اجتازت المكسيك مسافة واسعة على طريق التحول الديموقراطي في مطلع شهر تموز يوليو الجاري عندما تم فوز فينسنت فوكس، مرشح حزب العمل الوطني بمنصب رئاسة الجمهورية المكسيكية على منافسه فرنسيسكو لاباستيدا مرشح الحزب الثوري التأسيسي. فهذه النتيجة ادت الى تطبيق مبدأ تبادل السلطة في المكسيك لاول مرة منذ سبعة عقود من الزمن. واهمية هذا الحدث تتجاوز المكسيك نفسها الى دول كثيرة في العالم الثالث وخصوصاً في دول اميركا اللاتينية التي تأثرت بالنظام السياسي المكسيكي تأثراً كبيراً. ولقد كان المعلم الاهم من معالم ذلك النظام اقترانه بظاهرة الحزب المهيمن التي اتسمت بخصوصية ميزتها عن انظمة مشابهة لنظام المكسيك. تميز نظام الحزب المهيمن في المكسيك عن نظام الحزب المهيمن في الهند حيث سيطر حزب المؤتمر الهندي على الحكومة منذ عام 1947 وحتى عام 1977. فالنظام السياسي في الهند لبث ليبرالياً ديموقراطياً، اما النظام السياسي في المكسيك فقد استند الى مزيج من القيم والمبادئ الثورية والشعبوية والديموقراطية الدستورية، هذا مع العلم ان الحزب الثوري التأسيسي نشأ اساساً كحزب ليبرالي ديموقراطي ثم ابتعد عن الديموقراطية الليبرالية بعد وصوله الى السلطة. واختلف النظام السياسي الذي شيده هذا الحزب الاخير عن انظمة الاحزاب الاخيرة من حيث انه لم يصادر العمل السياسي أو يحتكره احتكاراً شاملاً في البلاد بل ترك للمعارضة هامشاً من حرية الحركة. كذلك اختلف نظام الحزب المهيمن عن انظمة سياسية قامت في بعض دول المعسكر الاشتراكي السابق مثل المانياالشرقية وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا التي عرفت نوعاً من التعددية السياسية في اطار تحالف حاكم. ففي هذه الدول الاخيرة كانت الاحزاب الشيوعية هي الحاكمة فعلياً، وكانت هي التي تحدد للاحزاب الحليفة دورها وحدود نشاطها بينما كان على تلك الاحزاب الاخيرة ان تتبع الاحزاب الشيوعية الحاكمة تبعية كاملة. في المقابل فإنه كان من المسموح للاحزاب الاخرى في نظام الحزب المهيمن المكسيكي المنشأ ان تقوم بنشاط خاص ومستقل ومعارض احياناً للحزب الحاكم. ان تجربة الحزب المهيمن لم تؤثر تأثيراً مباشراً في تجارب السياسة العربية. فخلال الفترات والمراحل المنصرمة برزت احزاب وجماعات سياسية عربية دعت الى الاقتداء بالتجارب الحزبية التي قامت في الاتحاد السوفياتي وفي الهند وفي المانيا النازية وايطاليا الفاشية وكذلك بالنظم الديموقراطية الليبرالية في اوروبا الغربية، الا انه ندر ان دعا مفكر او جماعات سياسية عربية الى الاقتداء بالتجربة المكسيكية كما حصل في دول اميركا اللاتينية. من هذه الزاوية قد يكون الاهتمام بالتحول الذي طرأ على المكسيك في غير محله. الا ان واقع السياسة العربية يدل الى ان "النموذج المكسيكي"، هو، من ناحية عملية، الاوسع انتشاراً بين الدول العربية التي تحكمها تنظيمات سياسية. من هنا فإن في التطور السياسي المكسيكي ما قد يفيد العمل السياسي العربي وما يساعد على مناقشة بعض الجوانب والفرضيات المتعلقة بمستقبل تجربة "الحزب المهيمن" في المنطقة. ولربما كان من المستطاع، عبر نتائج الانتخابات المكسيكية، مناقشة الفرضيات الرئيسية الثلاث الآتية الرائجة عربياً حول تجارب الاحزاب المهيمنة: 1- يعتقد البعض ان انظمة الحزب المهيمن هي اقل قدرة على الاستمرار وعلى الحفاظ على الوضع الراهن من انظمة الحزب الواحد. ويرى المقتنعون بهذه النظرية انه