في ضوء فشل اجتماعات قمة جنيف التي ضمت الرئيسين الأميركي بيل كلينتون والسوري حافظ الأسد نتيجة استمرار اسرائيل في المراوغة ومحاولة فرض شروطها وتصوراتها لعملية التسوية، من خلال رفضها التعهد بالانسحاب الكامل من هضبة الجولان وإصرارها على ابقاء الجزء الشمالي الشرقي لبحيرة طبرية، التي هي جزء لا يتجزأ من الأراضي السورية، تحت سيطرتها، إلى جانب فرض شروطها بشأن الترتيبات الأمنية والتطبيع والعلاقات السياسية والاقتصادية قبل إعلان التزامها الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، أخذت التصريحات الاسرائيلية الأميركية السافرة والمضمرة تتصاعد في تحميل الجانب السوري مسؤولية إضاعة "فرصة تاريخية" لاستئناف المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي، وبأن الكرة أصبحت الآن في الملعب السوري الذي عليه أن يقدم أفكاراً جديدة إزاء المطالب الاسرائيلية القديمة الجديدة التي وصفها الرئيس كلينتون بالمطالب العادلة والواقعية، مع التذكير بعامل الوقت الذي يمضي سريعاً، خصوصاً ما يتعلق باستغلال الفترة القصيرة المتبقية من رئاسة كلينتون الذي يطمح ويتطلع، كما هو معروف، لتحقيق اختراق حاسم في مسار التسوية وإرساء دعائم السلام في المنطقة باعتبار ان ذلك يمثل إنجازاً استرايتجياً يضاف إلى رصيده الشخصي الملتبس عشية الانتخابات الأميركية المقبلة. وفي موازاة لهجة التشدد التي عادت مجدداً في تصريحات المسؤولين الاسرائيليين وفي مقدمهم رئيس الوزراء ايهود باراك، وانخراط الصحافة وأجهزة الإعلام الاسرائيلية في تصعيد حملتها العدائية ضد سورية والرئيس الأسد، خصوصاً نشرها نتائج استطلاعات للرأي تظهر عدم ثقة غالبية الرأي العام، في رغبة سورية الالتزام بعملية السلام، جاءت تأكيدات وتصريحات باراك بأن اسرائيل ستنسحب من جنوبلبنان قبل نهاية شهر تموز يوليو المقبل. وفي إشارة ذات مغزى إلى سورية أوضح بأن هذا الانسحاب سيتم بالتفاهم مع دمشق أو بيروت أو بدونهما، أي من طرف واحد. واعتبرت اسرائيل هذا الانسحاب يندرج في اطار قبولها تنفيذ قرار مجلس الأمن 425 المتضمن الانسحاب الفوري والتام من كافة الأراضي اللبنانيةالمحتلة وان على الحكومة اللبنانية وقوات الطوارئ الدولية الاضطلاع بمسؤولياتهما في تأمين الحدود الشمالية للدولة العبرية مهددة بالرد الفوري إزاء أية انتهاكات قد تحدث. ومع أنه لم يتأكد بعد هل سيكون الانسحاب الاسرائيلي كاملاً أم مجرد إعادة انتشار من أجل خلق حدود جديدة يجري استخدامها كورقة ضغط لاحقاً، فإن مبدأ الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانيةالمحتلة يعتبر حقاً شرعياً للبنان تجاهلته اسرائيل طيلة احتلالها للجنوب منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان يمكن له أن يستمر إلى ما لا نهاية لو لم يجابه بالصمود البطولي للشعب اللبناني، خصوصاً في الجنوب حيث تقود المقاومة اللبنانية الباسلة كفاحاً متواصلاً أوقع أفدح الخسائر المادية والمعنوية بجيش الاحتلال والميليشيات العميلة، وجعل سكان المستوطنات والمدن الشمالية في اسرائيل يعيشون هاجس الخوف اليومي من صواريخ الكاتيوشا. فجذوة المقاومة اللبنانية المستمرة والالتفاف الشعبي والرسمي معها جعل من لبنان عملياً الساحة الساخنة الوحيدة المواجهة لإسرائيل التي مرغت غطرسة القوة الاسرائيلية بالوحل وعرّت اسطورة الجيش الذي لا يقهر وأدت إلى استمرار تفكيك الميليشيات العميلة على رغم الهجمات العدوانية والغارات الوحشية المتتالية التي استهدفت لبنان أرضاً وشعباً، وآخرها العدوان الاسرائيلي الواسع في شباط فبراير الماضي الذي استهدف منشآت البنية التحتية في لبنان وبشكل خاص محطات التحويل الكهربائي في مناطق الجمهور وبعلبك ودير نبوح إلى جانب استهداف المناطق السكنية والزراعية والمدنيين اللبنانيين. وقد مثل العدوان الأخير تصعيداً اسرائيلياً مفتعلاً لإجهاض تفاهم نيسان المبرم عام 1996 بين المقاومة اللبنانية واسرائيل وبمشاركة سورية