قبل خمسة وعشرين عاماً اقتحمت الدبابة "ت 59" قصر الرئاسة في سايغون لتضع نهاية لحرب دامت عشر سنوات وهزمت فيها الولاياتالمتحدة التي فقدت اكثر من 58 الف قتيل وخسرت 150 بليون دولار واضاعت لفترة من الزمن هيبتها في مواجهة شعب سلاحه الاساسي "الكلاشنيكوف". وكانت تلك الدبابة صنعت في الصين بتكنولوجيا سوفياتية وقادها جنود فيتناميون، وغدا ذلك واحداً من رموز الحرب، والمجابهة بين الشرق والغرب. وتحفظ الذاكرة مشاهد الهليكوبترات الاميركية التي كانت تحوم فوق سفارة الولاياتالمتحدة لتخلي رعايا الدولة العظمى تاركة الكثيرين من "المتعاونين" الفيتناميين الذين تسلقوا جدران السفارة لكنهم كانوا يركلون لابعادهم عن الحوامات المنقذة. وخلال سنوات الحرب القى الاميركيون 7.5 ملايين طن من القنابل اي اكثر بثلاثة اضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية. واستعمل الجيش الاميركي اسلحة جديدة فتاكة منها القنابل الفوسفورية التي تصدر عنها حرارة عالية عند الاحتراق وتحول عظام البشر الى رماد، وقنابل النابالم التي جعلت من الغابات الفيتنامية صحارى قاحلة. وفي تلك الحرب انتشرت على نطاق واسع "هواية" جمع آذان القتلى والتباهى بأعدادها. وتركت الحرب آثاراً اقتصادية وايكولوجية مدمرة ما زالت تعاني منها فيتنام، وكما انها خلفت ندوباً في روح اميركا وهزّت القيم فيها. وعلى رغم ان موسكو اعتبرت في حينه ان تغيير اسم سايغون الى هوشي منه رمزاً ل"اشنع هزيمة للامبريالية" ودليلاً على ان "ارادة الشعوب لا تقهر" فانها ارتكبت خطيئة مماثلة بادخال قواتها الى افغانستان وتورطها في حرب دامت… عشر سنوات ايضاً. الا ان الولاياتالمتحدة تمكنت في عهد رونالد ريغان من التخلص من "العقدة الفيتنامية" في حين ان افغانستان صارت سبباً لاهتزاز مواقع الاتحاد السوفياتي ومهّدت لسقوطه. وساهم الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن بقسط مهم في تفكيك الدولة عندما دعا الجمهوريات القومية الى ان "تأخذ من السيادة ما استطاعت ان تهضم". ولكن ما ان اعلن الشيشانيون قدرتهم على "هضم" الاستقلال حتى جهز الكرملين حملة ضدهم اسفرت عن مصرع 100 ألف شيشاني وروسي ودمار اقتصادي هائل وهزيمة نكراء لموسكو. ولكن خلافاً للفيتناميين لم يتمكن الشيشانيون من استثمار النصر بل ان الرئيس اصلان مسخادوف فقد تدريجاً السلطة وسمح بعمليات خطف الرهائن وقطع الرقاب والقتل العلني. ومن المؤكد ان روسيا كانت تتغاضى عن خصوم الرئيس الشيشاني في محاولة لاضعافه او اثارة حرب اهلية. وتوفرت لها الفرصة عندما قام راديكاليون بغزو داغستان، فجهزت الحملة الثانية التي اعلن اخيراً عن "نهايتها" الا ان الجنرالات الروس عجزوا عن تفسير سبب استمرار تساقط القتلى. وثمة بون شاسع بين الحالتين الفيتنامية والقوقازية، فالعالم يجمع على ان الجمهورية الشيشانية جزء من الاتحاد الروسي، ويوافق على مكافحة الارهاب على رغم استنكاره استخدام اساليب "غير متناسبة". الا ان هناك اوجه شبه ايضاً، ففي الحربين نجد "الكلاشنيكوف" في مواجهة الطائرات والراجمات والمدفعية. وهنا وهناك تعلن القيادات العسكرية عن "انتصاراتها" وعن خسائر فادحة "في صفوف العدو الذي لا يلبث ان يحصل على امدادات من السكان "المدنيين". وكما كان الحال قبل ربع قرن فان الطرف الاقوى في الحرب يواجه حملة استنكار عالمية واسعة تجعل الكثيرين يتغاضون عن مساوئ الطرف الضعيف واخطائه. وفي الحملة القوقازية السابقة لم يكن لدى الشيشانيين "ت 59" لكنهم استعادوا عاصمتهم غروزني بالكلاشنيكوف وابدلوا اسمها الى "جوهر" تيمناً برئيسهم الراحل دودايف لكنهم لم يفلحوا في جعلها "هوشي منه" سياسياً واقتصادياً.