أخيراً وصلت رواية "حياة جديدة"، آخر روايات الكاتب التركي أورهان باموك، الى لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في الولاياتالمتحدة الأميركية. في فرنسا، ومنذ رُشِّحت روايته الثالثة "القلعة البيضاء" لجائزة مديسيس، للأدب الأجنبي، بدأ باموك يُعرف في الفرنسية أيضاً. أما روايته "الكتاب الأسود" التي سبقت "حياة جديدة" فنالت في ملحق التايمز الأدبي تقريظاً تستحقه، فيما قارنت النيويوركر الأميركية أعماله بأعمال بورخيس وكالفينو. الى هذين نقدر أن نزيد اسمي خوليو كورتاثار وجورج بيريك. فهؤلاء كلهم من أبرز كتّاب الرواية - اللعبة. وباستثناء بورخيس، الذي وجد الرواية دائماً "قصة قصيرة طويلة جداً وضعيفة البناء"، فإن كالفينو وبيريك وكورتاتار، تشاركوا في أعمالهم دوماً - الرواية عندهم، أو القصة عند بورخيس - هذا الهمّ اللُعبي الذي يهدف الى انشاء كتب تقدر - بقدرتها السحرية الصافية - على اضافة شيء جديد الى العالم - أو ربما عالم جديد! هذا تراث في الأدب يجد جذوره في كافكا كما في لويس كارول أو حتى في المهابهاراتا. كيف يضيف كتابٌ عالماً جديداً الى العالم؟ هذا السؤال نعثر عليه في قلب "لعبة الحجلة" لكورتاثار، وفي "الحياة: دليل للاستعمال" لبيريك، وفي "إذا مسافر في ليلة شتاء لكارلفينو، كما في أعمال باموك الجديدة. برغ نجم باموك مع بداية التسعينات، وهو الآن الكاتب الألمع في تركيا. وُلد سنة 1952. وإذا كانت "حياة جديدة - آخر رواياته - تعرف الآن مجداً لم يصب رواياته السابقة بالدرجة ذاتها، فإن هذا لا يعني تفوقها - في القيمة الأدبية - عليها. تشبه "حياة جديدة" الى حد بعيد "إذا مسافر في ليلة شتاء" لكالفينو حيث قارىء بطل يدخل في متاهة بورخيسية ما ان يفتح كتاباً. في حين أن "الكتاب الأسود" يقدم عالماً متميزاً وخاصاً بباموك بصورة أعمق بكثير. و"الكتاب الأسود" هي الرواية الأطول - والأهم أيضاً - بين أعمال باموك. تقع في جزءين، مقسمة على 36 فصلاً. في معظم الفصول ذات الأرقام المفردة نتابع غالب في دورانه في اسطنبول باحثاً عن زوجته رويا التي اختفت تاركة له رسالة وداع في 19 كلمة بالضبط، وباحثاً أيضاً عن ابن عمه جلال، الصحافي المعروف والأخر الأكبر لرويا. رويا أو رؤيا: حلم، هذا اسمها، وهو "غالب" أي المنتصر، كما عرف جده من القاموس التركي. أما في الفصول ذات الأرقام المزدوجة فنقرأ مقالات لجلال عن تاريخ اسطنبول، وعن الصوفيين الفارسيين فريد الدين العطار، جلال الدين الرومي الخ...، وعن القصص والأحلام والذاكرة... المقالة الأولى التي نقرأها لجلال، والتي تشكل الفصل الثاني من الرواية، عنوانها "عندما سيجف البوسفور". وفي اعتقادنا أنها من أجمل النصوص التي يستطيع قارىء أن يقع عليها. في رؤيا توراتية مجيدة، ولغة دقيقة ومدهشة، تتابع صور المضيق وقد جفّ من الماء وظهرت الأشياء المخبأة في قعره، لتقدم لنا تاريخاً سحرياً لهذا المعبر بين الشرق والغرب، ولتاريخ اسطنبول ذي الطبقات المتراكمة: من فرسان الحملة الصليبية متحولين الى هياكل على هياكل أحصنتهم، في قعر المضيق الموحل، الى سيارة البونتياك البيضاء أم هي سوداء؟! في وسط دائرتهم، الكْروم