ولبنان تحت الرعاية الأميركية اولفرنسية المشتركة اثر قيام اسرائيل آنذاك بتنفيذ أوسع هجوم لها على لبنان منذ اجتياح 1982، وهي العملية التي قادها رئيس الوزراء العمالي السابق شمعون بيريز وأطلق عليها عملية "عناقيد الغضب" وأدت إلى إلحاق أفدح الخسائر المادية والبشرية بلبنان وأبرزها "مجزرة قانا" التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة من الأطفال والنساء والشيوخ العزل. ويقضي تفاهم نيسان بتعهد المقاومة اللبنانية بعدم قصف مناطق شمال إسرائيل في مقابل امتناع اسرائيل عن مهاجمة الأهداف المدنية في لبنان. تزامن العدوان الاسرائيلي على لبنان في شباط الماضي مع جمود مفاوضات التسوية على كافة المسارات، خصوصاً بعدما وصلت المفاوضات الشاقة والصعبة في شيبردزتاون إلى مأزق حقيقي وطريق مسدود على رغم الحضور والمشاركة الأميركية الرفيعة كلينتون - أولبرايت بسبب التعنت والمماطلة الاسرائيلية ومحاولة ابتزاز سورية والحصول منها على أكبر قدر من التنازلات كالأمن والتطبيع ولجم حركة المقاومة اللبنانية. ورفضت اسرائيل في الوقت نفسه تقديم تعهد بالالتزام الفعلي بتطبيق قرارات مجلس الأمن 242 و338 و425 المتعلقة بالانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وهي التي اعتمدتها صيغة مدريد في 1991. وفي هذا الإطار سعى رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك إلى محاولة إضعاف وحدة المسارين اللبناني السوري وفكهما عبر رفع شعار "لبنان أولاً" وأعلن عزمه الانسحاب من جنوبلبنان قبل 7 تموز يوليو المقبل حتى لو تم ذلك من طرف واحد، مشترطاً لتحقيق ذلك التوصل إلى ترتيبات أمنية وسياسية مع السلطة اللبنانية يتعهد فيها الطرف اللبناني بتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل ونزع سلاح المقاومة وضمان عدم ملاحقة أفراد الميليشيا العميلة المتعاونة معها. غير أن موقف لبنان الرسمي والمقاومة اللبنانية الصلب والرافض للانجرار وراء الأفخاخ الاسرائيلية والمصر على مبدأ الانسحاب الاسرائيلي الكامل بدون شروط مسبقة والتأكيد على وحدة المسارين اللبناني السوري والذي ترافق مع التصعيد النوعي في عمليات المقاومة اللبنانية أجهض المخطط الاسرائيلي الخبيث الساعي إلى الاستفراد بلبنان أولاً ثم سورية تالياً وإحداث صدع في الوحدة الوطنية اللبنانية الملتفة حول المقاومة وحقها المشروع في الكفاح من أجل دحر الاحتلال مهما بلغت التضحيات. وهو ما انعكس في الالتفاف الشعبي والرسمي العربي الواسع مع لبنان وبلغ ذروته في اجتماع وزراء خارجية الدول العربية في لبنان والبيان الصادر عنه الذي شدد على إدانة العدوان الاسرائيلي وتقديم مختلف أشكال الدعم والتضامن المادي والسياسي والإعلامي مع لبنان وتأييده الموقف السوري إزاء مختلف أشكال الضغوط والمناورات التي تمارسها اسرائيل وحماتها. فالولايات المتحدة التي رفضت ادانة العدوان الاسرائيلي على لبنان ساوت ما بين الضحية الشعب اللبناني والجلاد المعتدي اسرائيل من دون أن تخشى أية ردود فعل عربية جدية. وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى الاختراقات التي حصلت في كامب ديفيد واوسلو ووادي عربة واستفراد اسرائيل بالمسارات المختلفة وفرض شروطها وتصوراتها لمسارات التسوية كل على حدة وفقاً لمصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى، مستفيدة من اختلال موازين القوى لصالحها على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ومستندة إلى الدعم الكامل من قبل "راعي السلام" الأميركي في ظل حالة الضعف والتشرذم لمجمل الوضع العربي. وليس أدل على ذلك من تفرد السلطة الفلسطينية وابتعادها عن خط الاجماع الوطني الفلسطيني الداخلي وتجاهلها لأهمية وحدة وتلازم المسارات، وهو ما جعلها بصورة متزايدة مشلولة وفي موقف ضعيف، فقد هرولت طلباً للمساعدة الأميركية لإنقاذ الوضع من الانفجار خصوصاً مع تزايد معاناة واحباط الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي