استغل رئيس زيمبابوي روبرت موغابي قمة مجموعة ال77 في هافانا قبل اسبوعين، ليعلن "رفضه وتحديه لغطرسة دولة كانت عظمى"! وقال في خطاب ناري ان بلاده لن تخضع لحصار وعزلة مستعمرها السابق لأنها تسعى الى استعادة ارضها المُصادرة منذ عام 1890، اي منذ وصول المستعمر البريطاني سيسيل روديس. واعلن موغابي امام مسؤولين من دول العالم الثالث، ان اقل من نسبة واحد في المئة من البيض يملكون سبعين في المئة من الاراضي بسبب الامتيازات التي خصّتهم بها الحكومة البريطانية واعتبرتها ثمناً لاستقلال 1980. وحذّر الاسرة الدولية في خطابه من مخاطر استغلال فرض العقوبات ضد بلاده، مؤكداً ان ادوات الترهيب لن تمنعه من استرداد اراض يعتبرها ملكاً للزيمبابويين، تماماً كما تعتبر بريطانيا اراضيها ملكاً لشعبها. كان واضحاً من لهجة الخطاب ان موغابي تعمّد تحريض دول افريقيا ومجموعة العالم الثالث، بهدف الحصول على تأييدها في مواجهة المعارضة المتنامية ضده في الداخل والخارج. وهو يستند في حجته الى برنامج الاصلاح الزراعي الذي يعيد توزيع مساحات شاسعة من الاراضي على السود والبيض، في وقت استولت الاقلية المستعمرة على سبعين في المئة من المزارع الخصبة القريبة من مصادر المياه، وتركت لاثني عشر مليون اسود مساحة ثلاثة في المئة من اراضٍ مجدبة معرّضة دائماً للجفاف. ولقد تضمن "اتفاق لانكستر هاوس" الذي أُعلن من لندن عام 1980، برنامجاً متكاملاً يؤدي تنفيذه الى اعادة توزيع الاراضي بشكل عادل ومتوازن بين السود والبيض. وتعهدت بريطانيا في حينه مع بعض الدول الاوروبية، تمويل المشاريع الزراعية وتقديم المساعدات اللازمة. مقابل هذا التعهد وقّع موغابي ورفاقه في الوفد المفاوض، وثيقة الحفاظ على حقوق الاقلية البيضاء، واعتبارها شريحة اساسية في المجتمع، وشريكة في مستقبل زيمبابوي. وبعد مضي ثلاث سنوات تقريباً، توقفت لندن عن الوفاء بالتزاماتها المادية مدّعية ان الاموال المخصصة للاصلاح الزراعي ذهبت الى جيوب زعماء الحزب الحاكم والوزراء المقرّبين من الرئيس. وقد يكون في هذا التبرير بعض المبالغة في تضخيم الارقام المهدورة على المحاسيب والأنصار، لكن الصحيح ايضاً ان روبرت موغابي ظل وفياً لأصدقائه من المحاربين القدامى بدليل انه جعلهم جزءاً من تركيبة نظامه، ومنحهم امتيازات خاصة استغلتها المعارضة لتندّد بحكمه. وكثيراً ما تتعرض الثورات لمثل هذا التداخل والتشابك بسبب فشل الوزراء ومدراء الدولة في التخلص من ماضيهم الميليشياوي ومن خلفياتهم المتحررة من ضوابط القوانين. وهذا ما دفع بالحاكم كاسترو الى إقصاء رفيقه الثائر تشي غيفارا الحالم ابداً بإنشاء جمهورية اشتراكية مثالية. بل هذا ما واجهته الثورة الجزائرية من معوقات زَرَعها في الطريق رفاق الجهاد، الأمر الذي اضطر أحمد بن بيلا ومن بعده هواري بومدين، الى تصفية رموز الماضي حفاظاً على المستقبل. بعكس موغابي الذي أمّن للانصار وللمحازبين الذين قاتلوا معه في الادغال، مراكز رئيسية في الحكومة والجيش والادارات العامة. وكان من الطبيعي ان تنمو خلال العقدين الماضيين طبقة جديدة مؤلفة من