مذ اعلنت "الخطوط الجوية البريطانية" في 23 الشهر الماضي عن ظهور تشققات او شروخ في اجنحة طائرات "كونكورد" السبع التي تمتلكها وقررت سحب احدى الطائرات من الخدمة لإجراء الاصلاحات عليها، ثم تبعتها في اليوم التالي "الخطوط الفرنسية" واعلنت ظهور التشققات في اربع من طائراتها الست، والاسئلة تنهال حول موضوع أمان السفر بالطائرة. وفاقم الحادث المؤلم لطائرة "كونكورد" التابعة ل"الخطوط الجوية الفرنسية" في 25 الشهر الماضي الاسئلة حدّة، لا سيما ان الناس ظنوا ان الحادث ربما كان بسبب التصدعات المشار اليها. وعند الاعلان عن الكارثة الغت "البريطانية" رحلات ال"كونكورد" مساء ذلك اليوم، ثم عادت في اليوم التالي واعلنت استئناف هذه الرحلات كالمعتاد بعدما اوضحت ان عمليات تدقيق مكثفة تمت على طائرات ال"كونكورد" واثبتت انها مأمونة. وفي الحقيقة ان هذه الكارثة هي الاولى التي تتعرض لها طائرة ال"كونكورد" خلال فترة خدمتها التي بدأت العام 1973. وللحديث عن التشققات قد يكون من المفيد اعطاء بعض المعلومات المهمة عن هذه الطائرة النفاثة الفريدة من نوعها. تاريخ "كونكورد" عام 1962 تم توقيع اتفاق بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية لإنتاج اول طائرة ركاب تفوق سرعتها سرعة الصوت. وعام 1969 تم تجريب اول نموذجين تجريبيين من الطائرة احدهما فرنسي والآخر بريطاني في طلعتين تجريبيتين، ونهاية عام 1973 طارت اول طائرة "كونكورد" تجارية. وعام 1976 بدأت الطائرة رحلاتها المنتظمة. غير ان بعض الجهات الاميركية اعتبر "كونكورد" طائرة عالية الضجيج ومنعها من النزول والاقلاع من نيويورك. لكن عام 1977 اصدرت المحكمة العليا في اميركا حكماً بالسماح لها بالنزول والاقلاع من نيويورك بعدما ثبت بالتجارب العملية ان مستوى الضجيح الناتج عنها يقلّ بعض الشيء عن مستوى الضجيج الناتج عن طائرة "بوينغ 747". كما حاول الاميركيون الصاق تهم اخرى ب"كونكورد" مثل التلوث والاضرار بالبيئة، كما قالوا ان عمرها لن يزيد عن سبع سنوات. والواضح ان السبب كان السبق الذي احرزته الدولتان المنتجتان على اميركا واستطاعتا انتاج اول طائرة ركاب تسير بسرعة اعلى من سرعة الصوت. وهذا كله أثّر على كثير من شركات الخطوط الجوية في العالم. فبعد الاعلان عن الطائرة في الستينات كان هناك طلب على 74 طائرة "كونكورد" من 16 شركة من شركات الطيران العالمية، غير ان هذه الطلبات أُلغيت كلها في ما بعد، ولم يتم انتاج سوى 16 طائرة فقط اوصت عليها "الفرنسية" و"البريطانية" اي الشركتان الوطنيتان للبلدين المنتجين للطائرة. ولا شك ان قلة عدد الطائرات المُصنّعة أثّر على كلفة الطائرة وجعلها مرتفعة التكاليف، وجعل الركوب فيها خاصاً بالاثرياء الذين يستطيعون دفع القيمة المرتفعة لتذكرة السفر بين تسعة آلاف وعشرة آلاف دولار لرحلة الذهاب والعودة. ولكن مَن كان وقته من ذَهَب فان قيمة التذكرة لا تعني شيئاً مهماً عنده، فرحلة ال"كونكورد" بين لندنونيويورك تستغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة في حين ان الطائرات الاخرى تستغرق اكثر من سبع ساعات. وليس هذا فحسب بل ان المسافر من لندن او باريس يصل الى نيويورك قبل موعد سفره بأكثر من ساعة ونصف ذلك اذا اعتبرنا التوقيت المحلي في كل من بلدي الاقلاع والوصول، مما يعني الاستفادة من كامل يومه هناك، اضافة الى انه يستطيع ان يعود في اليوم نفسه بعد انقضاء عمله. وعلى رغم ما انفقته الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي على تطوير طائرات ركاب اسرع من الصوت الا ان كل مشروعاتهما لم تتم لأسباب مالية وتقنية، ما جعل ال"كونكورد" الطائرة المدنية الاسرع من الصوت الوحيدة في العالم حتى الآن. يُشار هنا الى انه عام 1973 تحطم نموذج طائرة ركاب سوفياتية اسرع من الصوت من طراز "توبوليف 144" في معرض باريس العالمي للطيران، ما ادى، على ما