رغم البون الشاسع بين الدعوة الى منح الشيشانيين الاستقلال الكامل والمطالبة بإبادتهم، فإن هناك قاسماً مشتركاً يجمع بين هذين الحدين ويتمثل في تبسيط المعادلة الصعبة وتجاهل جذورها التاريخية والمضاعفات المحلية والاقليمية والدولية لأي من "الحلول" الجذرية. وحرب اليوم امتداد لمجابهات دامت زهاء اربعة قرون وكانت لها ذرى ومنخفضات. فقد التحق الشيشانيون في القرن الماضي بثورة الإمام شامل الداغستاني التي فرزت كياناً عرف ب"دولة الامامة" وضم اراضي الداغستان والفايناخ ما يعرف حالياً بجمهوريتي شيشانيا وانغوشيا. والحرب القوقازية لم تنته بأسر شامل بعد معارك دامت ثلاثة عقود تقريباً، بل ان الشيشانيين واصلوا القتال في الجبال واعتبر عدد منهم القبول بالانضمام الى الامبراطورية الروسية "خيانة". ومن دون الخوض في تفصيلات كثيرة تشير الى صفحة مأسوية اخرى من المجابهة، اذ ان جوزيف ستالين قرر ترحيل الشيشانيين كلهم! في ليلة واحدة من شتاء 1944 بتهمة التعاون مع الغزاة الالمان، وارغمهم على الاستيطان في ما يشبه معسكرات الاقامة الجبرية في كازاخستان ومناطق اخرى من الاتحاد السوفياتي. ورغم اعادة الاعتبار اليهم سنة 1957 فإنهم ظلوا "موضع شبهة" ولم يتمكن كثيرون منهم من ارتقاء السلم الوظيفي بسبب الانتماء العرقي. وزاد من تراكم المرارة ان المركز السوفياتي عمد الى طمس الهوية القومية للشيشانيين بحجة "الاممية". وتكفي الاشارة الى ان غروزني لم يكن فيها سوى مدرسة واحدة تعلّم التلاميذ بلغتهم الام، وان عاصمة الجمهورية التي تسكنها اغلبية اسلامية أُزيلت منها كل المساجد فيما ظلت الكنائس الارثوذكسية. وأحيت التحولات الليبرالية في مطلع التسعينات آمالاً لدى الشيشانيين عززها تحالف سلطات موسكو مع الجنرال جوهر دودايف الذي تمرد على الحكومة المحلية المتهمة بالتواطؤ مع الحركة الانقلابية عام 1991. وتغاضى المركز الفيديرالي آنذاك عن حل البرلمان وتشكيل هياكل سلطة من دون انتخابات، بل ان هناك دلائل عديدة على ان موسكو زودت غروزني كميات كبيرة من الاسلحة. الا ان الكرملين غيّر موقفه بعد اقرار الدستور الجديد عام 1993 وتعاظم صلاحيات بوريس يلتسن كرئيس للدولة وحاكم شبه فردي. واخذت موسكو تعد لانقلاب في غروزني فسلّحت المعارضة ودعمتها بدبابات يقودها "متطوعون" من الضباط الروس. وحينما اخفقت محاولات تغيير حكومة دودايف عبر قوى تحارب بالنيابة عن موسكو، عمدت روسيا الى تجهيز الحملة القوقازية التي كان ينتظر ان تنجز في اسبوعين، الا انها استمرت اكثر من 30 شهراً وادت الى مضاعفات خطيرة في السياسة والاقتصاد، وكادت تقضي على آمال يلتسن في تجديد الولاية. ولذا فان قرار وقف الحرب عشية الانتخابات الرئاسية قبل ثلاث سنوات لم يكن ثمرة تحليل لدروس مريرة، بل كان مدفوعاً باعتبارات مرحلية - انتخابية. وبزوالها رُكنت المشكلة جانباً ولم تعد موسكو تتعامل بجد مع الموضوع الشيشاني املاً في ان يتولى الزمن معالجته. الا ان المرض استفحل وزاد في تفاقمه ضعف الرئيس الشيشاني اصلان مسخادوف وتعاظم نفوذ خصومه الراديكاليين الذين طرحوا فكرة مؤداها ان هزال روسيا قد يكون موقتاً ولذا ينبغي انتزاع اقصى ما يمكن بأسرع وقت، وتحديداً تحقيق الاستقلال الكامل وتوسيع المساحات "المحررة" كي تشمل داغستان وتؤمن بذلك عودة الى "دولة الامامة" ومنفذاً الى البحر. وفي هذا السياق فان تحرك شامل باسايف نحو داغستان وضع مسخادوف في موقع حرج. فرئيس الجمهورية ادرك المخاطر المترتبة على التدخل في شؤون داغستان غير انه كان عاجزاً عن وقفه والاشتباك مع خصومه. ومن المفارقات الغريبة ان حركة الراديكاليين ادت، موضوعياً، الى اطلاق يد موسكو التي كانت تنتظر ذريعة للتهرب من تنفيذ معاهدة السلام المعقودة مع غروزني وتجهيز حملة جديدة لاعادة "النظام الدستوري" الى الجمهورية الشيشانية. وخلافاً للحرب الاولى فان الحملة الحالية تحظى بدعم واسع من القوى السياسية والرأي العام في روسيا. ولا يُعزى ذلك فقط الى "الهستيريا" القومية او النشاط