المحازبين القدامى تسللت عناصرها الى كل دائرة من دوائر السلطة. ومع ان دولاً افريقية عديدة تخلّصت من هذه الطبقة الطفيلية بعد الاستقلال، الا ان موغابي ظل راعياً لشؤونها بسبب اقتناعه بأن الذي يربح مرحلة الحرب يستطيع ان ينتصر في معركة السلام. ثم جاءت الاحداث لتثبت خطأ هذه النظرية، وتدفع بريطانيا الى التراجع عن التزاماتها بعدما ضاعت مقترحاتها في ادراج البيروقراطية العاجزة المشلولة. على الرغم من ادعاء موغابي بأنه ماركسي علماني، الا ان قاعدته الشعبية في الحزب الحاكم الاتحاد الوطني الافريقي - زانو بقيت مستندة الى قبيلة "شانو". وهي القبيلة التي ينتمي اليها الرئيس والتي تؤلف ثلاثة ارباع عدد السكان. ولقد تجمع افرادها حول زعيمهم موغابي، واعتبروا انفسهم مسؤولين عن حماية النظام وعن جني المكاسب والمغانم. وهكذا ضعفت روابط الدولة امام روابط الحزب - القبيلة. والملاحظ ان النظام القبلي في افريقيا يشكّل قوة مركزية مهمة لا تعادلها سوى قوة النظام الطائفي في ايران وباكستان ولبنان والجزائر. وكثيراً ما ترجح كفة القبيلة على كفّة الطائفة في افريقيا بدليل ان اعتقال القس موزريوا لم يُحدث الضجّة التي يمكن ان يُحدثها اعتقال رجل دين في اميركا اللاتينية مثلاً، حيث سلطة الكنيسة تنافس سلطة الدولة. والسبب ان حساسية الانتماء الى الطائفة تشكّلت منذ مئة سنة مع وصول المبشّرين ومعاهد الارساليات، بينما تأصلت المشاعر القبلية في النفوس على امتداد قرون طويلة بحيث اصبحت نواة صلبة يصعب كسرها. يقول المؤرخون ان اول رائد اوروبي اكتشف تلك البلاد اثناء توغله في افريقيا بحثاً عن الذهب، كان الالماني "كارل موش". ولقد كتب مذكراته عام 1868 وفيها يقول بأن قبيلة "شونا" سمحت له بزيارة معابد "زيمبابوي" فوصفها بأنها "عمل خارق لا يمكن تحقيقه الا بواسطة الرجل الابيض". وكلمة "زيمبابوي" تعني باللغة المحلية "بيت الحجر" على اعتبار ان هذا النوع من البناء لم يكن معروفاً في افريقيا، الامر الذي يدل على ان بُناته كانوا من خارج القارة. ويزعم سيسيل روديس التاجر البريطاني المغامر في مذكراته ان البحارة الفينيقيين هم اول من شيّدوا هذا الصرح الأثري اثناء توغلهم في الجزء الجنوبي من القارة الافريقية، ومرور سفنهم حول "رأس الرجاء الصالح". وبسبب شدّة الانواء والاعاصير التي كانت تمنعهم من العودة بحراً طوال موسم الشتاء، لذلك بنوا عدة محطات برية كانت موزعة من جنوب افريقيا، مروراً بزيمبابوي، كينيا، الحبشة، مصر، فلسطين ثم لبنان. وفي عام 1930 اصدرت بريطانيا ملصقاً ضخماً كان يرمز الى صورة رجل اسود وقد ركع امام ملكة بيضاء يُفترض ان تكون فينيقية بينما هي تتقدم نحوه لاستلام هداياه الثمينة كالاحجار الكريمة وأساور الذهب الخالص. وكان من الطبيعي ان يتبنى ايان سميث - رئيس وزراء روديسيا السابق - هذه النظرية الملتبسة المعاني، ويصدر قوانين صارمة تعاقب بجرم الخيانة الوطنية كل من يعترف بأن قبيلة "شونا" - التي ينتمي موغابي اليها - هي التي شيّدت قلعة زيمبابوي. كما اصدر قراراً آخر يحظر نشر المطبوعات التي توحي بأن السود