هناك علاقة سببية ومباشرة بين قدرة الحكم على الاستمرار، من جهة، وبين نجاحه في القضاء على سائر المعارضين المعلنين والمحتملين، وعلى الامساك امساكاً كلياً بمفاصل الحياة العامة والمجتمع، من جهة اخرى. فالحزب الواحد هو الاقدر على القيام بهذه المهمة، ومن هنا فإنه الاقدر على البقاء في السلطة وعلى "حفظ الاستقرار". التجربة المكسيكية تنقض هذه الفرضية لأن تجربة الحزب المهيمن في المكسيك بدأت في الفترة نفسها التي بدأت فيها تجربة الحزب الواحد في روسيا تقريباً. الثوار المكسيكيون بقيادة زاباتا وبانشو فيلا وكارانزا وصلوا الى الحكم في العام نفسه الذي وصل فيه الثوار الروس بزعامة لينين الى الحكم اي في عام 1917، الا ان تجربة الحزب المهيمن المكسيكي لبثت في الحكم لفترة اطول من تلك التي قضاها الحزب الواحد في الاتحاد السوفياتي سابقاً. 2- ومن الفرضيات المنتشرة، خصوصاً في الدول العربية التي عرفت تجارب الحزب الواحد او الحزب المهيمن، هي ان اطلاق الحريات العامة سوف يؤدي الى خسارة الاحزاب الحاكمة كل شيء. وبحسب هذه الفرضية فإن الخسائر هنا لن تطاول أية انجازات حققتها تلك الاحزاب في الحكم، ولا حتى مواقعها في السلطة واستمرارها كاحزاب فحسب بل ان الخسائر سوف تصل الى حدود تهديد اعضاء تلك الاحزاب وعوائلهم والمقربين اليهم بالتصفية الجسدية. وتقدم أمثلة عدة هنا الجزائر، العراق الخ... على احتمال تعرض أفراد النخب الحاكمة في انظمة الاحزاب المهيمنة والواحدة الى تلك المصائر اذا ما ضعفت قبضة تلك الاحزاب على الحكم. ولا ريب في ان هذه التوقعات لعبت دوراً مهماً في انحياز عدد كبير من اعضاء الاحزاب المهيمنة والحاكمة، في البلاد العربية، الى صف القائلين بالابتعاد عن اطلاق الحريات العامة وسلوك طريق التشدد ازاء الذين يخالفون الاحزاب الحاكمة والذين يخرجون على نهجها. ان تجربة انتهاء الحزب المهيمن في المكسيك تقدم مثلاً على احتمال تبادل السلطة بصورة سلمية لا تعرض افراد النخبة الحاكمة الى الاذى او مصالحها الى الضرر الكبير. فالتحول الديموقراطي لم يذهب بالحزب الثوري التأسيسي ولا حد من قدرته على منافسة حزب العمل الوطني الذي فاز برئاسة البلاد، بل بالعكس دل الى ان الحزب الثوري التأسيسي يمتلك تأييداً واسعاً بين المواطنين اذ نال مرشحه قرابة 35 في المئة من اصوات الناخبين بالمقارنة مع حوالى 42 في المئة نالها مرشح حزب العمل الوطني. وتذهب بعض التقديرات المحايدة الى القول إنه كان باستطاعة الحزب الثوري التأسيسي ان يفوز على منافسيه لو بذل محازبوه نشاطاً اكبر في الارياف من اجل ضمان مشاركة مناصري الحزب من الفلاحين والفقراء في الانتخابات العامة. ولا يستبعد البعض من المحللين ان يضطر الرئيس الجديد فوكس الى عرض تشكيل حكومة ائتلافية على الحزب الثوري التأسيسي حيث ان الحزب لا يزال يشكل قوة كبرى في مجلس النواب، ولقد ألمح فوكس بالفعل الى هذا الاحتمال في اول خطاب ادلى به بعد الانتخابات. 