قدمت المخرجة والممثلة العراقية روناك شوقي، من خلال "استوديو الممثل" الذي ترعاه، عملها المسرحي الثامن في عنوان "شهرزاد" على مسرح كوكبيت Cockpit theatre شمال لندن لأربعة أيام متتالية، وتستعد لنقل العرض الى مدينة مانشستر وربما الى مدن أخرى. والسؤال الأول الذي يتبادر الى الذهن لحظة التوجه الى حضور المسرحية هو: لماذا شهرزاد الآن؟ وخصوصاً في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ، حين يتغير العالم في كل يوم، لا بل في كل ساعة وكل دقيقة. وذلك تبعاً لثورة التقنية وهندسة الجينات التي ما انفك ينجزها "الآخر" بتسارع غير مسبوق، ونحن كمجتمعات عربية تقف خارج هذه الرهانات الحضارية المعاصرة متفرجين ان لم نقل شهود زور، على رغم قناعتنا بأن لا مكان اليوم في الساحة الدولية إلا للأقوياء في المعاني الاقتصادية والعلمية والبحثية. لماذا شهرزاد الآن، ولا سيما أن الصورة السطحية الراسخة في أذهاننا عن حكايات "ألف ليلة وليلة" هي صورة خرافية عن الغواية والجنس والحب عبر اكسسوارات أسطورية مركبة في فضاءات سحرية عابقة بالأفعال الخارقة للشياطين والجن والمردة. وفي أرقى الحالات وأكثرها تهذيباً وهي صورة للذكاء والدهاء الأنثوي من أجل البقاء ومواجهة فعل الموت فضلاً عن جموح الخيال للهروب من قباحات الواقع المعيش برعبه والامه الى عوالم أكثر طمأنينة على رغم اليقين باستحالتها، وان كانت شكلاً من أشكال تجديد الآمال أو الأحلام والطموحات؟ ولكن ما أن يبدأ العرض حتى تبدأ هذه الهواجس بالتلاشي لننساق بإلفة الى أجواء أكثر حميمية وأكثر التصاقاً بواقعنا. وفي البداية لا بد لمتلقي عرض شهرزاد - خصوصاً إذا كان من متابعي أعمال روناك شوقي السابقة - إلا أن يلاحظ مدى التغيير الكبير في شكل أو نمطية مسرح روناك إن صح التعبير. فالمعروف أن عروض الفنانة روناك كانت تتميز بالجدية أكثر من اللازم أو بنوع من الصرامة، حتى انها كانت تسعى الى ملامسة الاوجاع أو التورمات في جسد الثقافة العربية بمبضع الجراح مباشرة ومن دون مسكنات أو تخدير. كانت أيضاً تسعى الى مسرح تقليدي من حيث الاطلالة. غير أنها في عرض "شهرزاد" كان مسرحها أكثر قرباً من مسرح الحكواتي في شكله. فهي اختارت الفُرجة شبه الدائرية ووزعت المشاهدين على المتلقين من ثلاث جهات، واعتمدت شكل الحلقة الشعبية في التواصل مع المتلقي من خلال السرد وتقطيع الأحداث فبدت المشاهد وكأنها لوحات شعبية معروفة في أريافنا وقرانا في الأفراح والأتراح. ولعل اختيارها بدء العرض بالغناء الساخر هو اختيار موفق الى حد بعيد خصوصاً أن الدور الغنائي أداه الفنان الشاب جميل ضاهر فبرع الى حد بعيد في العزف المنفرد على العود وفي الأداء، وقدّم أغنيته الأولى "من غير حسد" التي يقول مطلعها: "من غير حسد/ بالع بلد/ ماشي كأنك لم/ تحمل عُقَدْ/ تجلب عُقَدْ/ طاحش ولا بتهتم". وهي من كلمات الشاعر بسام العنداري وألحان وغناء جميل ضاهر الذي ذكرنا بأسلوب الفنان زياد الرحباني وصديق عمره الفنان الراحل جوزيف صقر. ولعل التغيير في شكل المسرح أو الفرجة واستهلال العرض بالغناء هما اللذان جعلانا ننساق بسلاسة الى حكايات شهرزاد المستعادة وهما اللذان جعلانا نكسب راهنيتها كسؤال عربي يتجدد دائماً في محاولاتنا للبحث عن الذات طوال القرون الخمسة الماضية على الأقل. فالمجتمعات العربية ما زالت تنتقل من خيبة الى أخرى على كل المستويات. وكأن المعادل الموضوعي لوجودنا هو العسف والقمع والاضطهاد والفقر والأمية في أشكال مختلفة واننا كمجتمعات لا نصلح إلا لذلك، أو أن الحداثة لا تليق بنا ولا تستطيع معدتنا هضمها. الفنانة روناك شوقي في مسرحية "شهرزاد" تطرح سؤالها التحديثي من خلال مواجهة البطريركية الأبوية التي لا ترى قيمة لوجودها الا بذكورتها. هذا اذا تجاوزنا دلالة الحاكم شهريار المطعون بكرامته وفشل أن يكون رجلاً سوياً له عزة ومهابة طبيعية فراح ينتقم من رعاياه بارغامهم على تقديم عروس - ضحية في شكل