طرحت التجربة المصرية إشكالية العلاقة بين الشرعية الثورية والشرعية الديموقراطية، وهي مسألة جدّ قديمة ومعقّدة، فضلاً عن أنها تنطوي على التباسات وتوظيفات مختلفة. فبصرف النظر عن موقف التيار الإسلامي من الدولة المدنية، وضمن ذلك مسألة مصدر السلطة، والقوانين الوضعية، والشبهات التي تحوم من حول اعتباره الديموقراطية، وضمنها الانتخابات، مجرّد سلّم، أو جسر للعبور إلى السلطة، وانتهى، فإن موقف التيارات الأخرى من الديموقراطية لا يخلو كذلك من الالتباسات والشبهات. فمنذ عقود، ثمة نوع من التوتّر المتبادل بين دعاة الحرية («الليبراليين») من جهة، والديموقراطيين من جهة أخرى. فالتحرّريون، الذين يقفون مع المساواة في الحقوق والحريات بين المواطنين، يرون أن ثمة في الديموقراطية نوعاً من اللامساواة في توزيع المنافع، لأنها في ذلك تساوي بين غير المتساوين، وتحدّ من الإبداع بالتالي من تأمين الفرص؛ ما يقلل قيمة العدالة الحقيقية فيها لمصلحة عدالة شكلية. وإضافة إلى ذلك، يرى هؤلاء أن الديموقراطية ربّما تتضمّن، أيضاً، نوعاً من فرض ديكتاتورية الأكثرية على الأقلية، ما قد يؤدي إلى سلب الأقلية حريّتها. ويطرح باسكال سلان هذه الاشكالية من خلال فكرته الافتراضية عن وجود قرية تتألف من 100 فرد، وقد تشكلت فيها غالبية من 51 لصاً تحاول سلب ال49 الآخرين أموالهم، لمجرّد كونهم يشكلون غالبية تريد ذلك. وعلى أية حال، أدّت هذه التساؤلات والشبهات إلى تحصين العملية الديموقراطية من خلال تحميلها بمضامين ليبرالية، تتعلق بتحصين حقوق الأفراد السياسية واعتبار حرية الفرد وخصوصيته وكرامته بمثابة قيمة عليا، يتم النصّ عليها في الدستور. لكن مصدر الاحتجاج الأقوى على الديموقراطية لا يأتي من «الليبراليين» وإنما من «اليساريين»، لا سيما من الذين يتبنّون النظرية الماركسية - اللينينية، التي ترفض الديموقراطية، أصلاً، لأنها ترى في البرلمانات مجرّد نواد للسفسطة الفارغة، في حين أن لعبة السلطة في مكان آخر، ولأنها تعتبرها، أيضاً، مجرّد عملية أداتية تتلاعب البورجوازية من خلالها بالمجتمع وتعزّز سيطرتها عليه. معلوم أن هذه النظرية تتأسّس على فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا»، التي تتناقض مع مبدأ الديموقراطية للجميع وتداول السلطة، والتي ترتكز على الصراع الطبقي، لا التعايش الطبقي، وعلى الاستيلاء على السلطة بالعنف لا بوسيلة الانتخابات، وكذا على سيطرة الحزب الواحد، بدل التعددية الحزبية وتداول السلطة. وفي حيّز التجربة التاريخية للأحزاب الشيوعية تم التعامل مع الديموقراطية باعتبارها مجرد وسيلة للصراع السياسي، وليست وسيلة لحسم التوازنات وضبط الصراعات في المجتمع. عموماً تم تأصيل ذلك في وجهات النظر التي سطّرها ماركس وانغلز انطلاقاً من تجربة كومونة باريس (1871)، التي أثاروا فيها الشبهات حول الجمعية الوطنية المنتخبة باعتبارها أداة في يد الثورة المضادة من ناحية، والتي اخذوا فيها على البروليتاريا الفرنسية عدم استعدادها الكافي لأخذ السلطة بقوة السلاح. وقد دعمت وجهات النظر هذه، في ما بعد، بكتابات لينين، المتعلقة برهن المشاركة في مجالس الدوما، باللحظة السياسية، وموازين القوى، مع