القوات البحرية تدشن عروضها في شاطئ الفناتير بالجبيل    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    النصر يستعيد عافيته ويتغلّب على الاتفاق بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تحتفي باليوم الوطني ال (94) للمملكة بفعاليات وعروض عسكرية في مناطق المملكة    السعودية تشارك في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والتنمية المستدامة    هزة أرضية جنوب مدينة الشقيق قدرها 2.5 درجة على مقياس ريختر    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    أمانة القصيم توقع عقداً لمشروع نظافة مدينة بريدة    ضبط مواطن بمحافظة طريف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    بعد فشل جهودها.. واشنطن: لا هدنة في غزة قبل انتهاء ولاية بايدن    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قصيدة بعصيدة    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    قراءة في الخطاب الملكي    على حساب الوحدة والفتح.. العروبة والخلود يتذوقان طعم الفوز    التزامات المقاولين    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروحية اليهودية النفعية عبر التاريخ . المصادر الثقافية والاسس الاقتصادية لقيام "الغيتو" في أوروبا 2 من 3
نشر في الحياة يوم 15 - 07 - 2000

} تحدثت الحلقة الأولى عن الروافد الثقافية لنهوض ما يسمى بالروحية النفعية عند اليهود عبر تاريخهم الذي اتسم بخصوصية دفعت الكثير من المؤرخين والفلاسفة الى محاولة تفسير تلك الظاهرة. وهنا الحلقة الثانية.
هذه النزعة الدنيوية المشهودة والموصوفة عند اليهود لا تجعل من اليهودية ديانة رأسمالية ذلك ان خطب الانبياء العبريين الراعدة ضد فساد الثروة والاثرياء، ومزامير داود، تنفي مثل هذه العقيدة. كما لا يجوز تفسير النزعة النفعية القوية بخصوصية يهودية بيو - نفسية حصرية. ذلك ان الحضارة السومرية - البابلية اشتهرت في التاريخ بروحها الاقتصادية العملية، كما ان الحضارة الفينيقية الكنعانية عاشت بالروح التجارية، وكان النزوع المادي قوياً كذلك في الروح المصرية. وتعلم العبريون من الحضارة الكنعانية - الفينيقية، وهي امتداد تطوري للحضارة السومرية - الاكادية، سبل الانتقال من اسلوب الحياة الرعوية الى الزراعة والحرف واسلوب الحياة المدينية في اللباس والطعام والبناء وكل ما يلزم الحياة المدينية من غوايات تدليل الجسد برفاهية يشرطها توافر المال.
ويلاحظ ابراهام ليون "ان بعض المورخين ينسبون للمنفى البابلي الذي نقلهم اليه نبوخذ نصر في القرن السادس ق.م. دوراً مهماً في تحويل اليهود الى شعب تجاري". ذلك انهم وجدوا عند البابليين علاقات اقتصادية متطورة جداً. وتبين النصوص التي وجدت حديثاً "مساهمة اليهود المنفيين بدور فاعل في الحياة التجارية البابلية، وكانوا يهتمون بالتسليف الذي بلغ مستوى متطوراً جداً عند البابليين".
وبقطع النظر عن حجم مؤثرات السبي البابلي على تحول العبريين الى شعب - طبقة، فإن الثابت هو اشتهار الحضارة السومرية - البابلية بطابعها التجاري النفعي، وهي التي اقامت البنك في قلب المعبد، جنباً الى جنب مع المدرسة، وكان كهانها اقدم المرابين الذين مارسوا اقراض المال بالفائدة. وكان المعبد السومري يحتل مركز القلب من المدينة مما يرمز لأهميته التربوية والاقتصادية والادارية، اضافة الى وظيفته الدينية. "كان الكهنة اعظم تجار بابل"، يقول ديورانت و"كبار رجال المال فيها". وكانوا يقرضون المال بشروط ارحم من الشروط التي يقرضها بها غيرهم من الافراد". ومما يؤكد الطابع التجاري النفعي للحضارة السومرية - البابلية هو عمل كهنتها في "توثيق العقود، والشهادة عليها، وتوقيعها بأسمائهم وكتابة الوصايا، والاستماع الى القضايا والمحاكمات والتفصيل فيها وحفظ السجلات الرسمية، وتسجيل المعاملات التجارية".
