في 11 تموز يوليو 2000 انعقدت في الولاياتالمتحدة قمة كامب ديفيد الفلسطينية - الاسرائيلية التي دعا الرئيس الأميركي اليها مستبقاً انعقادها بالاشارة الى أن لا ضمانات لنجاحها ومحذراً من عودة العنف في حال فشلها. هذه القمة التي مورست ضغوط شديدة لعقدها جاءت بناء على إلحاح من رئيس الحكومة الاسرائيلية من جهة ورغبة من الرئيس الأميركي الذي يطمح الى تحقيق انجاز تاريخي قبل تركه سدة الرئاسة في البيت الأبيض. وبعد اسبوعين من المفاوضات المغلقة أعلن الرئيس الأميركي عدم التوصل الى اتفاق وبدأ الحديث عن مرحلة ما بعد قمة كامب ديفيد، فطُرحت وما زالت تُطرَح الأسئلة عن حقيقة ما جرى في المفاوضات، وما هو الجديد في الموقف الاسرائيلي او الموقف الرسمي الفلسطيني. هل فشلت القمة كلياً أو جزئياً؟ هل ستعود المفاوضات أم أن الوضع سيشهد مواجهة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال؟ هل سيتم اعلان تجسيد الدولة الفلسطينية في 13 ايلول سبتمبر المقبل وفق ما أكدته قرارات المجلس المركزي الفلسطيني في دورته الأخيرة المنعقدة في 2/7/2000 أم سيتم تمديد هذا الموعد استجابة للضغوط الاميركية؟ هل سيتم نقل السفارة الاميركية الى القدس؟ هل سيتم عقد قمة ثانية للوصول الى اتفاق؟ لا شك في أن تصريحات رئيس الحكومة الاسرائيلية ومواقفه قبل ذهابه الى القمة على رغم أنها جاءت بناء على طلبه، كانت تشير الى عدم امكان التوصل الى اتفاق نهائي لأن باراك أعلن بوضوح انه سيذهب الى القمة ويعود منها حاملاً لاءاته الخمس: لا عودة الى حدود الرابع من حزيران يونيو، لا انسحاب من القدس، لا تنازل عن غور الأردن، لا لوجود جيش غربي النهر، لا لإزالة المستوطنات، ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين. وبالتالي وفي ظل هذه اللاءات فإن ما قدمه باراك للمفاوضين الفلسطينيين لا يتعدى كونه أكثر من فتات لا يمكن أن يقبل به الشعب الفلسطيني تحت أي ظرف من الظروف ولا تستطيع أي قيادة فلسطينية أساساً أن توقع عليه إلا إذا أرادت أن تحكم على نفسها بالانتحار السياسي. ان الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء باراك يدركان أن ما تم عرضه يتناقض تماماً مع مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والواقع أن المقترحات الأميركية التي تدعي انها تمثل حلاً وسطاً بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ليست سوى أفكار اسرائيلية جرى تسويقها بلسان اميركي. فما هي أبرز هذه المقترحات؟ مضمون المقترحات إن ما تم تقديمه في قمة كامب ديفيد الثانية مجموعة من المقترحات الاسرائيلية تم عرضها من قبل الولاياتالمتحدة وأهمها موضوع القدس ويقوم على الآتي: - ضم مستوطنات جيلو، التلة الفرنسية، جيعات زئيف، يسكاف زئيف للمدينة ووضعها تحت السيادة الاسرائيلية. - ضم الأحياء الفلسطينية للسلطة الفلسطينية وهي بين حنينا، شعفاط، العسولة، الشيخ جراج، ومنح الفلسطينيين سلطة وظيفية عليها. - تقسيم البلدة القديمة في القدس الى أربعة أحياء: الحي اليهودي والأرمني تحت السيادة الاسرائيلية، والحي الاسلامي والمسيحي تحت السلطة الوظيفية للفلسطينيين. - وبالنسبة الى المسجد الأقصى، فإن ما فوق الأرض يكون تحت السيادة الفلسطينية ويرفع عليه العلم الفلسطيني وما تحت الأرض الهيكل فهو مسؤولية اسرائيلية، ويتم وضع قوات دولية في المنطقة، وكل هذا تحت سيادة عليا اسرائيلية. - توفير ممر آمن للمسؤولين الفلسطينيين الى المسجد الأقصى والسماح بفتح مكتب لرئيس السلطة الفلسطينية في القدس القديمة. - وبصدد موضوع اللاجئين، فإن أقصى ما تم عرضه هو القبول بعودة بعض اللاجئين تحت عنوان لمّ شمل العائلات اضافة لحالات انسانية الى مناطق ال48 وعودة آخرين لمناطق الضفة والقطاع والاستعداد للمساهمة في صندوق دولي للتعويض والتوطين. واقترح الأميركيون تشكيل صندوق من أجل التعويض برأسمال أولي مقداره 30 بليون دولار. - وأما بصدد موضوع الأرض والحدود المستوطنات، فإن ما تم تقديمه يتخلص بالانسحاب من 80 الى 85 في المئة من الحدود الشرقية، وضم الكتل الاستيطانية الكبرى الى اسرائيل، وإقامة خمسة مواقع عسكرية على الحدود مع نقاط إنذار مبكر في الجبال والقبول بقوات دولية وفلسطينية وأردنية على المعابر مع وجود اسرائيلي. رفض الجانب الفلسطيني المفاوض هذه المقترحات وبالتالي لم يتم توقيع الاتفاق، وهذه خطوة جيدة عبر الشعب الفلسطيني عن ارتياحه لها، خصوصاً بعد التنازلات الكبيرة التي تم تقديمها من المفاوض الفلسطيني بعد توقيع اتفاقات أوسلو. والمهم الآن الثبات الفلسطيني على الموقف لأن الضغوط الاميركية والاسرائيلية