3- ومن الفرضيات التي تنتشر في الكثير من الاوساط العربية وغير العربية حول نظم الاحزاب المهيمنة هي انه لا قيمة لهامش الحرية المعطاة للاحزاب الاخرى في تلك الانظمة. ويقول لورنس وايتهيد عالم السياسة البريطاني المتخصص بتجارب الانتقال من النظم المطلقة الى النظم الديموقراطية ان الانطباع السائد في الاوساط التي تشكك في ذلك الهامش هو ان "الاحزاب المهيمنة تسمح للمعارضين بتشكيل الاحزاب ولكن ليس الحكومات"، وانها تفسح في المجال أمام احزاب المعارضة لكي تشتد في معارضتها وفي التنافس مع الحزب المهيمن الحاكم... الى الدرجة التي تضفي على انتصار هذا الحزب في المعارك الانتخابية صدقية داخلية وخارجية. ينبغي الاشارة هنا الى انه كان لتلك الفرضية نتائج كثيرة وبعيدة المدى على الاوضاع السياسية في الدول العربية التي تحكمها "الاحزاب المهيمنة". فهناك فريق من المواطنين انطلق من هذه الفرضية الى القول ان الطريق الوحيد لتصحيح الاوضاع يمر عبر العمل على اسقاط الانظمة في تلك الدول، اما عن طريق العمل المسلح الداخلي او عن طريق الضغوط الخارجية او الاثنين معاً. وذهب فريق من المتأثرين بهذه الفرضية الى السير على طريق آخر مختلف كلياً. ذلك انه اذا كانت الحريات العامة مفقودة كلياً، فانه لا فائدة، في نظر هذا الفريق، من القيام بأي عمل او مبادرة مستقلة عن الدولة، او بأية محاولة لتوسيع نطاق الحريات العامة والفردية. التحول الديموقراطي في المكسيك قدم دليلاً الى ان هذه الفرضية قد لا تكون في محلها. فتطبيق مبدأ تبادل السلطة والانتقال من حكم الحزب المهيمن الى نظام التعددية الحزبية جاء حصيلة عوامل متعددة من اهمها ما قامت به احزاب وحركات المعارشة من جهود ونشاطات وتضحيات من اجل توسيع هامش الحريات المتوافر في البلاد. وساهمت المعارضة اليمينية متمثلة ب"حزب العمل الوطني" الذي جاء منه الرئيس الجديد، والمعارضة اليسارية المتمثلة ب"حزب الثورة الديموقراطي" في ممارسة الضغط على الحزب الحاكم بقصد تطبيق مبدأ التدوال السلمي للسلطة والانتقال الى نظام التعددية السياسية وانهاء هيمنة الحزب الحاكم على الدولة والمجتمع. ولقد اثمرت هذه الضغوط من حيث تأثيرها في الحزب الثوري التأسيسي اذ برزت فيه قيادات تجاوبت مع نداءات المعارضة وتطلعات قسم كبير ومتزايد من المكسيكيين. وتمكنت هذه القيادات من ادخال اصلاحات مهمة على النظام السياسي كان من نتائجها فوز المعارضة بعدد كبير من النواب في انتخابات عام 1988 مما اضفى على البرلمان المكسيكي طابعاً متجدداً من الجدية والصدقية. وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1994 فاز مرشح الحزب الحاكم ولكن بمشقة وفي خضم نشاط معارض عنيد قامت به احزاب المعارضة. وخلال الانتخابات التي جرت في التسعينات تمكنت احزاب المعارضة من انهاء احتكار الحزب الحاكم للاكثرية البرلمانية لكي تنتهي في الانتخابات الرئاسية الاخيرة الى انهاء حكم الحزب المهيمن في المكسيك بعد سيطرة استمرت 71 عاماً. ان هذا التحول السلمي التاريخي في المكسيك ما كان ليتم لو رضخت الاحزاب المكسيكية، المهيمن والمعارض منها، للفرضيات والانطباعات الحذرة والمتشائمة تجاه احتمالات الانتقال السلمي من تجربة الحزب المهيمن الى تجربة التعددية السياسية. ولا ريب في انه باستطاعة النخب السياسية العربية في انظمة الاحزاب الواحدة والاحزاب المهيمنة الاستفادة من التجربة المكسيكية من اجل اطلاق عجلة التغيير السلمي والديموقراطي في البلاد العربية. وبامكان احزاب المعارضة العربية ان تلعب دوراً ايجابياً على هذا الصعيد اذا تمكنت هي ايضاً من الالتزام الحقيقي بالمبادئ الديموقراطية. السابقة المكسيكية تمت في ظروف تختلف عن الاوضاع العربية الا انها توفر على الاقل مجالاً جيداً للتأمل وحافزاً لمراجعة الكثير من المقولات والفرضيات المحبطة للتطور الديموقراطي والتي يروج لها في المنطقة العربية. * كاتب وباحث لبناني.