وكانت هذه المهارات مادة اساسية تدرس للكتبة في مدرسة كان يشتملها المعبد. وما يقوله ديورانت في اهمية ومركزية المعبد السومري وعمل كهانه ينطبق بالكامل على المعبد اليهودي والدور الاقتصادي البارز الذي لعبه الحاخاميون في اطار المعبد.
ويصف المسيري في كتابه "الايديولوجية الصهيونية" مكانة المعبد ووظيفة الكاهن اليهودي كالآتي: "كان المعبد هو المكان الاهم في حياة الجماعة اليهودية التي كانت تعيش في الغيتو او المعتزل" "وكان الحاخام هو الشخصية الاهم في الغيتو اذ كان مركزه قيادياً على رغم انه لم يكن، من وجهة دينية، يلعب دور الوسيط بين الانسان والله، لقد كان الحاخام يشتغل في الاعمال المصرفية والتجارية". وكان الحاخام الاكبر سامسون فرتماير تجسيداً لاتحاد الديني والدنيوي في وعي سلوك العبري، "فقد كان هذا الحاخام هو اهم المصرفيين في المجر والنمسا".
إن وصف المسيري للمعبد اليهودي يطابق بشكل حرفي ودقيق مكانة ووظيفة المعبد السومري وكهانه. يقول المسيري، "إن المعبد اليهودي لم يكن مكاناً للصلاة فحسب، وانما كان مكاناً للتعليم والاجتماع كذلك. وكانت المعابد اليهودية الاوروبية حتى اواخر القرن الثامن عشر مكاناً يتبادل فيه اليهود المعلومات التجارية، بل كانوا يتشاجرون ويتناقشون بصوت عال. وكان اليهود يجلسون في المعبد كل بحسب انتمائه الاجتماعي او الطبقي فيجلس الحاخامات والفقهاء واصحاب المكانة الاجتماعية العالية في المقدمة يليهم التجار.
ويضيف كان الاغنياء يجلسون قرب الحائط الشرقي فيما كان الفقراء يجلسون قرب الحائط الغربي. وكان الحاخامون يشكلون طبقة مثقفي الغيتو".
ويلاحظ رشاد الشامي في كتابه "الشخصية اليهودية الاسرائيلية والروح العدوانية": "ان الفوز بمقعد في المعبد كان يعد فوزاً كبيراً، ذلك ان المقعد كان إما ان يشترى لمدى الحياة، وإما ان يؤجر سنوياً إذ انه من دون هذا المقعد لا يحق لأي انسان ان يكون له شرف تقديم القراءة في كتاب العهد القديم كل اسبوع" - ويضيف الشامي "ان الحاخام كان يعد الزعيم الديني والعلماني، في حين ان المعبد صار المركز الديني والثقافي والاجتماعي". وهذا التميز الطبقي داخل المعبد يثبت ضآلة تأثير رؤى الانبياء المساواتية في الممارسة الدينية اليهودية.
فإذا تذكرنا ان شريعة حمورابي البابلية كانت لا تطبق قانون العين بالعين او التعامل بالمثل الا على ابناء الطبقة الاجتماعية الواحدة، وان الكهان السومريين والبابليين كانوا المدرسين الذين ينقلون المعرفة للطلبة في مدرسة المعبد، كما كان يفعل الحاخامون في المدارس المعروفة ب"الكتاتيب"، ادركنا مدى تماثل المكانة والوظيفة والروح المادية النفعية التي ميزت حياة كل من الكاهن السومري والحاخام اليهودي، وكلاهما ينتميان الى ارستقراطية ذات امتيازات اجتماعية وسياسية تلعب اهم الادوار في الحياة الخاصة والعامة.
ولعل اوضح الصور التي تجسم وظيفة المعبد اليهودي التجارية النفعية في التاريخ القديم هي صورة الهيكل الذي اعاد العبريون بناؤه عام 520 ق.م. بعد ان اعادهم الامبراطور الفارسي قورش الى فلسطين من السبي البابلي.
يصف موشي يمنوهين الهيكل الجديد ب"الهيكل - السوق". ويتحدث عن الصرافين الذين يلازمون مواقعهم حول الهيكل. ويصف كهنة الرب وهم يحيطون بالمحراب ويبيعون "صكوك الغفران".