هم المواطنون الاصليون لتلك البلاد. ومن خلال هذه النظرية العنصرية كان ايان سميث يقود تياراً سياسياً بواسطة حزب "الجبهة الجمهورية" التي تجسّد مطامع الرجل الابيض وتبرّر تحكّمه بالغالبية السوداء. ثم اعلن تكريس هذا الخيار كنظام ابدي عام 1965، مؤكداً في خطبته الشهيرة "ان الغالبية السوداء لن تحكم روديسيا الا بعد الف سنة". وكان هذا الاعلان الاستفزازي مثار سخط وانتقاد. كما كان الشرارة الاولى التي أشعلت الحرب الاهلية مدة خمس عشرة سنة، سقط خلالها ثلاثون الف قتيل. ويبدو ان اصرار البريطانيين على الرجوع الى الفينيقيين كمصدر تاريخي تنتسب اليه اصول الاهلين في تلك البلاد، كان عملاً هادفاً يُراد من ورائه الغاء دور المواطن الاسود ومحو حقوقه. وهذا ما فسّره روبرت موغابي في محادثات "لانكستر هاوس" عندما تحدث عن سيسيل روديس، التاجر والمغامر البريطاني، الذي استولى على البلاد بالقوة، واخذ فرمان التملّك من لندن. اذن، لقد اعطى من لا يملك لمن ليس له حق! بعد اربع دورات انتخابية حكم روبرت موغابي مدة عشرين سنة، من دون ان ينجح في حل مشكلة مزارع البيض، او في اخراج زيمبابوي من أزماتها الاقتصادية الخانقة. ومع ان الصحافة العالمية رحّبت بانتخابه عام 1980 واعتبرته نموذجاً متقدماً للقيادات الحكيمة في افريقيا، الا ان الممارسات القمعية التي استخدمها ضد احزاب المعارضة لم تؤهله للعب دور ريادي على مستوى الدور الذي لعبه سينغور او مانديلا. والملاحظ ان حملات العنف ضد المالكين البيض تتزامن دائماً مع بداية كل دورة انتخابية، كأن موغابي يستغل التحريض لرفع شعبيته ولو على حساب القانون والنظام. من هنا كان تهديد بريطانيا باستنفار المجموعة الاوروبية والمؤسسات الدولية لفرض عقوبات على زيمبابوي، تماماً كما حدث عام 1965 في عهد ايان سميث، وكانت تلك العقوبات السبب المباشر لعزلة نظام الأقلية البيضاء واجبارها على التنازل للغالبية السوداء بعد حكم استمر تسعين سنة. والطريف ان العقوبات السابقة التي استخدمت ضد حكم الأقلية البيضاء في جنوب افريقيا وزيمبابوي يمكن ان تصدر مرة اخرى ضد الاكثرية السوداء في زيمبابوي بحجة ان اعمال الاضطهاد اصبحت معكوسة، وان موغابي يستخدم السلطة لانتهاك المبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان. ولقد حذّره رئيس جنوب افريقيا ثابو مبيكي من خطر الاستسلام للوثة النقاء العرقي والصفاء العنصري، الامر الذي يهدد كل افريقيا بانتشار الفوضى والنزعة النازية. وقال له اثناء محادثات القمة الافريقية المصغرة التي عقدت في منتجع "شلالات فيكتوريا" ان الزعيم مانديلا وضع مبدأ العدالة كحلّ اساسي يتمثل في بناء علاقة سليمة بين الغالبية السوداء والأقلية البيضاء، ومثل هذه المعادلة لا تنجح الا اذا اعترف كل طرف بالأضرار المادية والمعنوية التي ألحقها بالطرف الآخر. والاعتراف بهذه الاضرار مدخل للمصالحة التاريخية… وخطوة شجاعة تقود الى اصلاح الخلل المرتبط بمعاناة طويلة يصعب التغلّب على آثارها المحفورة في قلوب الزيمبابويين وعقولهم. ولقد شهدت على عمق هذه الجراحات النفسية اثناء