يومي الى مخدعه أو مذبحه لا فرق. وهي دلالة واضحة ويمكن أن تنسحب ببساطة على كل القائمين على النظام السياسي العربي الذين فشلوا في استعادة الكرامة القومية والقطرية فضلاً عن خيباتهم التنموية. فراحوا يتلذذون بتطويعنا وتدجيننا لنتحول الى خصيان لا أكثر ولا أقل. وبعيداً عن هذه الدلالة فإن المسرحية تطرح سؤالها التحديثي بعفوية وبساطة من خلال إلغاء الغواية والدهاء الأنثوي لدى شهرزاد - المرأة - وتسليحها بالثقافة. فشهرزاد التي اختارت بنفسها أن تكون ضحية بنات جنسها جاءت الى المخدع - المذبح، تتبرج بعقلها وكتبها وشخصيتها كما هي من دون عطور وأصباغ لا بل تعمدت قص شعرها الذي هو بمثابة زينتها الطبيعية خشية أن يلعب دوراً ما في الغواية. لأنها قررت مواجهة الوحش وترويضه ومساعدته لاستعادة انسانيته. وبالتالي تأهيله ليكون رجلاً سوياًً وزوجاً عطوفاً ومن ثم أباً صالحاً لرعاية أسرته، وكل ذلك من خلال العقل وليس الجسد. وروناك بهذا تسعى الى طرح موضوع العلم والثقافة كعنوان رئيسي لمشروع الحداثة العربية مع التركيز على دور المرأة بعد منحها الحرية الكاملة في ممارسة حقها كعضو أصيل وليس ملحقاً في المجتمع. ونجحت روناك في تقديم هذه المعادلة الصعبة - لجهة جديتها - في قالب لا يخلو من الفكاهة بل هو بدا مطرزاً بالبساطة والعفوية من خلال استخدام الحبكة الشعبية في الحكاية وأدواتها السردية مع اللغة المخففة بفصاحتها فضلاً عن الخروج الى العاميات المتعددة بتعدد لهجات الممثلين الثمانية الذين لعبوا نحو ثلاثين دوراً. أما بالنسبة الى أداء الممثلين فلا بد من التوقف عند دور شهريار الذي لعبه الممثل المحترف والمخرج عدنان علوان وقد بدا متمكناً من مهنته. فالكلمة لديه لها بعدها التعبيري من خلال ملامح الوجه وحركات الجسد اضافة الى دلالتها اللغوية. ولكن لا أعرف لماذا بدا في نهاية العرض غير مقنع وخصوصاً في لحظات التعبير عن انكسار شهريار. فبدا الانكسار الذي جسده غير متلائم مع الانتصار الذي بدت عليه شهرزاد. طبعاً لا يمكن اغفال اداء عدنان علوان في شخصيات نورالدين والأب، والزوج. فهو ممثل من طراز جيد بحق. أما دور شهرزاد الذي لعبته مخرجة العمل الفنانة روناك شوقي، فهو كان من دون شك جيداً. ولكن لم يبرز السبب الذي يجعل نجاح المخرجة في الاخراج أكبر بكثير من نجاحها في التمثيل، وهذه المشكلة معروفة قبل روناك مع المخرج الرائع يوسف شاهين. ولهذا كان من الأفضل أن تكتفي روناك بالاخراج وأن تعهد دور شهرزاد لشابة أخرى من دون أن تكون محترفة. غير أن المفاجأة الكبيرة في عرض "شهرزاد" كانت في أداء أحمد حسني فهو قدم شخصية الجني "داهش" ببراعة تليق بممثل محترف بحيث بدا متمكناً من الشخصية الى درجة الدهشة. ولولا الاخفاء الكلي لوجهه لكانت صورته وملامحه في الدور انطبعت في مخيلة كل من شاهده لفترة طويلة لأنها مقنعة الى أبعد الحدود، وخصوصاً أن دوره كان بمثابة جسد لتوصيل الحبيب الى المحبوب المنفي في جبل الثكلى وهي تسمية ذات دلالة. وهو أدى أيضاً دوري هارون الرشيد، والإسكافي وقد برز خلالهما في تعليقاته العامية اللماحة. والمفاجأة الأخرى في العرض كانت من الزميل الآخر جميل ضاهر، الذي أدى أدوار بياع الحرير والحمال ووزير هارون الرشيد. اضافة الى دوريه غير المعلنين: العازف والمغني في ليل الجواري. ولعل دوره الأهم في الربط بين المشاهد كان بمثابة المفتاح لمشاهد المسرحية. غير أنه لم يتمكن من ضبط ملامح وجهه لينسجم مع الأداء إلا في الغناء. كذلك لا يمكن إغفال أدوار فاتن العمري دنيا زاد، الأخت الكبرى، العجوز فهي في مشاركتها الثانية مع روناك بدت مرتاحة لدورها وللشخصيات اللواتي قدمتهن. وقامت رندا جدعون بدوري "قمر الزمان"، و"ورد الأكمام"، والشاب زيدون مشتت بأدوار "أنس الوجود"، "وزير شهريار" و"بائع الخضار"، وزينب الفاطمي بدوري "الجارية و"دنيا الزمان"... وهؤلاء جميعهم هم في تجاربهم الأولى وبذلوا جهوداً كبيرة يستحقون عليها الثناء.