ويصف ديورانت بدوره الهيكل ب"المصرف القومي"، وهو وصف يطابق المصرف السومري الذي كان يدار من الكهان داخل المعبد. ويسهب ديورانت في وصف الضجيج الصادر عن اصوات البائعين القابعين في البهو الخارجي وهم "ينادون على الحمام وغيره من الحيوانات - الاضاحي"، بينما كان الصيارفة يعرضون النقود المتداولة في هذا المكان بدل نقود الوثنيين المتداولة في الامبراطورية الرومانية". وهذا هو الهيكل الذي زاره عيسى في اليوم التالي على دخوله القدس وهاله ما سمع من ضجيج، وما رأى من اعمال الصيرفة، مما دفعه واتباعه الى قلب مناضد الصيارفة وتجار الحمام وبعثرة نقودهم على الارض، واخراج التجار من ساحته ضرباً بالعصي مرفقاً بقول السيد الشهير "معبدي بيت للصلاة وقد جعلتموه مغارة للصوص".
واذا كان كلمة "روح" العبرية تدل على القابليات الحسية، كما ذكر اروين، فإن الكلمة السومرية التي تحمل معنى الحب والمحبة تعني في الوقت عينه قياس الارض وتأجير المنزل".
وفي هذا السياق يكتب كرايمر "ان السومريين الذين اكسبتهم انجازاتهم الثقافية والمادية شهرة مستحقة"، اظهروا الشفقة والحماية في معاملتهم الارملة واليتيم، الا ان الدافع النفسي الغلاّب الذي حرك الكثير من مسالكهم وحدد اسلوب حياتهم كان، وعلى رغم اخلاقهم السامية والرفيعة، الطموح والتنافس العدواني الهادف الى الغلبة والتفوق على العدو في ما يتعدى القيم الاخلاقية.
وفي التوراة مجاهرة صريحة بجواز الغلبة في ما يتعدى القيم. ان الانتصار على منافس والمكانة التي تتأتى من ذلك الانتصار حدد للسومريين نظرتهم الى الحياة ولعب دوراً مهماً في ثقافتهم وسياستهم واقتصادهم"، كما يقول كرايمر في وصف السومريين، وهو وصف يطابق العبريين ايضاً.
كذلك فإن ضعف او انعدام الايمان بالآخرة وهو موروث ثقافي سومري - اكادي عزز تعلق العبريين، وقبلهم السومريين، بالحياة الدنيا.
ولا شكل في ان جهامة الحياة في العالم السفلي التي نطالع صورتها في اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش، كما في اوديسا هوميروس، هي الصورة عينها التي امتلكها اليهود عن العالم الآخر كما يؤكد كرايمر وبريستد وديورانت، قد جعلت الموت امراً مكروهاً بقدر ما جعلت الحياة معشوقاً يصعب على اليهودي كما صعب على السومري فراقه.
من هنا نجد ان السومريين تشبثوا بالحياة بقوة غير معهودة، ولم يبهجوا القلب او يواسوا الروح بأمل الحياة في الجنة بل "انهم عشقوا الحياة، وواكب عشقهم هذا اضفاء قيمة عليا على اسباب الرفاهية المادية".
تراءى العالم الآخر للسومريين على صورة عالم سفلي، الحياة فيه ظل شبحي بائس وقاتم للحياة الحقيقية على وجه الارض: "كان السومريون يصورون الدار الآخرة، كما صورها اليونانيون من بعدهم، عالماً مظلماً تسكنه الاطياف ويهوي اليه الموتى اياً كان شأنهم من غير تمييز بينهم".
كذلك آمن البابليون والكنعانيون الذين تمثل العبريون ثقافاتهم والذين لم يجدوا بدورهم في عقيدة الخلود ما تبتهج له النفس. وفي هذا السياق يلاحظ ديورانت "ان الدين السومري - البابلي كان ديناً ارضياً عملياً.
فإذا صلى البابلي لم يكن يطلب في صلاته ثواباً في الجنة، بل كان يطلب متسعاً من الارض"، والارض هي مشروع الإله العبري وشعبه.
وانتقل عشق السلعة والمقتنى، اي عشق "الشيء"، من السومريين الى الكنعانيين والفينيقيين الذين تاجروا بالسلع والعبيد، وهم الذين عبر هوميروس في الألياذة والأوديسا عن اعجابه بمهاراتهم الحرفية من جهة، واحتقاره لأخلاقهم التجارية من جهة ثانية.
