عاش "دون كيشوت" 1603، بطل أقدم رواية حديثة، حياتين، لا حياة واحدة. في حياته الأولى، التي استمتع رسامون كثيرون بتصوير مشاهدها الداخلية، كان الرجل يمضي أيامه ولياليه بين جدران أربعة، يقرأ روايات الفروسية ويتفرّج على ظلال الشموع تتطاول حتى أعلى النافذة. ثم جاءت تلك اللحظة وعَبَر إلى حياته الثانية، حياته الجديدة: بينما يقرأ عن فارس يقاتل العمالقة، أو ينقذ شرف امرأة، أغمض عينيه لحظة وسرح بعيداً. هكذا أخرجه الخيال من غرفته، من رتابة الوقت في غرفته، وقذفه إلى عالم آخر، عالم السهول الخضر الممتدة خارج النافذة، عالم الأنهار والمغامرات والطواحين التي تتنكر بزي العمالقة. عثمان، بطل رواية أورهان باموك الجديدة، يبدأ قصة حياته بهذه الجملة: "قرأت كتاباً ذات يوم فتغيرت كل حياتي". أورهان باموك، المولود بعد سنتين من انتصاف القرن العشرين، في إسطنبول الممتدة بين آسيا وأوروبا، يملك من الخبث والحذاقة ما يكفي لاخفاء اسم الكتاب الذي يقرأه بطله حتى بلوغنا فصول الكتاب الختامية. ماذا قرأ عثمان؟ هل قرأ دون كيشوت مثلاً؟ لا، قرأ كتاباً يحمل عنوان الكتاب الذي نقرأه نحن ايضاً: "الحياة الجديدة". يقرأ عثمان كتاباً فيسيطر عليه. هو الذي امضى الطفولة يقرأ المغامرات المصورة في مجلات العم رفقي، الموظف السابق في شركة خطوط الحديد سوف يعثر في هذا الكتاب الغريب الذي رآه صدفةًَ أو هكذا يعتقد في يد جنان، رفيقته في الجامعة حيث يدرس الهندسة، على عالمٍ كامل، عالمٍ خيالي، عالمٍ في رأس الرجل الذي كتب الكتاب الغريب. لكن عثمان - الذي لن نعرف أنه يدعى عثمان إلا في نهايات الرواية - يقرر، هكذا، كالواقع تحت سحرٍ، أن العالم في الكتاب هو عالم حقيقي، عالم موجود هناك، في الخارج، خارج غرفته، وليس عليه إلا أن يذهب، أن يترك دروس الجامعة والبيت حيث يقيم مع أمه في شارع من أسطنبول، ويمضي بالباصات عبر سهول تركيا وقراها وبلداتها، بحثاً عنه. لن يمضي عثمان في رحلته وحيداً. سوف تصحبه جنان التي تبحث هي أيضاً عن عالم الكتاب الغريب كما تبحث كذلك عن صديقها الذي أضاعته، صديقها الذي أعطاها الكتاب والذي ذهب إلى ذلك العالم ورجع منه، ثم اختفى مجدداً. تضعنا الفصول الأولى من الرواية، والوصف المتكرر لحال التنويم المغناطيسي التي يمارسها الكتاب الغريب على قارئه، في لحظة انتظار مزعجة: ننتظر أن نفهم سرّ الكتاب، سرّ القوّة التي تنبعث منه. لكن هذا السرّ لن ينكشف فعلياً وسوف يبقى أقرب إلى السحر حتى ولو اكتشف عثمان أن الكتاب يروي قصة حياته. يتشكل قلب الرواية من مغامرات الراوي وجنان "على الطريق". العنوان الذي نستعيره من كيرواك يحيل إلى مشاهد تتكرر، إلى مسافات تُطوى، وإلى رحلة بلا نهاية تشبه متاهة زينون الإيلي المصنوعة من خط مستقيم. لكن ذكر ارنب أبيض، هكذا، عرضاً، في فصل من الفصول الأولى، قد يحيل أيضاً على كتابين من القرن التاسع عشر، للإنكليزي الكاهن الرياضي لويس كارول. تذهب أليس الصغيرة في كتابي كارول إلى عالم جديد غير عالمنا. عالم مدخله حفرة سقط فيها أرنب صاحب ساعة، أو عالم وراء زجاج المرآة. عثمان يذهب بالباصات عبر الأناضول إلى عالم أخضر بعيد عن زحمة أسطنبول، عالم يحاول التمسك عبثاً بأنظمة الماضي السحيق، حيث رجل ثري يحارب اجتياح الغرب لتركيا ويرفض أن يبيع الكوكا كولا في القرى التي يسيطر عليها، ولا يقبل من منتجات الغرب إلا الساعات. لكن هذا العالم ليس عالم الكتاب الغريب الذي يقرأه