أين أنت يا مانديلا؟ هل أنت المناضل الذي وعدنا بالحرية؟ أم السجين القابع في معتقل جزيرة روبين ايلند؟ أطل علينا بابتسامتك المشجعة! لأننا نقلد قبضة يدك المهدِّدة بسحق الأعداء. على وقع كلمات هذه الأغنية القديمة ترقص كل صباح مجموعات من قبيلة «ثامبو» فوق ساحة المستشفى الذي نقل إليه نيلسون مانديلا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. أي القبيلة التي رعى زعيمها «جوغنتابا» حركة التحرر ضد تسلط الأقلية البيضاء في دولة جنوب أفريقيا. ومع أن عمر هذه الأغنية يزيد على نصف قرن، إلا أن تردادها يحيي ذكريات النضال الطويل الذي أنتج المساواة بين البيض والسود، ودشن مرحلة التحرر من الحكم العنصري (أبارتايد). وقد سجل المؤرخون عملية انتخاب مانديلا رئيساً لجمهورية جنوب أفريقيا (أيار-مايو 1994)، كواحدة من أبرز الأحداث التي عرفها القرن الماضي. أي في مستوى انهيار المنظومة الشيوعية وتدمير جدار برلين. والسبب أنها أضاءت شعلة الحرية من طاقة عتمة 27 سنة أمضاها المتمرد نيلسون مانديلا في السجن، منها 18 سنة في جزيرة روبين قبالة مدينة كايب تاون. عندما زاره الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في جوهانسبرغ لتدبيج مقدمة النسخة الجديدة من مذكراته «المسيرة الطويلة نحو الحرية»، انتقل الاثنان إلى جزيرة روبين حيث أمضى مانديلا فترة مديدة من عقوبة السجن. وفي ذلك المعتقل النائي روى مانديلا الشيء الكثير عن معاناته داخل الزنزانة وخارجها. وكي يُقرِن القول بالفعل انبطح فوق أرض الحجرة ليريه أن قمة رأسه كانت تلامس الجدار، بينما قدماه تلامسان الجدار المقابل. أي أن الفسحة بينهما لا تتسع لسجين طويل القامة مثله. وأخبر كلينتون أيضاً أنه كان يُنقل مع رفاقه في الشاحنة عند الفجر إلى مقلع للحجارة حيث ينفذ حكماً بالأشغال الشاقة. وبسبب الغبار المتطاير من الحجارة، وحرارة الشمس الحارقة، أصيب بشبه رمد دائم. لذلك طلب تزويده بنظارة سوداء لعلها تحمي عينيه من القيظ. وقد رُفِضَ طلبه على الفور. وبسبب العقوبات المتواصلة، وحرمانه من الطعام لمدة ثلاثة أيام كلما تصرف أمام حراسه بطريقة لا تنم عن احترام، أو خوف، أصيب مانديلا بالتهابات رئوية جراء سوء التغذية. وكان من الطبيعي أن يُحرَم من معاينة الطبيب، الأمر الذي عرّضه للإصابة بمرض السل. قبل مغادرة الجزيرة، روى مانديلا للرئيس كلينتون حكاية تعرضه لمحاولة مغرية بواسطة سجين ادّعى أنه رشى حارس الليل الذي وعده بتأمين فرصة الهرب بزورق مطاطي. ولكنه تردد في الإقدام على مغامرة خطرة كادت تكلفه حياته. وقد تبين له، عقب إطلاق سراحه، أن استخبارات النظام نصبت له فخاً بحيث يُطلق النار عليه وهو خارج مبنى السجن بحجة أنه حاول الهرب. يقول كلينتون في مقدمة النسخة الجديدة من المذكرات، إنه سأل مانديلا عن الدوافع المعنوية التي صانت موقفه الصلب، فأجاب: «القدرة على الاحتفاظ بعقل سليم وقلب كبير. وبفضل هاتين النعمتين وجدت أن من الأفضل مشاركة الأقلية البيضاء في تقرير مصيرها ومصيرنا. وقد تعاونت مع رئيس نظام التمييز العنصري في حينه فريدريك دو كليرك الذي فاوضته من أجل إرساء دعائم الديموقراطية معاً.» وفي ضوء هذه المشاركة، وجه مانديلا، أثناء انتخاباته الأولى للرئاسة سنة 1994، نداء إلى الأقلية البيضاء يطلب منها مساندته لبناء دولة المساواة وحقوق المواطنة. وتعهد بالحفاظ على سلامة أفرادها شرط انخراطهم في صفوف النظام الجديد. ومن أجل إقناع تلك الأقلية الثرية، اختار لمنصب رئاسة مجلس القضاء الأعلى آرثر تشاسكلسون، المدعي العام السابق. وكان معروفاً بنزاهته وتجرده وحرصه على تأمين