لكن ما يلفت هو إضافة ديورانت قدامى المصريين الى لائحة الشعوب الشرقية التي تميزت بالذهنية النفعية والنزعة المادية. فقد جمع المصريون بين آداب تحض على التقوى والصلاح وحب الثروة: "ولا تعدو الحقيقة إن قلنا إن المصريين هم أميركيو العالم القديم. فهم قوم مولعون بضخامة الحجم، يحبون المباني الضخمة الكبيرة وهم مجدون نشطون جماعون للثروة، عمليون حتى في خرافاتهم الكثيرة عن الدار الآخرة". ويضيف ديورانت، "إن أكثر ما كان يعلمه المصريون في مدارسهم هو الموضوعات التجارية، ذلك لأنهم كانوا أكثر الأقدام نفعية وأكثرهم تمسكاً بالنظرية النعية". أما كرايمر فيعتبر أن السورميين وليس المصريين، هم "أميركيو العالم القديم"، ذلك أن التنافس لإثبات الذات هو سمة مشتركة بين السومريين القدامى والأميريكين المحدثين".
ما نريد قوله هو أن الروح العملية النفعية اليهودية ليست جوهراً يهودياً حصرياً موجوداً بالقوة فيهم وحدهم وكان لا بد بالتالي من أن يتمظهر على إيديهم في التاريخ بالفعل. فقد سبق وأن تمظهرت هذه الروح عند شعوب الرافدين والمصريين والكنعانيين والفينيقيين منهم خصوصاً. وأصبحت هذه الروح عالمية. وفي تنزل الروح البورجوازية في جسد العالم تلاقت الروح اليهودية بموعده مع القدر، بمعنى أن اليهود كانوا مهيئين لموعد التلاقي مع البورجوازية العالمية بعد أن راكموا في كل حقبة ومدينة رساميل كبيرة، وهم الذين "أنشأوا في قلب المجتمع الزراعي المسيحي القر أوسطي الجامد نواة مجتمع تجاري - مصرفي مديني تتنافى ديناميكيته مع ستاتيكية المجتمع الإقطاعي، مساهمين بذلك في التمهيد لظهور النظام الرأسمالي".
والثابت هو أن الفائض المالي الذي حققه تخصص اليهود الوظيفي كان، عبر التاريخ، نعمة اليهودي ولعنته: "إن رخاءنا يستفز العالم على نحو ما لأنه تعارف على مدى قرون على اعتبارنا الأحقر بين الفقراء"، يقول هرتزل في كتابه "دولة اليهود" 1896.
ولا شك في أن ثروة اليهودي التي تحصلت من وظائفه الخصوصية وضعته في موقع الصدام مع كل الطبقات. إن اليهودي الذي منعته التشريعات من امتلاك الأرض وحاجة الفلاح الى قرضه جعلت منه عدو الفلاحين أولاً ودائماً، ثم أصبح غريماً للتجار والحرفيين المسيحيين بعد ظهور الطبقة البورجوازية المسيحية في عصر النهضة. وصحيح أن اليهودي كان الحليف التقليدي للأمراء والملوك والنبلاء الذين كان يقرضهم، ويدير ممتلكاتهم، ويجبي ضرائبهم، لكنه كان يقع أحياناً ضحية تحريضهم كلما ثقلت ديونهم، أو كلما أرادوا استرضاء الطبقات الشعبية الكارهة لوظيفتهم. وبين المحرضين كان العديد من البابوات الذين أصدروا على مدى القرون الوسطى وحتى مؤتمر ترنت عام 1563 أقسى التشريعات المعادية لليهود وبينها إجبارهم على الإقامة في الغيتو، ولصق الشارة الصفراء على أذرعهم دمغة تميزهم.
الغيتو وعنف الآخر
لا بد ونحن نعرض لدور الفاعل الاقتصادي في استمرارية اليهودية كرابطة قومية من التأكيد على أن خصوصية الوظيفة الاقتصادية اليهودية ترافدت بقوة مع خصوصية الحياة اليهودية داخل أسوار المعتزلات Ghettos التي أحيوا داخل شرانقها الطقوس والشرائع كما فصّلها لهم التلمود، وهو التراث الشفهي اليهودي الذي دونه حاخامات اليهود مضافاً إليه أكثر من كتاب شرح وتفسير يحدد لليهودي نظاماً سلوكياً صارماً يغطي مفاصل حياته اليومية وتفاصيلها.
