كان الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الاسرائيلي استجابا طلب الرئيس الاميركي فمددا اقامتهما في منتجع كامب ديفيد، واستكملا، بعد عودته من قمة الدول الصناعية الثماني، مناقشة قضايا الحل النهائي. ولم تستطع الوزيرة مادلين اولبرايت ومساعدوها، كما كان متوقعاً، تحريك مواقف الطرفين من مكانها الحساس، في غياب كلينتون. ويمكن اعتبار الأيام التي امضاها كلينتون في اليابان بمثابة اجازة قسرية امضاها الوفدان الفلسطيني والاسرائيلي، كل على طريقته الخاصة وحسب حاله النفسية. وكان التعتيم الاعلامي الاميركي الشامل حال دون التقاط صور حية تبين كيف أمضى كل من عرفات وباراك اجازته. فالقراءة الموضوعية لظروف الرجلين، بعد الجولة الأولى من المفاوضات، تشير الى ان عرفات استمتع بها قدر المستطاع. فالإجازة القسرية جاءت بعد معركة قاسية صمد فيها في مواجهة الضغوط الاميركية الشديدة التي تعرض لها على مدى ثمانية ايام، وهو لم يعد شعبه بأكثر من عدم تقديم تنازلات تمس المحرمات الفلسطينية. ولا يستطيع أشد معارضي عملية السلام تجاهل تصدي عرفات الناجح للابتزازات الاسرائيلية، وتكريسه حالة من الندية في المواقف الفلسطينية - الاسرائيلية، والتكافؤ في المفاوضات، بعكس الصورة التي تشكلت عن حالة المفاوض الفلسطيني في مفاوضات المرحلة الانتقالية. الى ذلك، أكدت مفاوضات كامب ديفيد ان تساهل أبو عمار في قضايا الحل الانتقالي لا ينطبق على القضايا المصيرية. ولا يمكن انكار ان القضية الفلسطينية استعادت من بوابة كامب ديفيد موقعها الطبيعي كقضية متفجرة، وتجدد الحديث على كل المستويات ان منطقة الشرق الأوسط لن تشهد السلام والاستقرار اذا لم يتم حل هذا النزاع، وأقرت القوى الدولية مجدداً بأن الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي لا يزال مستمراً، وهو الأساس، وما وقّّع من اتفاقات بين الطرفين لا يحول دون انفجاره بصورة دموية في كل لحظة. أما باراك فأمضى اجازته في كامب ديفيد مهموماً مغموماً بعدما اكتشف خطأ تقديراته لحالة عرفات ومواقفه من قضايا الحل النهائي. وظل متوتراً وسهر الليالي وهو يفكر في كيفية الخروج من المصيدة الذي أوقع نفسه فيها عندما استفز عرفات وتحداه، وضغط على الرئيس كلينتون لعقد القمة قبل استكمال التحضيرات الضرورية لنجاحها. توهم باراك ان في إمكانه الانضمام الى قائمة عظماء اسرائيل من بوابة كامب ديفيد، والتوصل الى اتفاق شامل يرسم انهاء النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، مقابل اعتراف اسرائيل بدولة فلسطينية من دون حدود، ولا تكون القدس عاصمتها، وتقوم على قرابة 80 في المئة فقط من أراضي الضفة والقطاع. وتوجه الى واشنطن بعد ان تعهد لشعبه بالعودة منها من دون المساس بلاءاته الخمس الشهيرة، ومن دون خدش أي من خطوطه الحمراء. ولم يفكر باراك في اصطحاب بيريز أو بيلين أو رامون أو يوسي ساريد الخبراء في الشؤون الفلسطينية حتى لا يقاسموه اكليل الغار الموهوم. لكن الرياح لم تجري كما اشتهاها باراك، وتحركت السفينة الفلسطينية في كامب ديفيد في اتجاه معاكس لتقديرات مستشاريه للشؤون الفلسطينية. وأظن ان أبو عمار كرر مع