العدالة لمن يعتبرهم مظلومين. وقد نال منه مانديلا حكماً مخففاً يوم اتهِم بالانتماء إلى الحزب الشيوعي. أثناء المحاكمة عام 1963، وصف مانديلا تهمة الانتماء إلى عضوية الحزب الشيوعي بأنها أكذوبة مختلقة من أجل تجريد حركة المؤتمر الوطني الأفريقي من صدقيتها واستقلاليتها. وقال في دفاعه إن الحركة التي يقودها غير تابعة لأي حزب خارجي أو تكتل داخلي، وإنما هي حركة صافية صريحة لا تطالب بأكثر من حقوقها المشروعة في المساواة. بعد مرور نصف قرن على تلك المحاكمة، مُنِحَ نيلسون مانديلا جائزة نوبل للسلام. وكان ذلك بمثابة تتويج لنشاطه الوطني، واعتراف بتكريس حياته لقضية تحرر السود. وفجأة، أعلنت دور النشر في بريطانيا والولايات المتحدة عن صدور كتاب مثير للجدل، أعده المؤرخ البروفسور ستيفن ايلس، يزعم فيه أن هناك علامة استفهام حول علاقة مانديلا بالحزب الشيوعي. ويدّعي المؤلف - استناداً إلى أوراق الحزب الشيوعي المحفوظة في جامعة كيب تاون - أن اسم المناضل ظهر في معظم المؤتمرات السرية. ويقول ايلس في كتابه إن جماعة المؤتمر الوطني تدربت على فنون القتال لدى الجيش الإرلندي واستخبارات ألمانياالشرقية (ستاسي). وقد حرص مانديلا على إنكار تلك العلاقة، لأنه لا يريد إلصاق تهمة التبعية بالحركة التي يقودها خوفاً من فقدان تعاطف الجمهور الغربي الذي أيَّد دعوته وساهم في مساعدتها. وفي الكتاب فصل يتحدث عن حاجة مقاتلي المؤتمر الوطني إلى السلاح، الأمر الذي دفع مانديلا إلى تحديد خياراته. خصوصاً بعد مجزرة 1960 التي ذهب ضحيتها 96 عضواً من المعارضة. ومنذ تلك الحادثة، تأسست، على هامش المؤتمر، حركة مقاومة مسلحة سُميت «رمح الوطن.» ويذكر الكتاب أن أعضاءها كانوا يتدربون على استعمال السلاح في أنغولا، حيث يتمتع الحزب الشيوعي السوفياتي بنفوذ كبير ومؤثر. لاحظ المراسلون الذين حضروا قداس الصلاة لشفاء مانديلا في كنيسة «سويتو»، أن عدد البيض لا يقل عن عدد السود. كل هذا، لأن الدعوة التي سُجِنَ من أجلها 27 سنة كانت خالية من أي تحامل أو تحيّز ضد البيض. بعكس رئيس زيمبابوي روبرت موغابي، الذي سخَّر أحقاده ضد البيض لشن حملات انتقام دفعتهم إلى الهرب وترك المزارع القاحلة. وكان من نتيجة هذه السياسة الخاطئة أن أفقر بلاده وحرمها من القوة المنتجة المتمثلة بالأقلية البيضاء. كما حولت رئيس البلاد، مع مرور الزمن، إلى ديكتاتور يرفض كل أشكال المعارضة، ويتصورها خاضعة لنفوذ البيض. علماً أن زيمبابوي كانت في نظر مكتشفها ومطلق اسمه عليها (روديسيا) من أفضل المواقع الأفريقية خصوبة وثراء. فهي غنية بالمعادن والمنتجات الطبيعية والسياحية. وترى شركات السفر أن شلالات فيكتوريا لا تقل روعة عن شلالات نياغارا. ومع هذا كله، فإن هذه البلاد تُعتبر، وفق قائمة الأممالمتحدة، من أفقر البلدان وأكثرها ظلماً وظلاماً. عقب إطلاق سراح نيلسون مانديلا، زرت هراري والتقيت الرئيس روبرت موغابي في مكتبه مرتين. وسألته عمّا إذا كان مستعداً لمشاركة إيان سميث في الحكم مثلما فعل مانديلا مع رئيس وزراء جنوب أفريقيا فريدريك دو كليرك. وأجابني على الفور بأن تجربته العملية مع زعيم الأقلية البيضاء إيان سميث لم تكن ناجحة بالمقدار المطلوب. وأخبرني أن النظام العنصري السابق حكم عليه بالسحن سبع سنوات بسبب مواقفه المؤيدة لكتلة عدم الانحياز. وقبل أن تنتهي مدة سجنه بسنتين، زارته زوجته مرة لتبلغه بوفاة وحيدهما إثر عارض تسمم. وقال لي: طلبتُ من إيان سميث أن يسمح لي بالخروج إلى المنزل لوداع ولدي ولو برفقة حراس السجن. وتعهدت له بالعودة إلى زنزانتي على الفور. ورفض إيان سميث طلبي، كما رفض