عثمان، بل المدخل إليه. "الحياة الجديدة" هي خامس روايات باموك والثالثة التي تُتَرجم إلى الإنكليزية. قبلها، في "القلعة البيضاء"، وفي "الكتاب الأسود"، تمكن باموك مرتين، من عرض شخصية تركيا المزدوجة، في انقسامها بين الشرق والغرب. فعل ذلك عبر كتابة رواية مغامرات حديثة، تاريخية في التجربة الأولى، وبوليسية في التالية. في "القلعة البيضاء" 1985، التي تدور أحداثها في القرن السابع عشر. نقع على إشارات إلى سرفانتس، الأسير الأسباني صاحب اليد المقطوعة في سجون أفريقيا يتخيل كتاباً عن سهول الوطن وجباله، وعلى قصة لا تُنسى بسهولة: إيطالي يقع في يد الأتراك فيسجن في أسطنبول ثم يبتاعه رجلٌ تركي يشبهه في الشكل إلى حدٍ مفزع ويحوّله إلى عبده وقرينه في آنٍ معاً. يتبادلان الحكايات والذكريات، بينما يعملان في خدمة السلطان الفتي، وينتهيان إلى تبادل الهوية: التركي يرتدي زي الإيطالي ويهرب إلى أوروبا وإلى حياة جديدة، والإيطالي يرتدي زي التركي ويبقى في تركيا حيث يعيش ما تبقى من أيام حياته، في بيت في الريف، مع زوجة وأولاد، يكتب قصصاً! في "الكتاب الأسود" 1990، نتابع غالب في بحثه في شوارع اسطنبول الحديثة ثمانينات القرن العشرين عن قريبه جلال، الصحافي الغامض، الذي اختفى، ومعه ثريا، أخته من أبيه، وزوجة غالب. البحث البوليسي الذي يقوده غالب يأخذنا في رحلة عبر تاريخ تركيا، وعبر عوالم اسطنبولية لا تُحصى، عوالم خيالية تذكر بكالفينو وبورخيس انظرْ مثلاً قصة الجلاد، أو قصة الأمير الكاتب، أو قصة اللوحة والمرآة، أو قصة صانع التماثيل.... في "الحياة الجديدة" 1994، المترجمة إلى الانكليزية عام 1998، وإلى الفرنسية عام 1999 يقدم باموك معادلة مختلفة إذ يقترب على نحو مزعج من "غيتو الخيال العلمي". هذا الكتاب يحتمل المقارنة مع تجارب ج.ج. بالارد الأميركي، أو - للدقة - مع رواية من طراز "الرجل في القلعة العالية" 1962 لفيليب ك. ديك. في تلك الرواية أيضاً كتاب غامض وكاتب مهدد بالموت. في تلك الرواية أيضاً عالم موازٍ وقائم بين دفتي كتاب. لكن لماذا قلنا إن باموك يقترب "على نحو مزعج" من غيتو الخيال العلمي؟ السبب بسيط: معادلة باموك في هذه الرواية ضعيفة، غير مقنعة تماماً، وبالتالي مثيرة للضيق. إنها تذكرنا باكتشافٍ محدد لماركيز: اكتشف ماركيز بينما يكتب وصفاً لكاهن يرتفع عن الأرض سنتمترات قليلة في "مائة عام من العزلة" 1967 أن عليه أن يقدم مبرراً لهذه المعجزة في الطيران وللتو قدم المبرر: قبل أن يرفع الكاهن نفسه في الفضاء قام بتناول بعض الشوكولاتة الساخنة! باموك في "الحياة" لا يقدم مبرراً مقنعاً لقدرة الكتاب الغامض على السيطرة على قارئه. ربما برّر لنا سيطرته على عثمان بالذات إذ نكتشف أن مؤلف الكتاب هو العم رفقي ذاته، الصديق القديم لوالد عثمان، مؤلف كل تلك القصص المصوّرة التي قرأها عثمان في الطفولة، بل وربما برّر أيضاً تأثيره على كثيرين مثل عثمان، عاشوا طفولتهم بين تلك المغامرات المصورة وأورهان باموك - بالتأكيد - واحد منهم، لكن هل يكفي هذا لإقناع هؤلاء القراء بوجود عالم الكتاب فعلياً خارج دفتيه! وإذا كان ذلك العالم موجوداً فهل الطريق إليه باصات ألمانية وأميركية تشق سهول تركيا وجبالها؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة تختلف بالتأكيد بين قارئ وآخر. داخل "الحياة الجديدة" أيضاً نجد أجوبة تختلف ثم تتشابه. كل قارئ للكتاب الغامض يجد لنفسه طريقاً تخصه إلى