عاش الكاتب الارجنتيني خورخيه لويس بورخيس 1899 - 1986 حياته متجولاً في مكتبة تبدو لا نهائية. حين فقد بصره، عند انتصاف القرن العشرين، كان قد رأى وانتهى من قراءة كتباً عربية عدة في ترجمات اسبانية وانكليزية والمانية وفرنسية. قرأ الجاحظ، قرأ القزويني وقرأ "ألف ليلة وليلة". هذه الكتب سكنته فترة طويلة ثم ظهرت جديدة في قصصه وقصائده. "كتاب المخلوقات الخيالية" نصوص حول مخلوقات اكتشفها بورخيس في بطون كتبٍ بعضها عربي، وبعضها الآخر صيني او اميركي او اوروبي. "كتبي لا تعرفني"، كتب بورخيس مرة. هل يتعرف القارئ العربي إلى كتبه هو كتب الجاحظ وابن سينا والقزويني في بورخيس؟ لقد احتوت الطبعة الاولى من "كتاب المخلوقات الخيالية" مكسيكو، 1957 على 82 نصاً في وصف 82 مخلوقاً عجيباً. في 1967 أصدر خورخيه لويس بورخيس طبعة ثانية من كتابه احتوت 34 نصاً إضافياً. أما الطبعة الاخيرة، التي اعدّها مع نورمان توماس دي جيوفاني مباشرةًَ بالانكليزية لا بالاسبانية كالطبعتين السابقتين، فتكونت من 120 نصاً حول 120 مخلوقاً عجيباً، مخلوقات موزعة على قارات الارض وحضارات الغرب والشرق" وبين هذه المخلوقات مخلوقات من كتبنا، فنقع على ذكر مصادر عربية اسلامية نحو 20 مرة تقريباً. انظر في طبعة بنغوين الصادرة عام 1969 الصفحات الآتية: 25، 32، 33، 62، 84، 85، 87، 88، 89، 90، 105، 122، 123، 128، 131، 137، 139، 155، 156. لا يعتمد بورخيس على هذه المصادر كثيراً، ففي وصف "النسناس" يبدأ من هامش عن غوستاف فلوبير ثم ينتقل الى هامش عند ادوارد لين احد مترجمي "الف ليلة وليلة" الى الانكليزية ليخبرنا ان العرب عرفوا النسناس في اليمن وفي حضرموت قبل ان يخترعه او يتخيله فلوبير بقرون. وفي وصف طائر الرّخ يعتمد على "الف ليلة وليلة" بقدر ما يعتمد على "رحلات ماركو بولو" ليس اكثر. اما حين يتطرق الى الحوت كجزيرة فيذكر "الف ليلة وليلة" والجاحظ والقزويني معاً من دون ان ينسى ملاحم اوروبا الشمالية. لا يعتمد بورخيس على مصادرنا تماماً كما لا يعتمد على المصادر الصينية او حتى الغربية. والافضل القول انه يعتمد عليها جميعها ولكن من دون إفراط. يعتمد عليها بحدود، ذلك ان هدفه الحقيقي ليس استعراض المعارف بقدر محاولة إقامة روابط بين هذه المصادر والنصوص، روابط تعيد - بطريقة سحرية - كتابة كل ما كُتب من قبل في شكل جديد، شكل يخترع مضمونه بينما يتطور. المكتوب اعلاه هو نصف الحقيقة. نصفها الآخر نعثر عليه في مقدمة بورخيس للطبعة الانكليزية حيث يعترف انه لولا جهود اشخاص مثل بيرتون او لين كما تسنى له الاطلاع على مخلوقات عدة. ألَّفَ لين - الى جانب ترجماته - كتباً عن مصر مرفقةً برسوم جميلة. بيرتون ايضاً كتب عن افريقيا الصومال كما كتب عن شبه الجزيرة العربية. كتابه عن الحجّ الى مكة اشتهر وطبع مرات عدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وإضافة الى قراءة لين وبيرتون، قرأ بورخيس مختارات مترجمة من الجاحظ، وترجمة كاملة تقريباً لعجائب المخلوقات للقزويني، وهو "الفارسي الذي كتب بالعربية". هذه العبارة الاخيرة من صوغ بورخيس نفسه. اننا نجد في مطالع بعض قصصه اقتباسات من القرآن الكريم، وهو يحاول في قصة قصيرة ان يفهم ابن رشد عن طريق موسوعة "البريتانيكا" ومصادر مشابهة! كل هذا قد يعني ان "كتاب المخلوقات الخيالية" كان يمكن ان يحتوي على عشرات النصوص الاخرى لو ان بورخيس اتقن العربية! لماذا؟ لأن كتباً لم يتمكن من قراءتها تتضمن من المخلوقات العجيبة ما كان يمكن ان يناسب ذائقته. نستطيع ان نبدأ من "المخلوقات" التي ذكرها فعلاً والتي نقع على ذكرها في كتبنا القديمة. النسناس مثلاً، هذا الكائن الذي هو نصف انسان بعينٍ واحدة، وخد واحد، ويد واحدة، وساق واحدة موجود لدى المسعودي المتوفى عام 956 م "مروج الذهب ومعادن الجوهر" وموجود لدى ياقوت الرومي الحموي المتوفى عام 1229 م "معجم البلدان" كما في كتب اخرى. اما طائر الرّخ الذي يستعيده من نص في "الف ليلة وليلة" فموجود ليس فقط لدى القزويني وانما كذلك في "حياة الحيوان الكبرى" للدميري الذي لا يذكره بورخيس اطلاقاً. والمعرفة بالدميري - لو وُجدت عند بورخيس - لكانت أكسبت نصّه حول "السمندل" بعداً جديداً. ذلك ان الدميري حين لا يعثر عند القزويني على تعريف بالسمندل، يقدم - معتمداً على مراجع عدة وعلى مخيلته الخاصة ربما - وصفاً جميلاً وملاحظات طريفة. كتب الدميري: "السمندل طائر يأكل البيش وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو اخضر بتلك البلاد، فاذا يبس كان قوتاً لهم ولم يضرهم، فاذا بعد عن الصين ولو مئة ذراع وأكله آكل مات من ساعته. ومن عجيب امر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها. واذا اتسخ جلده يُغسل بالنار ... فاذا اتسخ بعضه طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق ... ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة في طوله وعرضه فجعلوها في النار فما عملت فيها شيئاً فغمسوا احد جوانبها بالزيت ثم تركوه على فتيلة السراج فاشتعل وبقي زمناً طويلاً مشتعلاً ثم أطفأوه فاذا هو على حاله ما تغير منه شيء ... "حياة الحيوان الكبرى" للدُميري، وعلى هامشه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني، طباعة المطبعة الميمنية بمصر، 1888 م. لنعد خطوة الى الوراء. زعمنا ان بورخيس قد يحبّ نصاً كهذا. وليس الامر أكيداً. زعمنا ايضاً انه لو اتقن العربية لكان اضاف نصوصاً اخرى الى كتابه. هذه كلمات يمكن محوها. الصيني يقدر ان يوجه الملاحظة ذاتها. والياباني ايضاً! لماذا لم تتقن الصينية يا سيد بورخيس، يسأل الصيني. وأما الياباني فينحني ثم يقول: لو انك اتقنت اليابانية! ليس هذا مُزاحاً. ان الخاص والفريد في بورخيس هو تلك القدرة التي يمتلكها بوصفه الباحث الموسوعي الاطلاع، او على الاقل: بوصفه صاحب الطموح لان يكون موسوعياً على بث الرغبة بالتنقيب عند القارئ. لا يستطيع قارئ بورخيس وهو يراقب قفزات المؤلف عبر القرون، من الصين الى مصر الى