وباقي المناطق الفلسطينية المحتلة. وفي هذا الصدد علينا ملاحظة أن القيادة الفلسطينية بعد قرارها وقف الانتفاضة مع بدء مفاوضات التسوية وقيامها بلجم واحتواء التيارات المناهضة والمعارضة لاتفاقات أوسلو وملاحقة الناشطين منهم بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الاسرائيلية وجدت نفسها ضعيفة ومعزولة بعدما فقدت معظم أوراقها، ولم تجد سياسة تقديم التنازلات المجانية لإسرائيل في ثني الأخيرة عن الاستمرار في ممارسة مزيد من الاذلال والابتزاز للسلطة تحت سمع وبصر الراعي الأميركي الذي يغض النظر عن الممارسات العدوانية وارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل بحق الفلسطينيين واللبنانيين والعرب عموماً، في حين تدرج المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ضمن قائمة الارهاب. وفي الواقع فإن تهديد السلطة الفلسطينية بإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في 13 أيلول سبتمبر المقبل من طرف واحد إذا ما فشلت مفاوضات الحل النهائي والجهود الديبلوماسية التي تبذلها في هذا الصدد لن يغير من الصورة من حيث الجوهر. فإسرائيل تصر على عدم الانسحاب من كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 كما ترفض التطرق إلى القدس التي تعتبرها عاصمة أبدية لإسرائيل. وفي الوقت الذي تواصل سياسة مصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع نطاق المستوطنات تتجاهل تماماً مناقشة حق العودة لأكثر من أربعة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في الشتات إلى جانب إصرارها على التحكم في الحدود البرية والبحرية والجوية، ووضع يدها على مصادر المياه ومفاصل الاقتصاد الفلسطيني المتداعي أصلاً، الأمر الذي سيجعل الدولة الفلسطينية من الناحية العملية فاقدة لأي مضمون، ومجرد كانتونات معازل على غرار ما كان موجوداً في جنوب افريقيا قبل تصفية نظام التفرقة العنصرية الأبارتيد. اسرائيل التي قامت منذ البداية على أساس القوة والإرهاب والعنف وفرض سياسة الأمر الواقع لا تفهم غير لغة القوة، والدليل على ذلك الكفاح المعمد بالدم والتضحيات التي تخوضها المقاومة اللبنانية الباسلة في الجنوب والخسائر الفادحة التي تتكبدها قوات جيش الاحتلال والميليشيا العميلة يومياً، وحال الفزع والخوف التي يعيشها سكان المناطق الشمالية لإسرائيل مما خلق ردود فعل عنيفة من قبل حركات وتيارات متزايدة في المجتمع الاسرائيلي ولدى المؤسستين السياسية والعسكرية، ووصلت تأثيراتها إلى صفوف الائتلاف الحاكم حيث أصبح هناك شبه اجماع على مبدأ الانسحاب والخروج من المستنقع اللبناني. العرب مطالبون أكثر من أي وقت مضى بإعادة تأكيد تضامنهم ووحدتهم إزاء القضايا المصيرية والتحديات الخطيرة التي تواجههم في حاضرهم ومستقبلهم وهو ما يتطلب استعادة الوعي والإرادة وتقديم المصالح القومية المشتركة ومقاومة كافة أشكال الضغوط التي تمارسها القوى الكبرى التي سعت على امتداد السنوات الماضية من أجل فرض هيمنتها وتسلطها لتأييد واستمرار سيطرتها على مقدرات وثروات المنطقة الاستراتيجية، وفي سبيل ذلك عملت على إضعاف وتفتيت دول المنطقة وإثارة المنازعات وزرع الفتن والقلاقل وتوتير مجمل النظام العربي خصوصاً إثر تداعيات العدوان الذي شنه النظام العراقي ضد جارته الصغرى الكويت. اصلاح النظام الإقليمي العربي وتفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك والاصغاء إلى متطلبات وآمال وأحلام الشعوب العربية في الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة هي المداخل الصحيحة لتقويم وإصلاح الاختلالات الهيكلية المزمنة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في الواقع العربي. والتضامن العربي الفعال لن يتأتى إلا من خلال رسم استراتيجية عربية بديلة تأخذ في الاعتبار القواسم والمصالح المشتركة في مواجهة القضايا الكبرى وفي مقدمها عملية التسوية والمفاوضات الجارية حولها. * كاتب سعودي.