غاب الطيب الصديقي، أبو المسرح المغربي ورائد مسرح الفرجة. لكن طيفه لا يمكن ان يتلاشى في ذاكرة جمهوره الكبير، المغربي والعربي، الذي رافقه ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، وأحبه في أدواره الساطعة، التراثية والشعبية ذات المنحى الكوميدي الفريد. غاب الصديقي مريضاً ووحيداً في الدار البيضاء عن 79 سنة أمضى منها ردحاً طويلاً إما على الخشبة وإما في محترفه الأخراجي وإما الى طاولته يكتب ويقتبس أشهر النصوص التراثية العربية والفرنسية. شخص الممثل كان طاغياً على الصديقي حتى في حياته اليومية، ومن كان يراه يترندح ويمشي بخيلاء جاراً وراءه عباءته المغربية ضاحكاً او مقطباً، كان يظن انه يتدرب على دور سيؤديه قريباً. وكان بشعره الأجعد والطويل ولحيته النابتة والخشنة ومحجريه اللذين كان يكحلهما يبدو كأنه أمير غير متوج في حكاية من حكايات الف ليلة وليلة. ممثل ساخر على الخشبة وفي الحياة، لم يكن ليفصل اصلاً بين حياتيه، الحقيقية والمتخيلة، بين المسرح الذي كان يعتليه ببراعة والواقع الذي يعيشه. مرة صفع الممثل المصري الكوميدي الراحل يونس شلبي صفعة مدوية على رقبته وهو كان جالساً امامه في الصالة، ونهض سريعاً ليقبله ويحييه ويمدحه. وكم كان يملأ كواليس المهرجانات العربية وردهاته بقصصه الطريفة، العجيبة والغريبة. شخصية فذة، لامعة، وفريدة في طبعها ومواقفها وسلوكها. كان الصديقي كاتباً حقيقياً، كتب بالعربية وبالفرنسية ونجح كل النجاح في الاقتباس المسرحي لنصوص تراثية بارزة مثل كتاب «الامتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي وكتاب «المقامات» للهمذاني وكتاب «نوادر جحا» وسواها... وقد استخرج من هذه النصوص نوادر وطرائف وحكايات وشخصيات بنى بها مسرحه الفرجوي والاحتفالي الذي كان رائده عربياً. وقد أوجد قواعد ونظريات لهذا المسرح الذي أسسه وكان رائده، مصالحاً بين الأشكال التراثية ومعطيات المسرح الحديث الذي كان على إلمام تام به من خلال دراسته الجامعية وثقافته الشاملة. وهو كان أكمل دراسته المسرحية في فرنسا مما أتاح له متابعة الحركة المسرحية الفرنسية والعالمية والاطلاع على أحدث الأساليب والرؤى المسرحية. ومعروف ان الصديقي انطلق في العمل الجماعي حين تأسيسه فرقة «المسرح العمالي» عام 1957 ثم ادار فرقة «المسرح البلدي» بدءاً من العام 1965. وانطلاقاً من ايمانه بالعمل الجماعي شارك الصديقي في تأسيس فرقة «الممثلين العرب» التي انطلقت بها الفنانة اللبنانية نضال الأشقر وكان اول عروضها مسرحية «الف حكاية وحكاية في سوق عكاظ» وأخرجها الصديقي جامعاً فيها ممثلين كباراً من العالم العربي مثل قاسم محمد من العراق وثريا جبران من المغرب ورفيق علي احمد من لبنان. وفيها أدت نضال الأشقر شخصية شهرزاد وسواها. رسخت هذه المسرحية أجمل نموذج عن المسرح الجماعي الشامل الذي سعى الصديقي الى تجسيده، عبر ركائز الفرجة واللعب التمثيلي والازياء والموسيقى والغناء. قدّم الصديقي اعمالاً كثيرة مثل «ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب»، و «مولاي إدريس»، و «عزيزي» و «الحراز» و «قفطان الحب» و «الشامات السبع» وأحيا ليالي مسرحية كوميدية عدة مفتوحة، وقدم عروضاً مونودرامية كان هو بطلها. ولم يهمل السينما فكانت له فيها افلام قليلة ومنها فيلم «الزفت» المقتبس عن مسرحية «في الطريق» التي تتناول موضوعة أضرحة الأولياء. وفي الثمانينات كتب نصاً مسرحياً بديعاً بالفرنسية رثى فيه احد المسارح بعد هدمه لغاية اعمارية، راثياً زمانه الذي مضى معه. الا ان مسار الطيب الصديقي لم يسلم من بضعة مآخذ وأبرزها موقفه المؤيد للتطبيع مع دولة الاحتلال الاسرائيلي في الثمانينات، فهو سقط في هذا الفخ مثله مثل اسماء عربية كثيرة كبيرة فزار اسرائيل ضمن وفد مغربي والتقى سياسيين ومثقفين هناك. لكنه سرعان ما ندم وقدم اعتذاراً معترفاً بهذا الخطأ، لا سيما ان ماضيه حافل بالمواقف النضالية المؤيدة للقضية الفلسطينية.