ولا يمكن تصور استمرارية الوعي اليهودي الجمعي بمعزل عن أسلوب حياة المعتزلات، لأن "الدين اليهودي داخل نطاق الغيتو كان هو المحور الرئيسي الذي تدور من حوله كل شؤون الحياة اليهودية". بل إن سومبارت يصف التلمود بأنه "كان روح اليهودية ونفس حياتها".
إن النظم والقوانين التي وضعتها السلطة الزمنية والروحية خلال القرون الوسطى كانت تصنف البشر تبعاً لمعتقداتهم. وكانت الفلسفة السائدة خلف كل النظم والشرائع هي أن المعتقد هو تعبير عن جوهر الجماعة أو الملة أو الأقلية الدينية. وعرفت المجتمعات الشرقية كذلك التنظيم الملي الذي يترك للطائفة تنظيم شؤون حياتها بما يتفق مع معتقداتها وتقاليدها. كما شهدت كبريات المدن الشرقية ظاهرة تمركز الجماعات الملية السكني في ما يشبه المعتزلات الاختيارية، وما زال هناك في دمشق حتى اليوم منطقة تعرف ب"حارة النصارى"، وأخرى تعرف ب"حارة اليهود".
وفي الغرب تواقت نشوء نظام الأقليات مع حروب الفرنجة التي بدأت عام 1096 بمذبحة كبرى جرت لليهود على أرض الغرب قبل أن تصل الحملة الأولى الى الشرق. وأدى نظام الأقليات الى عزل اليهود عن المسيحيين.
والغيتو، الذي بقي رمزاً للنزعة الاستبعادية المتبادلة بين اليهود والمسيحيين حتى قيام الثورة الفرنسية البورجوازية 1789 التي ألغت التمييز على قاعدة الدين والعرق، لم يكن بالنسبة لليهودي شراً مطلقاً، بل كان هو الآخر لعنة اليهودي ونعمته. إن الضغط المسيحي الخارجي جعل اليهود يتكثفون على أنفسهم كجماعة، واضطهاد الآخر لهم جعلهم يشعرون بتميزهم الأخلاقي عنه، "إن إدراك اليهود للتخالف بين طريقة حياتهم وطريقة حياة ظالميهم أمدهم بالقدرة على الاستمرار وعزز إيمانهم"، كما يجيء في موسوعة مكميلان الدينية 1987. أضف الى ذلك إن الروح اليهودية الدينية القومية والمادية النفعية تنامت خلف أسوار المحتجز.
فالتشريعات التي فرضت الغيتو على اليهود أتاحت لهم إحياء صورة الملّة - الأمة في الشتات، بمعنى أنها أسلمته لعدالة محاكمه الدينية، وألقت بأبنائه الى مدارس أو كتاتيب الكهان الذين كانوا يحيون في وجدانه صورة إسرائيل القديمة، ويضعفون علائقه بالمكان والزمان، وينفخون في جمار توجسه القديم من الغرباء، ويعززون متحدات العبريين الجمعية المقدسة بدءاً بالعائلة وانتهاءً بالأمة، ويستحضرون طيف الحلم المسيحاني الخلاصي في تصعيد مكثف للواقع المتردي، ويسعفون المعوزين بالصدقة.
وداخل الغيتو عاش اليهودي حياته طبقاً لطقوس ديانته التي ترافقه من المهد الى اللحد، من صلاة الجماعة، وحفلات الختان، وعادات الطعام، وطريقة ذبح الحيوان، والتطهر بالماء، والامتناع عن أكل لحم الخنزير، وراحة السبت، والانقطاع عن الأغيار الذين لا يتزاوجون بهم أو يدفنون معهم أو يأكلون على موائدهم، "إنها عزلة كاملة عند الميلاد، وفي الحياة والموت" كما يستخلص المسيري. "وعلى رغم وجود طبقات اجتماعية عدة داخل الغيتو إلا أن الضرائب كانت تفرض على الغيتو كله". وتعامل السلطات الأوروبية مع الغيتو كمتحدٍ جمعي جعل الطبقات المختلفة داخله تأتلف وجدانياً.
ويمكن القول أن الزمن في الغيتو كان يراوح في المكان، وأن الوعي كان يراجع منبعه مرتداً عن مجتمع كان بأمَس الحاجة إلى وظيفة اليهودي في الوقت الذي يظهر لهذه الوظيفة والقائمين بها الاحتقار والكراهية والعداء مرفقاً بكل أنواع العنف.