ايسلندا، مطارداً حيواناً واحداً تتعدد اسماؤه، لا يستطيع هذا القارئ - الا بصعوبة، وربما العكس - ان يحافظ على كسله لوقتٍ طويل: ذلك يذكّر بدون كيشوت الذي بينما يقرأ روايات الفروسية مراقباً هؤلاء الفرسان يغادرون القصور الآمنة الى سهول المغامرات ووديان الكواسر تسكنه الحماسة، فينهض باحثاً عن درع من حديد، عن حصان، عن تابعٍ مدوّر قصير، عن امرأة يخدمها، وعن مغامرة تحت شمس اسبانيا. لم يعرف، بورخيس، الغرناطي مصدر اساسي عند القزويني وان كان القزويني لا يسميه بالغرناطي بل بالاندلسي، ولم يعرف المقدسي الذي ذكر في "احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم" - المطبوع في ليون عام 1906 - خبر حيوان يُدعى ابو قلمون يتحرك ثقيلاً على الشاطئ ولما يحتك بالصخر يقع عنه وبره الاصفر الذهب، فلما ينزل البحر يقترب اهل المنطقة لجمع الوبر، اذ حين ينسج في ثوب يكون ثمنه ثروة!. ولم يعرف الانصاري صاحب "نخبة الدهر". هل يهمنا هذا فعلاً؟ ان المعرفة لا نهائية. وكما ذكر شرلوك هولمز امام صديقه الدكتور واطسون، ذات مرة، فان المعرفة بكروية الارض - هذه المعرفة الحاسمة - ليست ذات قيمة. قال هولمز ان الذاكرة البشرية خزانة بجوارير وانه يحتاج الى الكثير من الجوارير الفارغة في ذهنه. وقال لواطسون: "لقد اخبرتني للتو ان كوكب الارض ليس مسطحاً، هذه المعلومة ستشغل مكاناً في جوارير رأسي، وعلي الآن ان ابعدها من جديد، لأصنع معلومات اخرى مهمة: طبيعة التراب قرب نهر التايمز مثلاً". يدور هذا الحوار في احدى مغامرات هولمز الاولى. وهو غير منقول حرفياً هنا. طبيعة التراب في كل بقعة من بقع لندن مهمة لاعمال هولمز، ذلك التحري الطريف. بالنسبة الى بورخيس "طبيعة المخيلة" هي المسألة الهاجس في "كتاب المخلوقات الخيالية". يريد بورخيس ان يفهم لماذا تخيل الانسان في الصين، حيوان التنين، بالصورة ذاتها تقريباً، التي تخيل بها الاوروبي التنين، على رغم الحاجز الجغرافي الفاصل بين الاثنين؟ يريد بورخيس ان يفهم "طبيعة المخيلة"، او على الاقل ان يطرح سؤاله حولها. وليتمكن من بلوغ هدفه يختار نصوصاً تدهشه وتدهشنا بقيمتها الخاصة اولاً، ثم بعلاقاتها مع نصوص اخرى من حضارات مختلفة ثانياً. هل حقاً نستطيع ان نفصل قيمتها الخاصة عن علاقاتها بالنصوص الاخرى؟ هل يمكن قراءة اي نص بنظرة عذراء؟. وهو اذ يفعل ذلك - مزوَّداً بنظره عالمية ذات احساس انساني لافت - يثير في القارئ حالات فكرية - نفسية غير عادية تترابط بشكل متين مع الاسئلة التي تطرح كأفكار وكصوَر شعرية في آن معاً. الحوت الذي نزل عليه اصدقاء السندباد وهو سلحفاة بحرية في رواية اخرى، فأشعلوا ناراً ليطبخوا طعاماً، فاستيقظ من نومه، وكاد يقتلهم فزعاً اذ تحرك كانوا يحسبونه جزيرة، ذلك الحوت الذي يحب بورخيس حكايته يشبه الى حد بعيد "كتاب المخلوقات الخيالية". اليست الكُتب مخلوقات خيالية ايضاً؟ لقد خرجت الكُتب من رأس هوتورن - قبل 150 سنة - كالغربان والوطاويط في لوحة لوليم بلايك! * كاتب لبناني.