التحفّظ على التعويل على النضال البرلماني والديموقراطي الذي وُصِم بأنه أداة للبرجوازية ليس إلا. وفي المحصلة، فإن تجربة الثورة الاشتراكية في روسيا (1917) انحازت إلى فكرة الشرعية الثورية بدل الشرعية الديموقراطية، بحل الجمعية التأسيسية المنتخبة باعتبارها مجرد جهاز للسلطة البرجوازية القديمة وأداة للثورة المضادة، وذلك لمصلحة لجان العمال، وتشكيلات الحزب الشيوعي. اللافت أن فكرة «الشرعية الثورية» لم تبق حكراً على التيارات اليسارية، إذ استهوت أيضاً النظم التي اعتبرت نفسها أنظمة ثورية ديموقراطية، وكذلك حركات التحرّر الوطني التي باتت هذه الفكرة جزءاً من ثقافتها السياسية، بتأثير من هيمنة التيارات اليسارية والمنظومة الشيوعية السابقة... علماً أن تلك الدول قامت أساساً من طريق الانقلابات العسكرية، فيما الحركات الوطنية هي بمجملها حركات مسلحة، تعتمد العنف لفرض ذاتها في المعادلات السياسية، سواء على السلطات المحتلة، أو في مجتمعها، وهذه أمور حصلت في التجارب العربية، في الجزائر وفلسطين ولبنان والعراق. فوق كل ذلك، ينبغي الاعتراف بأن واحدة من أهم مشكلات الديموقراطية إنما تكمن باختزالها في مجرّد انتخابات، وهذه تخضع في البلدان النامية ك «بلداننا» إلى محدّدات القوة والسيطرة، بوسائل المال والدين والقوة العسكرية ودرجة النفوذ السياسي التي قد تفرّغ العملية الديموقراطية من مضمونها؛ كما أظهر بعض التجارب. عموماً، فقد سهّل على وجهات النظر السابقة أن نتائج تطبيقات الديموقراطية لم تكن كلها مرضية، لا سيما وقد نجم عنها، مثلاً، صعود كل من هتلر في ألمانيا، وموسوليني في ايطاليا. وفي العراق فقد نجم عن «نقل» الديموقراطية بطريقة قسرية وعنفية وخارجية كسر المجتمع العراقي، وصعود الهويات الدينية والإثنية والعشائرية فيه. وها نحن إزاء مصر وقد وُضع المصريون في مواجهة خيارين صعبين، إما احمد شفيق وما يمثله من استمرار للعهد السابق الذي أُسقِط بالثورة، وإما محمد مرسي مع ما يمثله من صعود لتيار الإسلام السياسي، والذي يعني إمكان الاستبداد باستبداد من نوع آخر، لا سيما مع كل التقلبات والتلاعبات التي انتهجها تيار «الإخوان المسلمين» في مصر منذ بداية الثورة. ولكن مع كل المشكلات التي تعطّل معنى الديموقراطية، فإن ما يسمى الشرعية الثورية ليست أحسن حالاً. فباسم هذه الشرعية هيمن الاستبداد، وسادت عبادة الفرد، وباسمها جرى تهميش الشعوب التي باتت مجرد كتلة صماء تهتف للقائد الملهم. فوق ذلك، فإن الشرعية الثورية تصبح غاية في ذاتها، فهي فوق الدولة والقانون، وفوق حريات المواطنين، وهي المرجعية السياسية والأخلاقية. هكذا فإن الديموقراطية الدستورية، المقترنة بضمانات الحرية والحقوق السياسية المتساوية لمجموع المواطنين، هي الحل، على رغم مشكلاتها ونواقصها، فهي الصيغة التي توصل إليها العقل البشري عبر تجربته التاريخية لحل الخلافات وضمان سلام التعايش السلمي والايجابي بين المختلفين. أما المشكلة كما تبدّت في التجربة المصرية فهي نتاج غياب السياسة والتعددية الحزبية، ونتاج ضعف التفاعلات السياسية والخبرة الشخصية، فضلاً عن أنها الانتخابات الأولى من نوعها في تاريخ المصريين، وسيكون لها ما بعدها.