يميل الإيرانيون عادة الى المحافظة على الموروث مهما كان، بل انهم نجحوا في مصالحة الموروث مع العقيدة الدينية التي دخلوا فيها وهي العقيدة الإسلامية، فجعلوا للنوروز دعاء وصلاة، وأدخلوا آيات القرآن الكريم في لحظة بدء العام الجديد وهو النوروز، حتى ظن الكثير من الإيرانيين أن الأعياد في الإسلام ثلاثة، عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد النوروز. وبعد انتصار الثورة الإسلامية علي يد الراحل الإمام الخميني، وجدت هذه الثورة نفسها أمام عبء تاريخي واجتماعي وثقافي معقد ومتشابك، وبما أن مشروع الثورة قام على تصورات ورؤى متباينة، فإن بروز ذلك على مختلف المستويات أمر طبيعي ومنتظر، لهذا اختلف أبناء الثورة حول كيفية التعامل مع المعطيات الثقافية والاجتماعية والدينية العامية والموروثة منذ مئات السنين، في هذا الإطار بالذات يمكن فهم عيد النوروز الإيراني وما يستبطنه من اعتقادات وعادات ورغبات جعلت الحكومة الإيرانية تعتبر الأيام الأربعة (من 21 إلى 24 آذار/ مارس) عطلة رسمية خاصة لعيد النوروز، كما جعلت يوم 2 من نيسان (أبريل) الذي يوافق 13 من فروردين الإيراني عطلة رسمية لمناسبة يوم الطبيعة، الذي يعبر عنه المواطن الإيراني بيوم النحس. ويحتفل أفراد الشعب الإيراني كلٌّ على طريقته بالنوروز، لا تفرقهم في ذلك الديانة أو القومية أو المذهب، إذ يحتفل الأكراد والترك والفرس والعرب والبلوش، كما يحتفل الشيعة والسنّة، في الوقت الذي لا يتخلف عنه المسيحيون واليهود والزردشتيون. وحاول الإيرانيون وضع مراسم خاصة لهذا العيد تتعلق بالملبس والمأكل، إضافة الي العادات والتقاليد التي ترافق «النوروز» منذ الأسبوع الأخير من فصل الشتاء وحتى الثاني من نيسان، مروراً بدخول الطبيعة فصل الربيع الذي يصادف في العشرين او الحادي والعشرين من آذار، ومما يلفت الاهتمام ان يتزامن «النوروز» مع بداية الأبراج الفلكية، حيث يبدأ برج الحمل في الحادي والعشرين من آذار من كل عام. وحاولت المعارضة الإيرانية توظيف العادات والتقاليد الموروثة سياسياً ضد حكومة الرئيس احمدي نجاد الذي فاز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أن مراجع الدين بمن فيهم مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي وقفوا ضد هذه العادات واعتبروها بعيدة من الدين، مثل إشعال النار والقفز عليها في آخر ليلة ثلثاء من العام الفارسي والتي صادفت 16 آذار الجاري، حين سعت المعارضة لاستغلال هذه التقاليد التي اعتاد عليها الإيرانيون منذ مئات السنين، لكن الفتاوى الدينية أحبطت الى حد بعيد هذا التحرك السياسي، إضافة الى رغبة المؤسسة الدينية بتنظيف هذه المناسبة التي ترتبط بعادات لا علاقة لها بالثقافة الإسلامية التي يقوم عليها النظام السياسي، والتي تدخل في إطار المصالحة التي سعى إليها الإيرانيون بين الموروث والعقيدة الإسلامية. وكان الزعيم الإيراني الراحل الإمام الخميني وضع حداً لبعض الدعوات التي برزت بداية انتصار الثورة الإسلامية، والتي طالبت بإلغاء مراسم يوم النوروز باعتباره لا يمت الى الثقافة الإسلامية بصلة، عندما احتفل بهذا اليوم، وأرسل بياناً للإيرانيين، وصار ذلك تقليداً سار عليه خلفه خامنئي، في الوقت الذي لم تلغَ العطلة التي تمنحها الحكومة للإيرانيين وتعتبر من اكبر العطل الرسمية في البلاد. ولم تنجح دعوات بعض علماء الدين كأبو القاسم خزعلي عضو مجلس خبراء القيادة لتقليص عطلة النوروز والتقليل من أهميته، لحساب المناسبات الدينية الأخرى، لكن النظام السياسي رفض مواجهة عواطف الإيرانيين، وترك الباب مفتوحاً أمام الاحتفال بهذه المناسبة. وإذا