ذاته، مقولته الشهيرة، "هبت رياح الجنة" التي يقولها عادة بعد اطلاقه اللاء الحقيقية، وتبنى مواقف بشأن القدس واللاجئين والحدود تتعارض مع ورقة يوسي بيلين التي لخصها بعد حواراته الخاصة مع أبو مازن، وايضاً، غير التي استخلصها الوزير شلومو بن عامي والمحامي جلعاد شير من لقاءاتهم مع أبو علاء وباقي الأطقم الفلسطينية المشاركة في مفاوضات الحل النهائي. لا شك في ان مفاوضات كامب ديفيد بلغت، مع بدء جولتها الثانية، مرحلة شديدة الحساسية، ويصعب تصور استمرارها أكثر من اسبوع آخر، أو انفضاضها بعد أكثر من اسبوعين من دون اتفاق ما ينقذ القمة من الفشل، خصوصاً وان للرئيس كلينتون مصالح مباشرة في تواصل المفاوضات، ووصولها الى اتفاق قبل رحيله من البيت الأبيض. وفشلها يظهر عجز القطب الأوحد في السيطرة على الصراعات الدولية ومعالجتها، وقد يلحق أذى كبير بتطلعات الحزب الديموقراطي بالفوز بانتخابات الرئاسة وطموحات هيلاري كلينتون بالفوز بمقعد مجلس الشيوخ. وبصرف النظر عن تصرحيات الأطراف الثلاثة حول مبررات التمديد، فالمؤكد ان رئيس اللجنة التنفيذية وافق، مكرهاً، على تمديدها، مثلما كانت موافقته على المشاركة فيها، ومثلما صبر على العنجهية الاسرائيلية التي ظهرت بأبشع صورها، وتحمل على مضض منع الإدارة الاميركية اعضاء اللجنة التنفيذية من اللقاء به والتواجد بجانبه، وبإمكانه العودة الى شعبه من دون اتفاق، وعودته دون تنازل عن الحقوق الفلسطينية يعتبر انتصاراً، ولا أحد، بما في ذلك المعارضة، يطالبه في ظل الظروف المحيطة بالقمة وموازين القوى السائدة، بأكثر من ذلك. أما باراك فهو خير العارفين ان عودته الى اسرائيل من دون اتفاق يعني بداية نهاية حياته السياسية. فالمعارضة لن تغفر له مساسه في كامب ديفيد بالمحرمات الاسرائيلية. وفشله مع الفلسطينين بعد فشله مع السوريين، يؤكد، للاغلبية التي انتخبته باعتباره رجل الأمن القادر على صنع السلام، عجزه عن ترجمة برنامجه الانتخابي وترجمة توجهات حزب العمل نحو صنع السلام مع العرب، وقد يدفع اعداداً مهمة من كوادر حزب العمل، وقطاعاً واسعاً من ناخبيه، وخصوصاً أنصار السلام، الى الانفضاض من حوله. وما تسرب من أنباء يفيد بأن لاءات باراك الخمس تحولت كلها عبر المفاوضات الى "لعمات"، وان خطوطه الحمراء تحركت مثل اشارات المرور الضوئية، وتغير لونها وبات أقرب الى اللون الأصفر. صحيح انه لا يزال يتمسك بمدينة القدس موحدة وعاصمة أبدية لاسرائيل، ويرفض العودة الى حدود ما قبل 5 حزيران 1967، ويرفض الاعتراف بمسؤولية اسرائيل عن النكبة التي حلت باللاجئين عام 1947 - 1948 ويرفض الاقرار بحقهم في العودة الى أرضهم حسب قرار الاممالمتحدة رقم 194، ويصر على بقاء المستوطنات، ويرفض وجود جيش اجنبي غربي نهر الأردن... الخ، لكن الصحيح ايضاً، انه تنازل بعد اسبوع واحد من المفاوضات عن السيادة الاسرائيلية الكاملة والمطلقة على المدينة المقدسة، ووافق على وجود سيادة فلسطينية كاملة على بعض احيائها، وباء سيادة مشتركة في اجزاء أخرى، واقر بتحمل اسرائيل مع آخرين المسؤولية عن نكبة اللاجئين وتشريدهم وقبل عودة بعضهم الى أرضهم التي صار اسمها اسرائيل، ووافق على قيام دولة