الاعلامي المكثف، بل ان الراديكاليين ساهموا في تغذية المشاعر المناوئة للشيشانيين بخطف رهائن وقتل اجانب عاملين في هيئات دولية وانسانية، واختطاف صحافيين، ما ادى الى احجام غالبية المراسلين الاجانب عن تغطية الاحداث ميدانياً. ورغم ان روسيا لم تقدم دلائل تثبت تورط شيشانيين في تفجير مبان سكنية في موسكو ومدن اخرى، الا انها استثمرت العمليات الارهابية لخلق جو مؤيد لفكرة "تصفية اوكار المجرمين". وفي البداية اعلنت موسكو نيتها اقامة حزام امني في المناطق الشمالية السهلية من الشيشان عند نهر تيريك. الا ان القوات الفيديرالية لم تواجه مقاومة تذكر بعد ان مهّدت لزحفها بقصف جوي ومدفعي مركّز، وقامت بعبور النهر ومحاصرة غروزني والمدن الرئيسية في الشيشان مشددة على ان ما تقوم به ليس حرباً بل "عملية لمكافحة الارهاب". وتسعى الحكومة الروسية الى التعتيم على الغايات الفعلية: فهي من جهة تؤكد انها لا تطمح الى تحقيق اغراض سياسية، ومن جهة اخرى ترفض الحوار مع مسخادوف وتقوم بتشكيل هياكل سلطوية بديلة من ممثلي الشتات الشيشاني المتعاونين مع موسكو. والارجح ان الحرب صارت ورقة مهمة توظف ل"نفخ" شعبية رئيس الوزراء فلاديمير بوتين وتهيئته لخوض معركة الرئاسة الاولى صيف العام القادم. فليس من السهل على الحكوة ان تبعث الحياة في اقتصاد محتضر خلال فترة زمنية قصيرة، بل انها غير قادرة على محاربة الاجرام داخل روسيا والتصدي لآفة الفساد المستشرية، لكنها يمكن ان تقدم كشفاً "ساخناً" باحداث القوقاز، وتعتبرها انتصاراً يؤمّن لبوتين مرتكزاً مهماً للوثوب الى الكرملين. الا ان السحر يمكن ان ينقلب على الساحر. فالحرب تكلف شهرياً 3 - 4 ملايين روبل واستمرارها سينهك الاقتصاد الروسي. واحتلال غروزني، بل كل الاراضي الشيشانية، لن يعني وقف الاشتباكات، بل الارجح ان يؤدي الى انتشارها جغرافياً في المناطق المجاورة وحتى في العمق الروسي. واجتياح الشيشان سيعزز موقع الجنرالات الذين اخذوا يتحدثون جهاراً عن احتمال تمردهم على القيادة السياسية اذا قررت وقف الزحف العسكري. والحلف غير المعلن الذي عقده ممثلو الجناح المتشدد في المؤسسة العسكرية مع رئيس الحكومة، يثير مخاوف الكرملين وقد يدفعه الى اتخاذ قرار بإقالة بوتين الذي غدا الموجه الفعلي للحرب، رغم ان رئيس الدولة هو القائد الاعلى للقوات المسلحة. واستمرار العمليات ادى حتى الآن الى توتر في علاقات روسيا مع جورجيا واذربيجان المتهمتين بتوفير معابر لنقل السلاح والمتطوعين الى الاراضي الشيشانية. وأبعد من المنطقة فان موسكو تغامر بالاساءة الى علاقاتها التقليدية مع الدول الاسلامية والعربية التي لم تعلن تأييدها للراديكاليين، لكنها لا يمكن ان تلتزم الصمت حيال مأساة المدنيين في الشيشان. ويثير موقف الغرب تساؤلات عديدة: فهو في الحرب السابقة آثر "التغاضي" عما يفعله حليفه بوريس يلتسن لكنه الآن يتحدث عن مخاطر الحرب ومآسيها، وذلك في اشارة واضحة الى صاحب الكرملين بأنه لم يعد "الصديق الصدوق". وقد تكون من مصلحة الغرب مشاغلة روسيا في صراعات على اطرافها وعزلها عن جورجيا واذربيجان وتقليص صلاتها بالعالمين العربي والاسلامي. والعوامل المذكورة تدعم الدعوة الى وقف القتال لكنها لا تجيب عن تساؤل موسكو عما اذا كان يمكن الصمت على الارهاب وخطف الرهائن وعبور الحدود الشيشانية الى جمهوريات مجاورة لفرض نظام جديد بقوة السلاح. وهذا التساؤل يُخمد الاصوات المطالبة بالحوار ويعيق جهود الوساطة المحتملة ويضع الرئيس مسخادوف امام خيار صعب: اما مواجهة القوات الفيديرالية او الاشتباك مع العناصر المتهمة بالارهاب في الداخل. وقد تجد غروزني، بدعم من قادة جمهوريات شمال القوقاز الذين يشعرون بخطر اتساع رقعة النزاع، صيغة وسطا، غير ان ذلك يقتضي موافقة موسكو على فكرة الحوار كبديل من اساليب القوة لمعالجة الوضع. وبخلاف ذلك فإن الحرب ستقود الى كارثة تودي بالشيشان روسيا معاً، وتغيّر المعادلات الجيوسياسية في القوقاز، وبالتالي تؤثر في موازين القوى الاقليمية والدولي