حين يُذكر رواد المسرح العراقي، يحضر اسم الفنان خليل شوقي، فقد كان فضلاً عن تألقه بأدوار مكثت في ذاكرة الناس، من مؤسسي أهم الفرق المسرحية في العراق، ومن بين أول الذين تولوا أدوار البطولة في السينما، وبقي على صلة مع جمهوره عبر الدراما التلفزيونية إلى نهاية الثمانينات. يصل شوقي تسعيناته، ينحني ظهره ويضعف نظره وتثقل حركته، ولكن حكايا المسرح والحياة الفنية في العراق ومفارقات الخشبة والكاميرا تضج بها أحاديثه. أقعده المرض هذه الأيام عن حضور عرض أهداه إليه أبناؤه وبناته وحفيداته، وجرى هذا العرض على مسرح الكوستورس في إيلنغ احدى ضواحي العاصمة البريطانية. أخرجت روناك شوقي مسرحية تكريم والدها في عمل جميل عنوانه "همس الياسمين"، وبدا الأمر كما لو انه مفارقة غريبة، فنحن في مسرح داخل مسرح، الممثلات يتشابهن رغم اختلاف الأعمار، وتقاربهن في القدرة التمثيلية وفي الأصوات والنبرات، خلق ما يشبه الجو الطقسي. ولعل موضوع المسرحية الذي يدور حول العائلة والماضي والحاضر يوهم بأنه تمرين على مقربة من الحياة. فما بين مي شوقي الممثلة القديرة وابنة أخيها رويدا شوقي عمر مديد من الخبرة، ولكن كانت هناك صلة مبهمة تشد وثاق الشخصيتين، لعله الحوار المرح، او تلك الانتباهات الصغيرة في الكلام، إنها الصلة التي تربط الربيع بالخريف. حفيدة شوقي المقبلة على الزواج في المسرحية، هي امتداد لعمتها التي تنظر إلى الزمن بعين متفائلة رغم شيخوختها. ترحل الاثنتان إلى مكان بعيد كي ينهين حزن امرأة منكوبة بفقدان زوجها، وتتجمع النسوة حول الصغيرة كي تروي ليلة عرسها. تلك الحوادث تجري على هامش الثيمة الأصلية، حول مرايا الحياة وانعكاساتها، فالصغيرة تقود الكبيرة، ولكن الطاقات الكامنة في دورة الأزمنة وفي تقادم الربيع، تشد الشخصيتين إلى بعضهما. ومع اننا نستعيد هنا "بيت برنارد ألبا" مسرحية لوركا التي اخرجتها روناك شوقي أكثر من مرة، غير ان كل المشاهد بدت كما لو اننا نحضر شريطا تتداخل فيه الحياة بالمسرح، الخيال بالواقع. انها أقرب إلى جلسة سمر عائلية، خلف المسرح وأمامه، يشرف الكبير فارس شوقي على الانتاج وواثق على الديكور وعلي على الموسيقى. كل أبناء وبنات شوقي مسرحيون، حتى الحفيدات الجديدات اخترن المصير نفسه، لم تشارك خارج العائلة في هذا العمل سوى ممثلة واحدة هي ربيع العبايجي واثبتت حضوراً متميزاً رغم انها ليست من المحترفات. " همس الياسمين" واحد من أفضل أعمال روناك شوقي، فهو عدا خاتمته، يحمل ايقاعاً هادئاً وجمالية رومانسية تناسب السيناريو الذي اعدته المخرجة عن نص كتبته الكولومبية ماريا دي سكورو غونثاليث. والنص يثير أسئلة مهمة عن الحدود الفاصلة بين الحب والكراهية، السعادة والتعاسة، الحرية والعبودية وسواها من الاسئلة الوجودية. اختان مشرفتان على خريف العمر، الصغيرة شبه معتوهة والكبيرة أنفقت زمنها في الحفاظ على الذكريات، البيت الذي هرمت جدرانه والصندوق الذي يحوي حاجيات الأهل، وهي تكلم اختها مثل من يحكي مع نفسه: "عندي خوف كبير من أن أفقد هذا الصندوف، وإذا حصل ذلك فسأفقد إيماني بكل شيء.. بنفسي.. بيومي.. بالمستقبل." لعل هذا الحب