مقابلة اجريتها مع روبرت موغابي في مثل هذا الشهر من عام 1984 نُشرت في مجلة "المستقبل" العدد 379. وأتذكر ان الحديث كان في مكتبه المتواضع في العاصمة هراري، وانني استأذنته للاجتماع بخصمه الابيض ايان سميث بهدف الاطلاع على وجهة نظر الجالية البيضاء. شعرت بأن سؤالي اثار لدى الرئيس موغابي بعض الذكريات المؤلمة بدليل انه تخلى عن تحفظه وراح يروي احداث ماضيه كمعارض لنظام الاقلية البيضاء. قال انه امضى عدة سنوات في السجن اثناء حكم ايان سميث. وحدث ذات يوم ان زاره في المعتقل احد انسبائه ليبلغه ان نجله الوحيد قد توفي بسبب تناوله مادة سامة تستخدم لإبادة الحشرات. وتقدم بطلب استرحام لرئيس الوزراء يرجوه السماح له بمغادرة الزنزانة برفقة حراسه لكي ينتقل الى منزله ويلقي على وحيده نظرة الوداع الاخير، ثم يعود الى السجن مخفوراً. عندما بلغ موغابي هذه الخلفية المحزنة تبدلت نبرة صوته واغرورقت عيناه بالدموع وهو يروي تفاصيل مأساته الشخصية ويقول: أتعرف ماذا كان جواب ايان سميث؟ لقد رفض الاستجابة لطلب الاسترحام. ولما بلغني النبأ طلبت من رفاقي في الحزب القيام بوساطة مع زعماء دول عدم الانحياز لأنني كنت واحداً منهم. وأبرق تيتو ونهرو وعبدالناصر لإيان سميث يتمنون عليه السماح لي بمغادرة المعتقل ولو لمدة نصف ساعة. لكن وساطة الزعماء لم تنفع وظل رئيس الوزراء مصراً على قرار الرفض، ثم دُفن ابني من دون ان أراه. وسألته ما اذا كان ينوي الانتقام منه وهو الآن في موقع السلطة. فأجاب: "لا يستطيع الحاكم ان يكره ويحب مثل سائر الناس. يجب عليه ان يتعالى عن الاحقاد الشخصية حتى لو كانت في حجم احقاد الثأر. والدليل انني تركت ايان سميث يقود المعارضة في مجلس النواب، وينتقد اداء الحكومة. لا يجوز الخلط بين العواطف الخاصة والمواقف الوطنية، لان هذا التداخل يقود الى اهتزاز موازين العدالة بحيث لا يعرف الحاكم اين تبدأ سلطته الشخصية واين ينتهي نفوذه الرسمي". بعد مرور ستة عشر عاماً على هذا الكلام يطلّ موغابي على الرأي العام الداخلي والخارجي، كرئيس مختلف عن الرئيس الذي ارتبط اسمه بمواقف الصفح والتسامح والمغفرة. والمؤكد انه اختبر خلال مدة حكمه نشوة السلطة، فإذا به يأمر بالاستيلاء على مزارع البيض كوسيلة من وسائل ابتزاز عواطف الغوغاء… وإلهاء الشعب عن المطالبة بحقوقه، وبتنفيذ الاصلاحات التي وعد المواطنين بتحقيقها. وعلى عكس ما فعل مانديلا وسوار الذهب وسينغور وعبدو ضيوف… فإن شراهة موغابي لتجديد ولايته خمس سنوات اضافية ستقرّبه اكثر فأكثر من صورة رؤساء كان ينتقدهم ويطالب بطردهم مثل بوكاسا وموبوتو، لأنهم يسيئون الى سمعة الأفارقة. والمؤسف ان يصف الأسقف ديزموند توتو الرئيس موغابي بأنه "لوحة كاريكاتورية لزعيم افريقي". اما رسمه السابق فمحفور في ذاكرة طلابه ومحازبيه عندما كان ثورياً نظيفاً، ومعارضاً عنيفاً، واستاذاً محاضراً يعتبره الأفارقة مرجعاً للمفكر الراديكالي الذي ساعد على انتصار حركات التحرير. ولكنه بعد عشرين سنة في الحكم يطالب بمزيد من السلطة ولو على حساب مزيد من التسلّط! * كاتب وصحافي لبناني