يبدو، الى ايقاف مشروعها. تتميز ال"كونكورد" بشكلها العام المثلثي الذي يندمج فيه البدن مع الجناح مع الذيل. كما تتميز بمقدمتها ذات الشكل المخروطي الطويل والرفيع. وهذه المقدمة قابلة للإمالة من اجل اتاحة مجال الرؤية للطيّار في مرحلتي الاقلاع والحط على الارض. ما بدن ال"كونكورد" فيتميز بنحافته وبأنه صقيل. ومن الجدير ذكره انه نتيجة للسرعة العالية للطائرة ترتفع درجة حرارة البدن بسبب الاحتكاك مع الهواء المحيط بالطائرة فيزداد طوله في مرحلة الطيران فوق الصوتي بما يعادل 25 سنتيمتراً. وعلى رغم البرودة الشديدة للهواء في اعالي الجو الذي تطير عنه ال"كونكورد" نحو 54 درجة مئوية تحت الصفر فان درجة حرارة مقدمتها تصل الى نحو 130 درجة مئوية. وتحلق ال"كونكورد" على ارتفاع 55 ألف قدم اقل من 17 كلم وعند هذا الارتفاع تطير بسرعة تعادل ضعف سرعة الصوت، اي بسرعة 2150 كلم/ ساعة. ولكي تقلع من الارض يجب ان تصل سرعتها الى نحو 400 كلم/ ساعة، ويستغرق تسارعها الى هذه السرعة اقل من نصف دقيقة، وتحتاج الى مدرج طوله نحو 3600 متر. اما عندما تحطّ على الارض فتناهز سرعتها 300 كلم/ساعة. ومن ناحية الابعاد فطولها الكلي يتجاوز بقليل 62 متراً طول "بوينغ 747" يفوق 70 متراً وطول اجنحتها 25.5 متر، وعرض مقصورة الركاب التي تستوعب 100 راكب كلهم من الدرجة الاولى هو 2.6 متر، ووزنها عند الاقلاع زهاء 186 الف رطل، واكثر من نصف هذا الوزن هو للوقود الذي تستهلكه محركاتها الاربعة لكي تطير بها الى مدى يصل الى اكثر من ستة آلاف كيلومتر. ومن الجدير ذكره ان ال"كونكورد" في رحلتها تطير بسرعة فوق صوتية خلال نحو 60 في المئة من الوقت فقط، وتكون سرعتها في باقي الرحلة دون سرعة الصوت. واضافة الى ركّابها المئة تحمل ال"كونكورد" تسعة افراد هم مجموع طاقمها ثلاثة ملاحين في مقصورة القيادة، وستة افراد في خدمة الركاب. التشققات تتعرض انشاءات الطائرة خلال رحلتها الى انواع كثيرة من الاحمال، وهذه الاحمال تتغير من مرحلة الى اخرى خلال الطيران. وهذا التغير في الاحمال يسبّب تعباً او كللاً في الهيكل. وهذا التعب هو الذي يسبب التشققات في انشاءات الطائرات. ولعل ابسط مثال على التعب ما يمكن ان يجربه كل واحد منا، فيأخذ سلكاً معدنياً يثنيه في منتصفه، ثم يعيده الى وضعه المستقيم، ثم يثنيه في المكان نفسه، ولكن في الاتجاه الآخر، ثم يعيده الى وضعه المستقيم، ثم يثنيه في الاتجاه الاول، ثم يكرر هذه العملية عدة مرات، وسيجد في النهاية ان السلك المعدني ينقطع على رغم متانته الظاهرة بعد عدد من مرات الثني. وسبب الانقطاع هو التعب الذي حصل في السلك نتيجة تغيّر الاحمال عليه في اتجاهات مختلفة. ولكن ما هو الوضع بالنسبة الى انشاءات الطائرة؟ وهل ستنكسر بعد عدد من مرات التحميل كما حصل في السلك؟ ان كل الطائرات الحديثة الموجودة في الخدمة الآن قد تم تصميمها لعدد من ساعات الطيران او عدد من رحلات الطيران. وفي العادة فان هذا يُترجم الى عدد من سنوات الخدمة. وتبلغ سنوات الخدمة بين عشرين وثلاثين سنة حسب عدد ساعات الطيران وعدد رحلات الطائرة خلال هذه المدة. فعدد رحلات ال"كونكورد" الفرنسية المنكوبة ناهز اربعة آلاف رحلة، وناهز عدد ساعات طيرانها 12 الف ساعة طيران. وهي دخلت الخدمة عام 1980 وكان من المتوقع ان تنسحب من الخدمة سنة 2005. ومن المعلوم ان لكل طائرة سجل تُكتب فيه سيرة حياتها مع الصيانة التي تمت عليها. والامر نفسه ينطبق على طاقم القيادة في اي طائرة حيث لكل فرد سجل خاص به. وفي خلال فترة خدمة اي طائرة تظهر تشققات في انشاءاتها. ويُعبّر عن ظهور التشققات لأول مرة بنشوء التشققات. وتكون التشققات في البداية صغيرة لا تُرى بالعين المجردة، ولكن اجهزة الكشف عن التشققات تستطيع ان تكتشف هذه التشققات وتحدد ابعادها. ومع استمرار الطائرة في عملها تحصل عملية انتشار للتشققات وفيها تزداد اطوال