للعادة والعرف والتقاليد سطوة بالغة في حياة المجتمعات قد تتجاوز احياناً في اثرها العادات الدينية اللاحقة لها، نظراً لعمقها وقدم عمرها في وجدان الانسان، الذي ربما يكون بعمر الحضارات الاولى. فمثلاً نثر الرز او الملح في بعض الثقافات العربية والاوروبية على العروسين بعد اتمام عقد القران، ليس تقليداً دينياً مسيحياً او يهودياً او اسلامياً على رغم ان الجميع يطبقونه، لكنها عادة موروثة من الحضارات الانسانية القديمة، عندما كان يقصد بها طرد الشياطين وحماية هذا الزواج من القوى الشريرة، وكذلك جلسات الزار التي يقصد بها تخليص الجسم البشري من الارواح الشريرة، هي من العادات الوثنية الافريقية والعربية وليست من الاسلام او اي دين سماوي آخر. عندما جاءت الثورة الاسلامية في ايران في اواخر سبعينات القرن الماضي الغت الاحتفال بجميع الطقوس والاعياد الزرداشتية مثل عيد النوروز. وعلى رغم ان الاسلام كان قد انتشر في ايران منذ مئات السنين، الا ان اغلب الشعب الايراني رفض ذلك وخرجت تظاهرات تؤكد ان النوروز هو اساس الاعياد الايرانية وليس عيدي الفطر والاضحى. ولأن التقليد قوي وعميق في ثقافة ووجدان الناس، فإن الشعوب تدخله ضمن طقوس وتعاليم الاديان التي اتت لاحقاً وتوظف الدين له، فمن طقوس الاحتفال بالنوروز مثلاً قراءة كتاب افيستا الذي يتضمن تعاليم زرادشتية، ثم اصبح يستعاض عنه بديواني الشاعرين الايرانيين حافظ وسعدي، ومنذ الثورة اصبح يستعاض عنهما بقراءة القرآن الكريم. ومصر الاسلامية ما زالت تحتفل بعادات قبطية وفرعونية "شم النسيم" واحتفالات فيضان النيل. وهناك عادات وقيم هندية الى الاسلام والمسيحية. وايضاً إشعال الشموع عند الاضرحة في بعض الدول الاسلامية هو من العادات المسيحية. وانا حضرت شخصياً في الكويت طقساً غريباً على الاسلام، فعند سكن احد المعارف في منزل جديد قامت زوجته بعمل جلسة لختم القرآن واشعلت اثناءها الشموع وأطفأت الانوار، كان ذلك بتعليمات السيدة التي جاءت لتختم الآيات القرآنية لمباركة البيت وحفظه من الجن والعفاريت والحسد وأي قوة شريرة! وتظهر القيم والعادات الاجتماعية بشكل اوضح في المجتمعات او عند الفئات المتخلفة، فمنع تعليم البنات في افغانستان ليس من التعاليم الاسلامية، بل يعتبر ضد هذه التعاليم، ومصدر ذلك تخلف المجتمع وقيمه، كما ان احتقار المرأة لدرجة يستعاض عن ذكرها بتعبير "تكرم المرة" وغيرها من الاوصاف الدونية هو ليس من الاسلام، ولكنه نابع من قيم بدوية متخلفة، ولا تختلف القيم الريفية كثيراً في هذا المجال، وحتى في الملبس احياناً تطوع القيم والعادات باسم الاديان، فالنقاب الاسلامي الجديد هو الخمار الجاهلي والبرقع البدوي. وتجد العادة الكامنة في الاعماق واضحة حتى عند المثقف الذي لم يتخلص من قيم البدونة او الترييف او العادات الاجتماعية المتخلفة بشكل عام، فهو يتعامل في بيته مع زوجته وبناته بشكل متخلف سالباً اياهن كل الحقوق الانسانية، على رغم دفاعه عن حقوق المرأة خارج بيته، لانه يحمل في وجدانه قيماً موروثة قد تكون من قبل الاسلام والاديان السماوية، ولا يسمح لك مهما بلغ من درجات العلم مناقشة اي افكار تتناول القيم المتخلفة في مجتمعه او قبيلته، ويضفي عليها قدسية، بل تبرز عندها على السطح عصبيته القبلية او القومية، ويتغاضى عن التحليل الموضوعي فلسفياً كان ام سوسيولوجياً، ليس بسبب الضعف المعرفي لديه فقط ولكن بسبب الجوهر القيمي والسيكولوجي الكامن منذ آلاف السنين في داخله، فهذا الجوهر لا يتغير تلقائياً بعقدين او ثلاثة او عشرة. والتعصب بالذات هو قيمة مشتركة بين المؤمنين بالاديان المختلفة، على رغم انه ليس من تعاليمها، فهل الصهيونية من التعاليم اليهودية؟ على رغم انها تستخدم الدين اليهودي كغطاء والشمعدان كشعار، وهل النازية في جوهرها من التعاليم المسيحية؟ على رغم انها تستخدم شعار الصليب، وهل حركة كوكلاكس كلان المتعصبة ضد الزنوج والملونين من المسيحية؟ على رغم ان شعارها الصليب، وهل الذين اعتدوا على الفتاة الكويتية يطبقون الاسلام؟ على رغم لحاهم ومظهرهم؟ الجواب لا بالتأكيد. بل كل تلك امثلة لقيم متخلفة تستخدم الاديان لتعصبها القومي او الفئوي. وقد استغل الكثير من المستشرقين، العادات الاجتماعية المتخلفة للشعوب الاسلامية ونسبوها للاسلام، فعندما يشاهدون اطفالاً يتبرزون في الشارع سواء في الهند او في الدول الاسلامية الاخرى ينسبون ذلك السلوك الى الاسلام، وعندما يتعرضون للسلب والنهب من القبائل البدوية اثناء رحلاتهم في الصحراء ينسبون ذلك الى سلوك اسلامي، وما زالت ادبيات الغرب وأفلامه حافلة بهذه النماذج من السلوكيات المتخلفة والتي كثيراً ما يصاحبها الآذان كموسيقى تصويرية، وانا هنا لا انفي التعصب الديني كموروث اجتماعي لاحق للعصبيات القومية والقبلية والفئوية. ومن المعروف ان الاديان جاءت لتهذيب البشر وتنظيم حياتهم بشكل شامل، فالاسلام هو ثورة اجتماعية اصلاحية لنقل البشر من قيم البدونة. * كاتب كويتي.