من هنا كان الغيتو بالنسبة لليهودي ملجأه الآمن. وقد أنشأت المعتزلات الأولى في المدن الإيطالية بطلب من اليهود، وليس رغماً عنهم. ذلك أن اليهودي لم يكن يشعر بأي أمن خارج أسوار الغيتو. ففي الخارج كان يوجد عالم غريب وشرير يستبيح كرامة الغريب المكروه وحياته. أما داخل أسوار الغيتو فكان يوجد عالم يتصور اليهودي أن كل ما فيه يهودي خالص، يمارس داخله طقوسه اليهودية بكل حرفيتها، ويمتنع عن العمل يوم السبت حتى يعجل بعودة المسيح المنتظر في نهاية الزمن أو "سبت التاريخ" ليعود شعبه إلى أرض الميعاد.
في داخل الغيتو، يقول المسيري "كان اليهودي يمارس الإيمان العميق بأنه ينتمي إلى الأمة المقدسة والشعب المختار، ويتلقى التأكيدات بأن الغيتو هو مكان مؤقت يحفظ اللّه فيه الأمة وروحها إلى أن يحين الوقت الذي يشاء فيه - عز وجل - أن يعيد شعبه إلى أرضه وحريته". ويفترض المسيري أنه "قد مضى عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني، ثم عصر التنوير في أوروبا، واليهودي داخل أسوار الغيتو الاقتصادية والوجدانية والفعلية المكانية، وهي الأسوار التي أفرزت الدائرة اليهودية السحرية التي لا يمكن الفكاك منها".
لكن لا بد لنا هنا من أن نستدرك لنلاحظ أن اليهود، الميسورين منهم على الأقل وهم الذين عاشوا خارج المحتجزات، لم يكونوا منغلقين بهذا القدر عن العصر والمحيط. بل أن الفكر العقلاني التنويري الفرنسي في القرن الثامن عشر فتح ثغرة واسعة في حصن الفكر اليهودي التقليدي. فقد أطلق عصر الأنوار في ألمانيا أول حركة طالبت المسيحيين بفتح أبواب الغيتو ودعت الهيئات اليهودية الدينية إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، واعتماد اللغة الألمانية بدل العبرية، واختصار طقوس وإلغاء أخرى، وحذف الصلوات التي تدعو للعودة إلى صهيون أو إحياء مملكة إسرائيل.
وصلت أمواج هذه الحركة إلى أميركا حين رفع دعاة الإصلاح لمجالسهم الكنيسية مطالب مشابهة في العام 1824. لكن هذه الحركة تعثرت بفعل عودة الرجعية إلى أوروبا، بعد هزيمة نابوليون، واستئناف الاضطهادات ضد اليهود، خصوصاً في روسيا وشرق أوروبا، والتعصب القومي الجارف الذي أطلقته البورجوازيات الأوروبية في القرن التاسع عشر، يضاف إلى ذلك عدم احتضان مفكري عصر الأنوار الفرنسيين لهذا الاتجاه اليهودي المستنير الذي أطلقته حركتهم في الأصل وثباتهم على مواقف وأراء سلبية في اليهود جملةً، وهي أراء كتبها ديدرو في "دائرة المعارف" الشهيرة واصفاً "اليهود بالغموض والتعصب"، وعبَّر عنها دولباخ في كتابه "روح اليهودية" موصفاً اليهود "بالبخل وروح المصلحة الذاتية". أما فولتير فكان نقده هو الأعلى نبرة حين وصف اليهود أوصافاً مقذعة بينها "الجهل والبخل والوحشية والخرافة وكراهية كل الشعوب التي تسامحت مع اليهودي وكانت سبباً في ثرائه".
أسهم الغيتو من وجهة اقتصادية في تنمية الروح المادية النفعية، و"من الآثار العميقة للغيتو على الوجدان الصهيوني تصور الصهاينة أن كل شيء يباع ويشترى، بما في ذلك الوطن. فيهودي الغيتو كان لا يدخل إلا في علاقة نفعية مع العالم، والأغيار، بدورهم، كانوا لا يرونه إلا مصدراً للنفع".
* استاذ الادب المقارن والدراسات الحضارية في الجامعة اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.