الشرخ. وهناك بُعد يسمى بالطول الحرج للشرخ، اذا وصل اليه طول الشرخ فإنه لا بد من عملية الاصلاح، لأن الاستمرار من دون اصلاح يعني انكسار او انهيار الجزء الذي ظهر فيه التشقق. وعمليات الاصلاح نفسها تختلف حسب مكان الشرخ، فقد يكون من الضروري تغيير الجزء الانشائي الذي حصل فيه التشقق، وقد يكون من الممكن اصلاحه من دون تغيير. وهناك طرق للاصلاح لا مجال لذكرها في هذا المقال المختصر عن الموضوع. ومهندسو الصيانة هم الذين يحددون الحل الامثل. وتحدد برامج صيانة كل نوع من انواع الطائرات اربعة امور رئيسية في برامج الكشف عن الشروخ، وهي: متى يبدأ الكشف عن التشققات بعد دخول الطائرة في الخدمة، وما هي الفترات التي يجب اعادة الكشف فيها، وما هي المناطق من الانشاءات التي يجب فحصها للكشف عن التشققات فيها، وما هي طريقة الكشف المفضلة لكل منطقة من هذه المناطق. مبادئ في تصميم الطائرات لعل سائلاً يسأل: أليس بالإمكان تصميم الانشاءات بما يحول دون حصول تشققات فيها؟ وفي الحقيقة فان كل الطائرات التي صُمّمت قبل الستينات صُمّمت على اساس مبدأ "العمر الآمن". وفي هذه الطريقة فان الانشاءات تصمم لتتحمل احمالاً اكبر بكثير من الاحمال التي ستتعرض لها في حياتها مما يعطيها عامل أمان كبيراً نسبياً. ولكن هذا يعني ان الانشاءات ستكون ذات وزن كبير مما يعني انخفاض الكفاءة، لانه مع ازدياد وزن الطائرة يجب ان تكون محركاتها اكبر، وبالتالي يكون استهلاكها للوقود اكثر. وما زالت القطع الميكانيكية في الطائرات تعتمد على مبدأ العمر الآمن في التصميم، ومن اهمها عدة الحطّ او عجلات الهبوط. ولكن منذ مطلع الستينات بدأ الاتجاه نحو مبدأ آخر في التصميم ثبت انه افضل من سابقه، وهو مبدأ "أمان الانهيار". وفي هذا التصميم يكون عامل الامان اصغر ولكن الانشاء يستطيع ان يستوعب شيئاً من العطب، ولذا يُسمى "متحمل العطب" لأن هذا العطب لن يسبب له انهياراً كاملاً، وانما اذا حصل عطب في جزء تحملت باقي الاجزاء الحمل الذي كان يحمله الجزء المعطوب. وهذا العطب الذي يظهر في شكل تشققات او شروخ يتم الكشف عليه في فترات الصيانة ويتم اتخاذ القرار المناسب بشأنه. فمهندس الصيانة هو الذي يقرر ان كان طول التشقق قد وصل الى الحد الحرج الذي ينبغي معه الاصلاح، او ان هذا الطول ما زال دون الحد الحرج. وطرق الكشف عن التشققات كثيرة، ولكل طريقة اجهزتها الخاصة بها، وتُسمى طرق الكشف هذه بطرق "الكشف غير المتلف" لأنها من المفروض ان تكشف العيوب في الانشاءات من دون الحاجة الى اي فك او اتلاف للانشاءات. كما ذُكر آنفاً فإن طائرات ال"كونكورد" قد تُسحب من الخدمة عام 2005 او 2007 على أبعد تقدير. وبما ان طائرة ال"كونكورد" هي الطائرة المدنية الوحيدة في العالم الاسرع من الصوت، فإن غيابها سيكون مؤسفاً اذ استطاعت الطائرات الست عشرة التي تم انتاجها من هذا الطراز ان تنقل نحو اربعة ملايين مسافر خلال مدة خدمتها التي زادت على عشرين عاماً، وحققت خلالها اكثر من 200 الف ساعة طيران. وفي الوقت الحاضر هناك مشروع اوروبي وآخر اميركي لانتاج طائرات ركاب اسرع من الصوت، ولكن ليس من المنتظر ان تدخل هذه في الخدمة قبل العام 2010 والطائرات التي يتم تصميمها في الوقت الحاضر تركز على عدة امور لتكون مقبولة اقتصادياً. واول هذه الامور زيادة سعة الطائرة لتستوعب بين 200 و250 راكباً في ثلاث درجات هي الدرجة الاولى، والدرجة السياحية، ودرجة بينهما. اضافة الى ذلك فإن التصميم الجديد راعى زيادة مدى الطائرة الى اكثر من عشرة آلاف كيلومتر، لتشغيل الطائرة بين آسيا واميركا. اما على المستوى الهندسي فإن الابحاث في هذا المجال مهتمة بأمرين، اولهما تطوير مواد افضل لاستخدامها في الانشاءات، وثانيهما تطوير محركات مناسبة. * الاستاذ في كلية الهندسة بجامعة الملك عبدالعزيز، جدة، المملكة العربية السعودية البريدالالكتروني: [email protected]