منذ ان وصل ادولف هتلر الى السلطة في ألمانيا، عن طريق البرلمان، والسؤال مطروح عن تعريف الديموقراطية وجوازاتها وحدودها. فما أثير في 1933 تجددت اثارته، ولو على نطاق اضيق، في انتخابات الجزائر اواخر 1991 والغاء نتائجها مطالع 1992: اذ كيف يفوز اسلاميون اصوليون وهل تستوعب الديموقراطية فوزهم؟ ثم تجددت بعد ضم "حزب الحرية" النمسوي شبه الفاشي الى الائتلاف الحاكم وظهور ردود الفعل الاوروبية عليه، اذ هل يجوز لأوروبا، باسم الديموقراطية، ان تقاطع حكومة منتخبة ديموقراطياً؟ بيد ان المؤكد ان الديموقراطية لا تملك حلاً لهذا السؤال على اختلاف صيغه، مع ان ديموقراطيين كثراً قدموا اسهاماتهم واجتهاداتهم فيه، كان في عدادهم اصحاب اسماء ككارل بوبر واشعيا برلين. فالديموقراطية ليست ذاك النظام النظري المرصوص الذي يملك لكل سؤال جواباً، ويمكن بالتالي تلخيصه في عدد من "المبادىء" و"العقائد" التي يحملها كرّاس او كرّاسان تتسلح بهما جمهرة الدعاة والمؤمنين. فهي، بالتالي، لا تملك تعريفا ذاتيا نهائيا، الشيء الذي يبقيها رخوة وهشّة لا تثير الحماسة لدى الشبان والعاطلين عن العمل الذين هم وقود كل فعل تغييري عاصف وأداته. كذلك، والارجح للسبب نفسه، لا تثير الديموقراطية حماسة جماهيرية في مجتمعات وثيقة الصلة بالتقليد الديني والخلاصية البسيطة ويخطىء، بالمناسبة، الذين يظنون ان انتصارها في اوروبا جاء بسبب مسيحيتها، اذ الاصح ان من عوامل الانتصار انكسار المسيحية المبكر في القارة المذكورة. بل يبدو من المدهش احياناً، على الضد تماماً من منطق الاجابات الخلاصية القاطعة، ان الديموقراطيين لم يبتّوا اموراً خبروها واستغرق التعامل معها زمناً طويلاً نسبياً، وهو ما يسري على العلاقة بين الديموقراطية والتنمية، ودور النخبة فيها و/او دور قوة الطبقة الوسطى، ووثوق الصلة بينها وبين التطور المؤسسي و/او درجة التصنيع. كما أنهم لم "يحسموا" حسماً مبيناً في تفضيل الديموقراطية التمثيلية على المباشرة او العكس، والديموقراطية المؤسسة على انتخابات نسبية او غير نسبية. ولا هم أصدروا الفتوى الأخيرة في حدود التأثير وجوازه لكل من التلفزيون والمال وغيرهما من العناصر التي تتداخل في العمليات الانتخابية وتؤثّر. بل نجدنا امام كل إشكال سياسي على شيء من التعقيد، نتناول طبيعة الصلة بين الديموقراطية واجرائها الانتخابي ومدى تكميل احدهما للثاني. وما هو ابعد من هذا واشد تفصيلية في آن، اننا كلما جدّ جديد على العلاقات الاميركية - الصينية، مثلاً، نواجه مطالعات ومطالعات مضادة، كلها ذو طابع تأسيسي، عن العلاقات التي تجيزها الديموقراطية بين التجارة والربح والقيم. هكذا يتضح اننا نتعامل مع كائن غير مُنجَز، وقيد تأسيس دائم. وهي، تبعاً لهشاشتها النظرية هذه، تنطوي على مقادير من التفاوت الذي يقبل التصوير على انه تعارض، او حتى تناقض. وربما امكن، بالقفز فوق اختلاف المستويات والحقب التاريخية ومدلولاتها، ادراج الديموقراطية في عائلة المدنية والحضر بالمعنى الخلدوني، في مقابل إدراج اشكال الوعي الخلاصي، من ديني وقومي واشتراكي، في عائلة البداوة. ذاك ان الجماعة الحضرية تفتقر الى صلابة البدو الذين يؤلفون مجتمعاً يقوم على العصبية. فاذا نعم سكان المدن العاملون في التجارة والصناعة بترف الحياة، فضعفت روابطهم الاجتماعية ونمت خلافاتهم، آل التضامن الآلي لمجتمع القبيلة الى نظام واحد من القيم والعادات، حال نهوض الحياة على الصيد والماشية والزرع بينه وبين تعدد الولاء. فحياة البداوة، بالقسوة التي فيها، تدفع البدوي الى العمل على اشباع حاجاته الأولية، بقدر ما تتطلب خلق التلاحم بين افراد القبيلة. اما مجتمع المدينة، مع انه يستهوي البدوي ويجذبه، فيؤدي الى تفسخ الروابط وانحلال الجماعة الحضرية عند تعرضها الى الاعتداء، تماماً كما يلاشي الانتقالُ من البداوة الى نظام الدولة عصبيتَها. لكن التشابه لا يتعدى الشكل في هذه الحال: فنظام الديموقراطية لا يتصدّع كما تتصدع الدولة الحضرية الخلدونية، وإن شاركها هشاشتها. وفي المقابل فالنظام التوتاليتاري المنيع ينهار مرةً واحدةً، فيما البداوة تنكمش وتضمر لتندثر على مدى زمني متطاول. اي ان الديموقراطية ذات قوة خفيّة تميّزها عن المدينة الخلدونية، وإن شاطرتها الشكل الخارجي. وربما كان المصدر الاول لهذه الهشاشة الظاهرة انها تقدّم نفسها سلفاً بوصفها كائنا غير مُنجَز، يقوم ويتطور على خطوط الانقسام والتجزيء لا على خطوط الوحدة والتوحيد.