كان النظام السياسي الإسلامي اعترف بهذا اليوم القومي، كحق من حقوق الشعب الفارسي، فإن بقية القوميات قبلت الاحتفال به، لكن، كل وفق طبيعته الخاصة، وشكل هذا يوماً للتآخي بين القوميات والمذاهب والأديان والطوائف الإيرانية. وربما تشذ العقيدة البهائية عن هذه القاعدة، لأن النظام السياسي في إيران، لا ينظر الى البهائيين كديانة معترف بها على غرار المسيحية واليهودية والزردشتية، وإنما يتهمها بأنها حزب سياسي يرتبط بالصهيونية العالمية ويدار من المحافل الماسونية، لذلك فإن الدعاية لهذه الديانة محظورة في إيران، كما يمنع أي تحرك اجتماعي أو خدمي يتم من خلال هذه الجماعة. أما الأعياد والمناسبات الدينية لبقية الأقليات الدينية والطائفية والمذهبية الممثلة في مجلس الشورى كالمسيحية واليهودية والزردشتية والتي تتمتع بحقوقها، فلا تتعرض لها الدولة كما ان القانون يكفل للأقليات هذا الحق. تعريف النوروز لااتفاق على أساس تاريخي للنوروز (يعني اليوم الجديد باللغة الفارسية) يمكن الاستناد إليه، لأن كل القصص التي أوردت «عيد النوروز» أو «يوم النوروز» كانت أساطير منقولة من موروث ثقافي اختلف المؤرخون في تحديد بدايته. ويرجع بعض المؤرخين الاحتفال بالنوروز الى قدماء السومريين الذين قد يكونون من أوائل المحتفلين به، وتورد إحدى أساطير السومريين أن إنانا Inanna السومرية Sumerian إلهة الجمال المقابلة لعشتار البابلية إلهة الشهوة والحب لديهم اغترت بنفسها وبقوتها فذهبت الى العالم السفلي «عالم الموت» الذي تحكمه أختها «اوتونيحال» للتغلب على الموت، وعند وصولها فقدت هناك أسلحتها ولم تستطع العودة بعدما تغلبت عليها أختها. هكذا انعدمت الشهوة لدى الإنسان والحيوان ووقف التناسل، بحسب الأسطورة البابلية، والشباب والجمال في العالم بحسب النسخة السومرية، وفي مدينة الوركاء تحديداً. ابتهل الناس إلى الإله السومري الأكبر «انكي» Enzi لإعادتها الى الحياة بحسب الأسطورة. كانت عشتار مخطوبة لتموز Dumez إله الخضرة، وقد تقبل أنكي تضرع الناس وقرر أن تغادر عشتار العالم السفلي على أن يجد أحداً «يذهب إلى العالم السفلي بدلاً منها» فصعدت إلى الأرض مع حرس من العالم السفلي لتختار بديلها حيث وجدت تموز متنقلاً بين الفتيات الجميلات لا يفتقدها، لهذا اختارته. وبموت تموز ماتت الخضرة على وجه الأرض، فاستاء الناس وابتهلوا ل «انكي» مع أم تموز وأخته التي تبرعت للنزول بدلاً منه إلى العالم السفلي لكي يصعد هو إلى الأرض ليعيد الخضرة والفرح. تقبل أنكي دعواتهم لهذا قرر أن يصعد تموز إلى الأرض مدة ستة أشهر على ان يعود إلى العالم السفلي في الأشهر الستة التالية، وبهذا احتفل العراقيون القدماء بتموز الداخل إلى الأرض من العالم السفلي ب «عيد الدخول»، ومن علاماته انتشار الخضرة والأزهار على سطح الأرض، وهو نفسه بدء السنة بحسب تقويمهم. ومثلما تتحدث هذه الأسطورة عن ثقافة البابليين والسومريين، هناك أساطير عند الفرس تحدرت من الساسانيين، إذ تروي الأساطير أن الآلهة التي كانت مختبئة في فصل الشتاء تحت الأرض تخرج في أول الربيع إلى النور لتمنح الأرض البهاء والجمال، ويقسم الإيرانيون العام إلى فصلين اثنين، فصل البرودة وفصل الحرارة، وجعلوا «مهركان» - الذي عرّب ب «المهرجان» - عيداً في بداية الخريف، و «النوروز» عيداً لانطلاقة فصل الربيع، وفي هذا الصدد نقل الفردوسي شاعر الحماسة القومية الإيرانية روايات أسطورية منظومة، وذكر أبو ريحان البيروني في كتابه «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» أن الإيرانيين قبل الإسلام احتفلوا في الأيام الخمسة الأولى من عيد النوروز في