يقطر من عداءاتها والأعشاب تغطي زجاجها، الى سفينة انكليزية منقلبة على جنبها، وفي داخلها تسكن الآن عائلة تركية كاملة، وربّ الأسرة يقرأ صحيفة في مقعد القبطان الذي مات قبل سنوات، بينما السفينة تغرق، الى الجرذان التي عثرت أخيراً - وبعد جفاف البوسفور - على فردوسها المفقود... تتلاحق المشاهد، ونرى الكاتب جلال يخرج قلمه ويكشط قشور البحر والوقت عن زجاج البونتياك ليرى الهيكلين الملتحمين في قبلة العظام الأبدية، وليصرخ لحبيبته أو ربما للإله، كما الصوفية. تدريجياً تتكشف أمامنا، وأمام غالب المحامي المولع بكتابة ابن عمه، قصة تشبه القصص البوليسية التي اعتادت رويا - زوجة غالب - قضاء كل نهارها وليلها في قراءتها. قصة لا يكتشفها غالب إلا وهو يكتبها بحياته ذاتها، وببحثه عن أبطالها: رويا وجلال، ولكن أيضاً الأهل والمعارف، واسطنبول كلّها. يدور غالب في الشوارع ويدخل في قصص الناس، ويتحول ويعود الى نفسه ويتحول من جديد. الوجوه تتبدل مع كل قصة جديدة، وإشارات جلال الموزعة على مقالاته، تأخذ غالب الى أشخاص مولعين مثله بكتابة جلال، وتعود به الى الماضي: الى الحيّ القديم حيث "العائلة"، والى الماضي السحيق حيث تاريخ اسطنبول والإمبراطورية العثمانية. يكتب جلال في مقالاته قصصاً مدهشة، تتفوق أحياناً على كالفينو وعلى بورخيس أيضاً: قصة الرسامين مثلاً، التي يقول باموك أنه يستعيرها من مؤلف صوفي قديم. باموك مشبع بالتراث الصوفي، وقد اختار لبطليه أسماء قديمة من الصوفية... وهو في هذا أيضاً يشترك مع الكتّاب الذين ذكرنا في مستهل المقالة: ألم يستلهم بورخيس "سيمورغ" فريد الدين العطار لكتابة أكثر من قصة شهيرة؟. أو قصة الأمير الذي لا يريد أن يكون إلا نفسه. أو قصة الجلاد والوجه الباكي. هذه القصص التي تتداخل مع رحلة غالب بحثاً عن الزمن الضائع، عن أشجار "حديقة الذاكرة"، عن ماضي اسطنبول التي تقلد مدينة خيالية موجودة في الغرب، وعن زوجته، هذه القصص تبدو كأنها قصص قرأناها فيما مضى ثم نسيناها، كأنها مكتوبة من قبل ولكن مخفية عنا أيضاً. كل القصص مكتوبة من قبل، يكتب جلال. ثم يحكي لنا عن متجر علاء الدين، ويشرد ليعلن أن الفرنسي فالان أضاف قصة علاء الدين الى ألف ليلة وليلة حين ترجمها، وأن علاء الدين كان يقيم في اسطنبول والدليل القهوة التي يشربها. الكتب تأخذنا الى العالم ولكن الى كتب أخرى أيضاً. هوس كالفينو وبيريك بالبنى الرياضية الهوس الموروث عن ريموند كوينو يتحول مع باموك هوساً بالخيوط والحروف التي تجمع كل شيء في نقطة واحدة: اللغة الرياضية التي حلم كارول بأن يكتب العالم بها، وال"ألف" الكروي الذي رآه بورخيس مرّة في قبو وفي داخله رأى العالم كلّه كأنه هاملت المحبوس في قشرة جوزة، والبناية التي رسمها وينكلر في كتاب بيريك، هذه الرموز والاستعارات تصير في كتاب باموك اسطنبول ذاتها، أو الكتابة عن اسطنبول. جلال ورويا يغيبان في ظلام العالم، وغالب يتحول الى جلال، فيكتب المقالات عنه، ويطل من نافذة بيته على اسطنبول المعتمة، ومعه نطل نحن، لنتذكر رويا، ولندرك مثل غالب - ومثل جلال قبله - أن لا شيء يقدر أن يدهشنا كما الحياة، لا شيء إلا الكتابة، العزاء الوحيد.