل مثله
ابسمي للشباب
ارقدي تحرس الملائك عينيك
فعيناك عزّ هذا الملكِ
وابسمي للشباب فهو جميل
واتركي مقلتي الشقية تبكي
في عروقي بقية من دمائي
لم يدعها جفناك من غير سفكِ
* * *
هوذا البدر جاء يلثم خدّيك
فلمَ لا تقصين ذا الصبّ عنكِ
إن يكن في النجوم حبّة نور
فأنا في الأنام حبّة مسكِ
تحت رسم
سوف تبقى يا رسم ذكرى الصبا ما
دمت حياً ودمت غضّ الأهاب
وسأرنو يوماً اليك وأشدو
يا حنيني الى زمان الشبابِ
بين الأرض والسماء
الى جانب البدر نجم جميل
يرفرف قلبي دوماً عليه
فيحسبه النجم طيراً فيهدي
إليّ السلام على جانحيه
ولا يرجع القلب حتى يعود
ورسوم وجدي في مقلتيه
فيا قلب ما أنت إلا بريد
فمنه إليّ ومنّي إليه
ما أظلمك
أنحلتني بالهجر ما أظلمك!
فارحم عسى الرحمان أن يرحمك
مولاي حكمتك في مهجتي
فارفق بها يفديك مَن حكّمك
كنت غريقاً في بحار الهوى
فصادني جفناك صيد السمك
سلِ الدجى كم راق لي نجمه
لما حكى مبسمه مبسمك
مولاي إن واصلتني بالجفا
وملت في شرخ الصبا مغرمك
قل للدجى مات شهيد الهوى
فانثر على أكفانه أنجمك
* هذه القصائد مختارة من شعر الأخطل الصغير المجهول وكان نشرها في جريدته "البرق" من العام 1909 الى العام 1921، ولم يضمها ديوانه "الهوى والشباب" ولا المختارات التي حملت عنوان "شعر الأخطل الصغير". وفي الذكرى الثلاثين لرحيل الشاعر تحتفل به في بيروت مؤسسة البابطين من 14 الى 17 الجاري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.