والتهديدات وسياسة الابتزاز ستستمر وتتصاعد، وهذا ما يفسر تهديدات الادارة الاميركية بإعادة النظر بعلاقاتها مع الجانب الفلسطيني والحديث عن نقل السفارة الاميركية الى القدس الأمر الذي يؤكد انحياز الولاياتالمتحدة الى جانب اسرائيل وابتعادها الكامل عن مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة، ويعيد طرح السؤال القديم - الجديد عن امكان اقامة سلام شامل وحقيقي في المنطقة استناداً الى المرجعية الدولية ومنع الاستفراد الاميركي في الحل. إذا كان السلام المراد فرضه اميركياً واسرائيلياً يستند الى منطق ميزان القوى وفرض ارادة طرف على طرف آخر، فإن مثل هذا السلام لن تكتب له الحياة ولن يستمر لأن الشعب الفلسطيني سيرفضه، وكذلك الأمة العربية ما لم يستند الى مبادئ الحق والعدل وعودة الحقوق الى اصحابها. ولذلك فإننا نرى ضرورة وقف المفاوضات القائمة على اساس المرجعية الأميركية ونقل ملف القضية الفلسطينية بكامله الى هيئة الأممالمتحدة وإشراك العالم في هذا الحل لممارسة الضغط على اسرائيل وإلزامها تطبيق قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بقضية فلسطين. جرى التركيز في وسائل الاعلام على موضوع القدس وانه كان السبب الرئيس في عدم التوصل الى اتفاق في كامب ديفيد، وبطبيعة الحال لا يمكن التقليل بأي شكل من الأشكال من أهمية وقدسية وخطورة موضوع القدس وأبعاده العربية والاسلامية والمسيحية. ولكن موضوع اللاجئين الفلسطينيين في اعتقادنا لا يقل أهمية وخطورة عن موضوع القدس، ويبدو ان هناك محاولات اسرائيلية وأميركية لتبهيت وتحجيم أهمية وخطورة هذا الملف الذي يشكل جوهر قضية فلسطين بأبعادها الشاملة، إذ لا يمكن تصور قيام سلام وأمن واستقرار من دون عودة اللاجئين الفلسطينيين الى أرضهم وديارهم التي هجروا منها قسراً عام 1948، استناداً الى القرار 194 الذي يضمن حق العودة للاجئين الفلسطينيين. فرصة لإعادة ترتيب البيت لا شك في أن رفض المقترحات الاسرائيلية والاميركية في قمة كامب ديفيد أمر جيد ترك ارتياحاً واضحاً في صفوف الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه كما ترك ارتياحاً على الصعيد العربي. والسؤال الأساسي المطروح هو: ماذا بعد قمة كامب ديفيد؟ ان مواجهة الضغوط الاميركية - الاسرائيلية واستمرار الثبات على الموقف يتطلبان اعادة بناء الذات الوطنية الفلسطينية التي تصدعت بعد توقيع اتفاقات أوسلو، ويتطلبان اعادة ترتيب البيت الفلسطيني بصورة شاملة وجادة لتجميع طاقات الشعب بمختلف قواه وتياراته السياسية والفكرية حتى يتم الإعداد لمواجهة مختلف الاحتمالات، إذ لم يترك الاحتلال أمام الشعب الفلسطيني من خيارات سوى المواجهة والمقاومة لخلق معادلات جديدة تجبر الاحتلال الاسرائيلي على إعادة النظر برؤيته وطروحاته التي تتنكر للحقوق الوطنية الثابتة وفي مقدمها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة الحقيقية وعاصمتها القدس. فالمطلوب اليوم هو وضع الآليات الجادة لتطبيق قرارات المجلس المركزي في دورته الأخيرة التي انعقدت يوم 2/7/2000 وتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد تشارك به القوى والاتجاهات كافة في الساحة الفلسطينية من دون استثناء لتقييم مسار العمل الفلسطيني خلال المرحلة الماضية ورسم استراتيجية عمل تستنهض كامل قوى شعب فلسطين وتأكيد التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية وتوفير قيادة جماعية للشعب الفلسطيني تواجه تحديات المرحلة المقبلة. وكذلك التمسك بقرار المجلس المركزي إعلان تجسيد الدولة الفلسطينية في 13 ايلول سبتمبر وبقرار فلسطيني من دون مقايضة أو مساومة. ولا شك في أن إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإعلان الدولة يتطلبان خلق المناخات الملائمة في الساحة الوطنية. أي إطلاق جميع السجناء السياسيين ومحاربة الفساد وتوفير المناخات الديموقراطية التي تستنهض الطاقات الكبيرة للشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه. وعلى الصعيد العربي بات مطلوباً عقد قمة عربية تتخذ قرارات واضحة بدعم الشعب الفلسطيني وتوجه رسالة واضحة للولايات المتحدة واسرائيل والعالم أجمع تقول إنه لا يمكن ايجاد سلام شامل في المنطقة من دون استعادة القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين وانسحاب اسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة. أليس ضرورياً تحرك لجنة القدس ومنظمة المؤتمر الاسلامي لبلورة موقف عربي اسلامي لمواجهة سياسة الغطرسة والعدوان التي يمارسها حكّام اسرائيل ومن وراءهم؟ * كاتب سياسي، عضو المجلس الوطني الفلسطيني.