شكل عمومي ومشترك بين الملوك والرعية، إذ تقضى في ذلك حاجات الناس وتقدم لهم العطايا والهدايا، أما اليوم السادس فقد سموه بنوروز الخاصة إذ يختلي فيه الملك بندمائه للهو والطرب والشراب، وتمتد فترة الاحتفالات بالنوروز شهراً كاملاً. وفي عصر الساسانيين أي آخر إمبراطورية فارسية، كانت تتخلل احتفالات النوروز طقوس ملكية وشعبية مختلفة، منها أن الإمبراطور كان يلبس في صباح ذلك اليوم لباساً فاخراً ويجلس وحيداً في بلاطه ثم يدخلون عليه شخصاً يتفاءلون به خيراً، ثم يحضر رجال الدين الزردشتيون لقراءة الأدعية والصلوات وبعد ذلك يقدمون للإمبراطور كأس شراب ويضعون بالقرب منه قدراً من المال تبركاً وتفاؤلاً، فتنطلق الاحتفالات وتعزف الموسيقى، أما عامة الناس فيتراشقون بالماء، ويتهادون السكّر، وفي المساء يشعلون النيران معبرين عن فرحتهم. ويبدو أن عيد النوروز لا يرتبط بالديانة الزردشتية، أو بالديانة المجوسية التي كانت تقضي بعبادة النار، إلا أن النار كانت من الموروث الذي يرمز الى الفرح والانتصار كما تعبر عن ذلك الأساطير المختلفة. نوروز الأكراد وللأكراد، باعتبارهم من الآريين الذين يحتفلون بهذا اليوم، نسختهم الخاصة بهم، ربما وضعت لتنسجم مع طموحاتهم السياسية والنضالية، إذ وظفوا النوروز ل «حالة سياسية» تنسجم مع هذه الطموحات، والنسخة الكردية للنوروز هي أسطورةُ «كاوة الحداد» الذي تشبه قصته ما ورد في أسطورة الشاهنامة الفارسية التي كتبها الشاعر الإيراني أبو القاسم الفردوسي، وتروي عن ملك شرير سمّي «الضحاك»، ولُعن بسبب شرّه، إذ رفضت الشمس الشروق وكان من المستحيل نمو أي غذاء. الملك «الضحاك» لديه لعنة إضافية هي امتلاك أفعيين ربطتا بأكتافه، وعند جوعهما كان يشعر بألم عظيم، والشيء الوحيد الذي يرضي الجوع كان أدمغة الأطفال، لذا كان يقتل كل يوم اثنين من أطفال القرى ويقدم دماغيهما الى الأفعيين. كاوة الحداد كرِه الملك بعدما ضحى بستة عشر من أطفاله ال17 للأفعيين وعندما علم أن طفله الأخير وهو بنت، ستقتل، جاء بخطة لإنقاذها فبدلاً من أن يضحي بها، ضحى بخروف، وأعطى دماغ الخروف الى الملك من دون أن يميز الملك الأمر، وعندما سمع الناس بخدعة «كاوة» لجأوا الى الحيلة نفسها، في الليل يُرسلون أطفالهم الى الجبال مع «كاوة» ليكونوا في مأمن. الأطفال عاشوا في الجبال و «كاوة» نظّم جيشاً من هؤلاء للقضاء على الملك الشرير بعدما أصبحت أعدادهم عظيمة بما فيه الكفاية، نزلوا من الجبال واقتحموا القلعة. «كاوة» بنفسه اختار الضربة القاتلة الى الملك الشرير «الضحاك»، ولإيصال الخبر الى أهل بلاد ما بين النهرين بنى مشعلاً كبيراً أضاء السماء وطهّر الهواء من شر عهد الضحاك، ذلك الصباح بدأت الشمس بالشروق ثانية والعشب بدأ بالنمو مرة أخرى. هذه هي بداية «يوم جديد» أو نوروز «نه وروز» كما يتهجى باللغة الكردية. وبذاك يكون النوروز من أقدم المناسبات الاحتفالية في العالم، حتى قبل ظهور الزردشتية، لكنّ الإيرانيين في شكل خاص والآريين في شكل عام، أطلقوا عليه اسم «عيد» تيمناً بالأعياد الإسلامية، عندما اختلطت الثقافة الإسلامية بالموروث التاريخي، وأخذ هذا الربط معنى أوضح في العصر العباسي حين نقل مركز الخلافة في عهد المأمون لفترة الى خراسان الإيرانية، فذكر العيد شعراء عرب كأبي العلاء المعري والبحتري والشريف الرضي والمتنبي وابن الرومي وأبو تمام وغيرهم، وفي الأدب العربي الحديث استخدم بعض الشعراء مناسبة نوروز، رمزاً كفاحياً وتحررياً للشعوب ضد الاستعمار كبدر شاكر السياب في قصيدته «وحي النوروز» داعياً الى تكاتف الشعبين الكردي والعربي ضد مخططات الاستعمار في المنطقة.