العالم الجديد والحياة الجديدة: صديق جنان يتحول ناسخاً للكتب ثم يُقتل. قبل أن يُقتل يتكلم مع الراوي. المشهد يذكر بفصول "القلعة البيضاء" الختامية، خصوصاً لدى الحديث عن الكتابة، وعالم الصمت الشفاف، والملانخوليا. ثمة قارئ آخر، طبيب كتشيخوف الذي يُذكر مراراً وتكراراً في الكتاب، مع دانتي وابن عربي وآخرين، يكتشف بعد فترة من الوقوع تحت سحر الكتاب الغامض، أنه بحاجة إلى كتب أخرى أيضاً، ويجد سعادته في تقسيم وقته بين القراءة وممارسة الطب، ثم تكتمل هذه السعادة حين يتزوج جنان ويسافران إلى ألمانيا وطن نوفاليس وريلكه، صاحبا الرؤيا الميتافيزيقية القائمة في المركز من رواية باموك. هذه الحيوات الجديدة التي يصل إليها قراء الكتاب الغامض قد تجعلنا قادرين على تقبل معادلة باموك إلى حدٍ معين. خصوصاً وانه يقدم في نهايات الكتاب جولة قوة مميزة: يقوم فجأة بتسريع الأحداث، ويقطع سبع سنوات في صفحتين، لنجد الراوي متزوجاً ووالد طفل يتذكر مغامرته القديمة مع جنان "على الطريق"، جنان التي ظل على حبّها على رغم زواجه وعلى رغم مرور الوقت. الخاتمة بحد ذاتها، الصفحة الأخيرة، الموت والملاك المشتعل في النافذة، تختم دائرة حياة الراوي بطريقة مفتعلة. هكذا نعود من حيث بدأنا، ذلك أن باموك يقدم هنا رواية متفاوتة. القارئ الذي سُحر أمام عملي باموك السابقين لن يعثر على ضالته في عمله هذا - على رغم المديح المنقطع النظير على غلاف الكتاب. الناشر الأميركي يقارن باموك بنابوكوف ودون ديليلو. الأصح أن يُقارن بكالفينو. دون ديليلو لا يملك قدرة باموك على الاختراع. باموك مثل كالفينو الايطالي، مثل هاروكي موراكامي الياباني، مثل باتريك ساسكند الألماني، أحد أهم كتاب رواية ما بعد الحداثة. وقد يكون إنجاز هؤلاء الأكبر قدرتهم على اختراع عوالم جديدة. قدرة مرتبطة طبعاً برؤيا أصيلة لعالمنا هذا. فبلاد العجائب 1865 التي تعثر عليها أليس تحت الأرض هي عالمنا أيضاً. والعالم المسوّر الغريب في رواية موراكامي "نهاية العالم" 1985، هو عالم في جمجمة قارئ الكتاب أيضاً. كذلك مدن كالفينو غير المرئية هي مدن وحالات حقيقية ونفسية. وفارسه المجوف 1952 المصنوع من درع حديدي فارغ هو نحن، "الرجال الجُوف"، كما في قصيدة اليوت. أما أبطال ساسكند، الذين يتبعون أنفهم في "عُطر" 1985 أو يموتون خوفاً من عين "حمامة" 1987 فليسوا إلا النماذج الأحدث من بطل أحد أجمل نصوص كافكا شبه المجهولة: ذلك النص غير المكتمل الذي نعثر عليه في دفاتر يومياته حيث يصف لنا عزلة رجل موظف في "محطة كلدا لسكك الحديد" 1912. نص غريب ورائع أقدم كافكا على كتابته بعد خلاف مع خطيبته: كان يريد أن يهرب منها فاخترع عالماً في سهوب روسيا وأقام محطة معزولة هناك، ومدّ إليها خطاً حديدياً، ثم انتقل للعيش فيها. لا نعرف لماذا توقف كافكا عن كتابة تلك القصة. لكننا نعرف أن العم رفقي، مؤلف الكتاب الغامض في رواية "الحياة الجديدة" لأورهان باموك، امتلك ذات يوم حلماً طريفاً: كان يحلم أن تُحوِّل سكك الحديد تركيا إلى عالمٍ جديدٍ، عالم يحبه. لم يتحقق حلم العم رفقي فانصرف إلى تأليف كتابه وبعد سنوات دفع الثمن حياته. إنه الامر ذاته الذي يحدث لعثمان. لكنه بدل أن يؤلف كتاباً، يقرأه. الكتابة - أو القراءة - هي الرحلة إلى العالم الجديد، إلى الخيال. أليس هذا ما اكتشفته لودميلا في "إذاً مسافر في ليلة شتاء" 1979 لكالفينو، ثم أعادت جنان اكتشافه في "الحياة الجديدة"؟