فلسطينية مستقلة على ما يزيد عن 95 في المئة من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وعلى تسليم حدود قطاع غزة مع مصر للدولة الفلسطينية، ويدور نقاش تفصيلي حول استئجار قواعد عسكرية محدودة المساحة ولفترة زمنية محددة، في الاغوار ومرتفعات رام الله والخليل، وايضاً، حول وجود طرف ثالث يتولى مراقبة المعابر والحدود مع الأردن، وسلم باخلاء عدد كبير من المستوطنات وابقاء آلاف من المستوطنين تحت السيادة الفلسطينية اذا قبلوا بذلك. الى ذلك بينت الجولة الأولى من مفاوضات كامب ديفيد وموافقة باراك على تمديدها ان مصالحه الخاصة والعامة ومجريات المفاوضات قادرة على اجباره على خفض سقف توقعاته. وكل ما يتمناه هي العودة الى اسرائيل باتفاق ينقذ مستقبله السياسي ويحفظ ماء وجهه في مواجهة أنصاره وخصومه، ويساعده في لملمة أوضاع ائتلافه الحزبي الذي بناه في اطار "اسرائيل واحدة"، ويشهل له اعادة تشكيل حكومته التي فرط عقدها قبل ذهابه الى كامب ديفيد. واذا كانت خطوط ولاءات باراك انتقلت بعد اسبوع واحد فقط من المفاوضات من اللون الاحمر الى الأصفر، فبمزيد من الصمود الفلسطيني والدعم العربي والاسلامي للحقوق الفلسطينية، التي يتمسك بها مفاوضوه، يمكن ان تتحول لاءات باراك في هذه القمة أو بعدها من الأصفر الى الأخضر، لا سيما وان مفعول الأسباب التي دفعته لقبول تمديد اقامته يزداد اكثر كلما تأخر أكثر. ومفيد تدكير الجميع ان كثير من اللاءات الاسرائيلية القديمة المتعلقة بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفقلسطيني، وبالانسحاب من أراضي الضفة والقطاع التي احتلت عام 1967، وبقيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن... الخ. تبدلت وتغيرت في 10 سنوات مرات عدة، وبخاصة بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991. وإذا كان الرئيس كلينتون فشل في الجولة الأولى في ثني أبو عمار عن التمسك بقرارات الشرعية الدولية، فأظنه لن ينجح في الثانية، خصوصاً وان أبو عمار استوعب موجة الضغط الاميركية - الاسرائيلية الأولى، وهي الأقوى والأعنف، ومن صمد اكثر من اسبوعين بإمكانه الصمود بضعة أيام أخرى. واعتقد أن أبو عمار لن يقبل إنهاء النزاع قبل حل قضايا القدس واللاجئين، والانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران 1967، بصورة ترضي شعبه في الداخل والخارج. واذا كان لا مصلحة لأي من الأطراف الثلاثة في فشل القمة، فالبحث عن حل نهائي شامل كامل مضيعة للوقت، وأقصى ما يمكن تحقيقه في هذه القمة هو التوصل الى "اتفاق اطار" يجمل ما تم الاتفاق عليه في كل القضايا، ويسهل قيام الدولة الفلسطينية، ويؤكد عزم الطرفين على متابعة المفاوضات، وستكون المفاوضات بدء من أواخر هذا العام بين الدولة الفلسطينية والدولة العبرية. وفي كل الاحوال سيشتد الصراع داخل المجتمع الاسرائيلي، وسيسجل التاريخ ان النظام السياسي العربي والاسلامي بشقيه الرسمي والشعبي تقاعس عن مساندة الفلسطينيين إبان خوضهم معركة الدفاع عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، حتى لو شارك بعضهم في احتفال التقويع الذي سينظمه الرئيس كلينتون. * كاتب فلسطيني