الذي تكنه لماضيها يتحول الى ما يشبه العقيدة التي لا تحيد عنها، فهي ترفض أية مساومة مع الحاضر، تنوء بحمل ثقيل ولكنه مصدر فرح خفي. الحوار مع اختها بدا كما لو انه بحث في علاقات الخضوع والسيطرة، انه الفاصلة التي تنبثق منه قوة السلطة ومكنتها. فالاخت الكبيرة "مثّلت الدور" عشتار فاروق ابنة مي شوقي" اعتادت خلق تقنيات الإكراه، فهي تتكلم باسم المُثل العليا، باسم الماضي المقدّس حيث تتضاءل أمامه كل الاعتبارات، بما فيها اعتبارات الحنان والتكافؤ والتواصل بينها وبين اختها. حتى الحب يطوى مع رحيل هذا الماضي ويصبح في أحسن حالاته، جزءا من الولاء المطلق. فقدر ما ترى هذه المرأة الماضي زاهياً وجميلاً ومتعالياً، قدر ما تنسحق تحت انبهارها به. "أمي كانت مثل قصة جميلة يحكيها الناس" هذه اللازمة التي ترددها تمحو عن الحاضر كل بهجة، فالجمال يكمن هناك، حيث لا تملك سوى لحظات التلذذ بعذاب فقدانه. نوع من المازوكية والسادية التي تمارسها ضد اختها الصغيرة باسم الذكريات الجميلة والنبيلة . الأخت الصغيرة "مثّلت الدور روناك شوقي" تدعي الجنون كي تفلت من وطأة الرعاية التي تضمر استحواذاً، ولكنها في النهاية تجهز على اختها الكبيرة كي تتحرر منها.. بقية النسوة في المسرحية أدين دور الكورس في العمل الذي تديره شخصيتان. إنهن شاهدات على تلك الايقاعات المكبوتة التي تحدد طبيعة الصلة بين الأختين. لعلهن أقرب الى ضمير جمعي يحكم على العلاقة ولكنه غير قادر على تحويلها في مسار مختلف. هذا الربط بين البيت وخارجه خلق للمخرجة مساحة للحركة الجماعية على المسرح. فالحكاية لا يرويها الأفراد وحدهم بل ترويها النساء ويبّت الناس بأمرها. العلاقة بالغير تصبح مفتاحا للإخراج، فالمسرحية عبارة عن لوحات تحددها الحركة الجماعية، وهذه الحركة تقوم على التناظر سواء في وجود شخصيتين على المسرح او مجموع الممثلات. وبمساعدة الإضاءة والموسيقى التي تربط الفقرات استطاعت المخرجة أن تجعل العمل عبارة عن لوحات فنية، فالخشبة تنقسم إلى ثلاثة ابعاد، بيت العائلة ومكان تجمّع الجيران والزمن المتحول أو حركية الحوادث. ولعل مساحة المسرح الصغير وهو مسرح فرعي من مسارح لندن، لم تحل دون أن تبدو اللوحات جميلة ومعبّرة. لعل الجانب التجريبي في العمل ساعد المخرجة على تكوين مفردات جمالية مكتفية بنفسها، سواء في حركة الممثلات اوفي تناظر وجودهن أو في حوارهن الطقوسي. ولكن العمل بدا كما لو انه البروفة الأخيرة، ربما لأن وقت التدريب على المسرحية كان قصيرا، بسبب شتات عائلة شوقي، أو ربما لأن الفقرة الأخيرة عادت فيها المخرجة إلى مفردات سبق ان استخدمتها بكثرة في مسرحياتها، وخاصة منظر العنف بين امرأتين. فالمسرحية تطرح قضية خرس وخبل الأخت الصغيرة كما لو انه رد على الكبت والخوف الذي زرعته الأخت الكبيرة فيها. ولكن الجيران يسمعون أغانيها وكلامها، هذه القصة لو بقيت معلّقة في فضاء المسرح، لكان لها وقع يتفوق بكثير على وقع المشهد الأخير الذي تكلمت فيه وقتلت اختها. ولم تكن الإضافة وحدها قد أسهمت في كسر الإيقاع في المسرحية، بل ذلك الإفصاح عن ما تعجز المشاعر عن قوله، وهو سر جمال المسرح.