طلب نهرو وعبد الناصر وتيتو الذين أبرقوا إليه باسم كتلة عدم الانحياز بأن يمنحني فرصة رؤية وحيدي لآخر مرة. ولما وصل في حديثه إلى استذكار تلك الواقعة، دمعت عيناه، ثم علق بصوت حزين: ومع هذا كله، فإن إيان سميث بقي زعيم المعارضة في البرلمان، وباستطاعتك زيارته واستيضاحه حول موقفه المتعنت والمستبد في ذلك الحين. بعد مرور وقت طويل على تلك الحادثة، تحول موغابي إلى حاكم مستبد لا يطيق رؤية البيض ولا يثق بشراكتهم. وفي كل مرة كان المواطنون السود يتظاهرون طلباً للقمة العيش كان جنود الرئيس موغابي يحرقون منازل البيض ومزارعهم انتقاماً. وهكذا ظهرت صورة زيمبابوي وجنوب أفريقيا كخطين منفصلين يستحيل الجمع بينهما، لأن زعيميهما اختلفا حول معالجة مسألة الأقلية البيضاء. بقي أن نذكر أن الفراغ السياسي الذي سيتركه غياب مانديلا سيكون أكبر بكثير مما يتوقعه المراقبون. والسبب أن هذا المقاوم العنيد تحوَّل إلى زعيم عالمي، وإلى أيقونة وطنية ترمز إلى حل المشاكل المعقدة في كل مكان. ولهذا طلب منه القذافي أن يتدخل لحل قضية لوكربي. كما طلب منه الفلسطينيون التوسط لتسوية مسألتهم العالقة منذ ستين سنة. حتى الزعيم الكردي السجين عبدالله اوجلان توجه إليه برسالة استنجاد هذا بعض نصها: «لقد أدى نضالكم الطويل إلى إنهاء نظام التمييز العنصري في دولة جنوب أفريقيا. وحل محله فكر الحرية وقبول الآخر والاعتراف بهويته وخصوصيته على أساس المساواة والحقوق المشروعة. إن النموذج الديموقراطي، الذي عملتم على توطيده، صار مثالاً لكل الشعوب ومن ضمنها الشعب الكردي.» في هذا السياق، لم يسلم «الربيع العربي» من نصائحه وتوصياته. لذلك خصّ الثوار العرب في تونس ومصر برسالة توجيه، وصفها بواجب الوفاء للدول العربية التي ساندته يوم نزاعه مع النظام العنصري. قال في تلك الرسالة، إن هاجسه الأول في زنزانته الضيقة كان البحث عن صيغة حكم خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ولما خرج من سجنه الصغير إلى السجن الكبير، أدرك أن إقامة العدل بين الناس أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم، في نظره، فعل سلبي بينما البناء هو فعل إيجابي. وأعرب عن أسفه العميق لهدر وقت الثوار في شتم كل مَنْ كانت له صلة بالأنظمة السابقة. ورأى في هذا السلوك عملاً خاطئاً، لأنه يعرِّض الثورة لمتاعب خطيرة. والسبب أن مؤيدي النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الدولة والمؤسسات وعلاقات البلاد بالخارج. ومعنى هذا أن استهدافهم قد يُجهض الثورة وهي في حال الانطلاق والتحفز. ومثلما اختصر تشرشل أزمة بريطانيا بعد الحرب، كذلك قدم مانديلا نصائحه إلى الثوار العرب. فالأول قال في برلمان بلاده: «إذا كان الحاضر سينتهي بمحاكمة الماضي، فمن المؤكد أننا سنضيّع المستقبل.» وعلى هذا المنوال نسج مانديلا وصيته الأخيرة التي تمثل عصارة جهاده المضني والمرير. قال إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي. ودعا إلى التسامح والمغفرة لأن الانتقام لا يفرز سوى الانتقام. ولأن العنف لا يولد سوى العنف! يقول ريتشارد ستنغل، الكاتب الذي اختاره مانديلا لمعاونته على كتابة مذكراته، إن السجن الطويل استخرج من السجين شخصية فولاذية، ناضجة، فريدة في حكمتها وتسامحها. ذلك أن العيش وراء القضبان مدة 27 سنة جعل من الشاب الثائر الرجل الذي هو: منضبط... محاذر... معتدل... متوازن... وقور... جليل... متسامح... وحكيم. صحيح أن السجن علّمه كيف يخفي ألمه وراء قناع من اللامبالاة... ولكن الصحيح أيضاً أن مسيرته نحو الحرية كانت طويلة، وطويلة جداً! * كاتب وصحافي لبناني