لا شك أن تلازم المسارين السوري واللبناني في عملية السلام أمر حيوي لكلا البلدين، ولمجمل عملية السلام. ولا يمكن تجاهل الدور الايجابي للوجود السوري في لبنان في انهاء الحرب الأهلية، وفي دعم الدولة اللبنانية ضد معارضيها في الداخل. فالتنسيق السوري - اللبناني هو بالفعل آخر ما تبقى، بل انه الصيغة العملية الوحيدة لما يعرف حتى الآن، وعلى مستوى الكلام فقط، بالتنسيق العربي، أو التضامن العربي. واستمرار هذا التلازم هو الشرط الوحيد الذي سيساعد على استعادة الحقوق السورية واللبنانية في الأرض والمياه، وعلى ايجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين في كل من سورية ولبنان. مع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً عن صيغة مرتبكة للتلازم تقوم في الأساس على أولوية الحسابات السورية، هل هناك حسابات لبنانية؟ كيف ينبغي النظر اليها في اطار تلازم المسارين، وفي اطار عملية السلام وما بعدها؟ ما هو موقف الحكومة اللبنانية من المفاوضات؟ وهل تملك هذه الحكومة حقاً حرية القرار في تقرير موقفها ازاء ذلك، في اطار التضامن والتنسيق مع سورية؟ ما هو المستقبل الذي ينتظر لبنان بعد التوصل الى اتفاقات سلام نهائية مع اسرائيل؟ وما الذي سيكون عليه شكل الوجود السوري في لبنان بعد انتهاء استحقاقات السلام مع اسرائيل؟ الذي يبدو أن مثل هذه الأسئلة بالنسبة الى البعض هي من التزود الذي لا طائل من وراءه، ولا مبرر له، والسبب كما يقول السياسي اللبناني كمال شاتيلا، يعود الى أن قدر لبنان "هو المواجهة المستمرة لأطماع اسرائيل حتى تتخلى عن شروطها ومفهومها للتسوية". والأكثر من ذلك أن "ليس من مصلحة لبنان الدخول في مفاوضات مع اسرائيل ولا القبول بنتائجها"، حتى "ولو أبرمت تسوية مفترضة بين سورية واسرائيل" الحياة، العدد 13494. ولا يمثل هذا بالضرورة موقف سورية تجاه هذه المسألة. لكنه بالتأكيد يصب في خانة دعم وتبرير الرؤية السورية للطبيعة التي يجب أن تكون عليها علاقة لبنان بسورية. وإزاء تلك التقريرية الحاسمة للأستاذ شاتيلا يبرز سؤال بسيط: لماذا من مصلحة الآخرين، ومن حقهم أن يتفاوضوا مع اسرائيل، باستثناء لبنان؟ ولماذا يجب على لبنان أن يبقى هو الوحيد الذي تقع عليه مسؤولية مواجهة أطماع العدو التوسعية؟ في مقابل ذلك لعل من المفيد استعادة، وبإيجاز، صورة الأحداث في لبنان منذ أكثر من عقدين من الزمن، لنرى أن الذي يحدث هناك هو في جزء أساسي منه "صراع على منطقة الشام" بين الدولتين الرئيستين في هذه المنطقة: سورية واسرائيل. وهو صراع يبدو كأنه لا يخص لبنان في شيء. لكن الحقيقة أن لبنان يقع في لجة هذا الصراع الإقليمي: فإلى جانب موقعه الجغرافي، هو بلد عربي وحليف طبيعي لسورية العربية. لكن ما يجعل هذا الصراع يبدو كأنه لا علاقة للبنان به أمور أخرى من أهمها صيغة تحالفه مع سورية، وهي صيغة مفروضة عليه. بالإضافة إلى ذلك هناك مشكلة لبنان المعروفة والمزمنة، والتي تكمن في ضعف الدولة التي تمثله، ومن ثم عجزها عن المشاركة بفعالية في صياغة قواعد الصراع الذي يدور داخل حدودها. الأطراف الفاعلون في ما يحدث في لبنان هم سوريا، وإسرائيل، وحزب الله، بوصف هذا الأخير أبرز تنظيمات المقاومة اللبنانية. الغريب أن الطرف غير الفاعل، والمهم في الوقت نفسه، هو الحكومة اللبنانية. بدون هذا الطرف تختل اللعبة. كيف يكون طرف ما غير فاعل ومهماً أيضاً؟هذا يتضح عندما نعرف بأن عدم فاعلية الحكومة اللبنانية هو مصدر شرعية وفاعلية الوجود السوري في لبنان. الحكومة اللبنانية هي مصدر شرعية وفاعلية الوجود السوري في لبنان. الحكومة اللبنانية غير فاعلة لأنها ضعيفة. وهي ضعيفة لأنها، إلى جانب كونها تقوم على توازنات طائفية، تعتمد في استقرارها وفي أمنها على الوجود العسكري والأمني السوري. ونتيجة لذلك أصبح قرار الحكومة اللبنانية في ما يتعلق بالشؤون الخارجية والدفاع مرتهناً للاستراتيجية السورية في المنطقة. مثل هذه الهيمنة السورية على لبنان لا تسمح لحزب الله بتنفيذ عمليات المقاومة في الجنوب وهي عمليات شرعية في كل حال إلا في الحدود التي لا تضرّ بالاستراتيجية السورية. وفي الوقت نفسه فإن هذا الوضع يسمح لسورية بتوظيف المقاومة اللبنانية كورقة تفاوضية مع اسرائيل من دون أن تضطر إلى دفع ثمن هذه المقاومة. وهذا واضح من أن الضربات الاسرائيلية الانتقامية لا تطال سورية، وإنما تبقى مقصورة على لبنان. هذا على رغم أن القيادات الاسرائيلية بمختلف مواقعها واتجاهاتها مقتنعة، كما تردد في تصريحاتها، بأن عمليات حزب الله لا يمكن أن تتم منن دون علم أو من دون رضا سورية عنها. لماذا لا تشمل الضربات الاسرائيلية سورية؟ هذا ليس السؤال الوحيد الذي يفرض نفسه. هناك سؤال آخر لا يقل أهمية: لماذا لا تلتزم سورية الرد عسكرياً على اعتداءات اسرائيل الوحشية التي غالباً ما تطال أهدافاً مدنية، دفاعاً عن البلد الذي تهيمن عليه، وتستخدم حركة المقاومة فيه كورقة تفاوضية لها؟ الحقيقة أن تجاوز الاعتداءات الاسرائيلية للحدود اللبنانية لتشمل سورية، أو تدخل سورية عسكرياً للدفاع عن لبنان، يهددان بإشعال حرب إقليمية خامسة تقوض عملية السلام برمتها. وهذا تطور مرفوض، حتى الآن، من كل الأطراف المنخرطة في عملية السلام، بما في ذلك سورية وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. ثم هناك اتفاقات السلام بين الأطراف العربية الأخرى وبين اسرائيل، وهي الاتفاقات التي فرضت ترتيبات سياسية إقليمية، لكنها غير نهائية، سمحت للطرف السوري بلعب دورها في الصراع على أرض لبنان بطريقة لا تفرض الصدام المباشر مع اسرائيل، وتوفر لها في الوقت نفسه الدعم العربي. يرى الكثيرون أن توصل الأطراف العربية إلى اتفاقات سلام مع اسرائيل تسبب في عزل سورية، وبالتالي أضعف موقفها التفاوضي. وهذا استنتاج قد يبدو منطقياً للوهلة الأولى. لكن الواقع القائم، المحدود بأفق عملية السلام الراهنة، قد يقول غير ذلك. لأن الاتفاقات المذكورة تبقى كما هي اتفاقات سلام لم تفضِ بعد إلى حال سلام، ولن تفضي إليها إلا بتوصل سورية وإسرائيل إلى اتفاق مماثل. وبذلك فإن تلك الاتفاقات، والترتيبات الإقليمية التي نشأت عنها، وضعت قيداً على حرية الحركة بالنسبة الى الاسرائيليين، أكثر مما وضعت على السوريين. وهذا ما أشرنا إلى أنه العامل الأهم الذي يمنع إسرائيل من معاقبة دمشق عسكرياً على استخدامها للمقاومة اللبنانية في الجنوب المحتل. لذلك، قررت اسرائيل الانسحاب من لبنان باتفاق أو بدون اتفاق لتتمكن من تغيير قواعد اللعبة. والهدف، كما هو واضح، هو أولاً تخفيف القيد على حركتها المرتبط باحتلالها للشريط الحدودي في الجنوب، وثانياً محاولة الفصل بين المسارين السوري واللبناني. وكلاهما يمثل تطوراً تحاول سورية تجنبه، لأنه إذا ما حصل سيمثل عامل ضغط على الموقف التفاوضي السوري. من هنا نتج الوضع السياسي القائم الذي جعل من لبنان مساحة للصراع والتجاذب بين سورية واسرائيل. الأولى تستخدمه لتعزيز موقفها التفاوضي، وتستخدم المقاومة فيه للضغط على اسرائيل كلما تطلب الأمر ذلك وسمح به. والثانية تعمل على إبعاد لبنان وفصله عن الاستراتيجية السورية حتى يمكنها إضعاف الأخيرة، والانفراد بكل منهما على حدة. وما بين الاثنين يظهر لبنان فاقداً حرية قراره وتقرير خياراته. هذا الإطار لما يحدث، وطبيعة ما يحدث في لبنان يكشف مدى الغموض والارتباك الذي تعاني منه صيغة التلازم بين المسارين السوري واللبناني. وهو غموض يسمح للطرف الأقوى في العلاقة بأن يفرض - من دون إعلان - خياراته على الطرف الأضعف. وهذا ما تقوله الأحداث على الأرض. لكن هناك أيضاً ما يقوله، وفي الاتجاه نفسه، أشخاص منهم من كان أو لا يزال فاعلاً في تلك الأحداث، ومنهم من هو مجرد مراقب للأحداث. من ذلك أن رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، سُئل في لقاء عام الأسبوع الماضي في بيروت، إن كانت سوريا تستخدم لبنان مجرد ورقة تفاوضية؟ لم يجد الحريري ما يجيب به إلا أن يعيد طرح السؤال على شكل فرضية جدلية عما سيكون عليه موقف لبنان لو لم يكن متحالفاً مع سورية في هذه الظروف. الفرضية هنا صحيحة من حيث أن التحالف مع سورية هو شيء في صالح لبنان، لكن طرحها بهذه الصيغة هو تفادٍ للسؤال وليس اجابة عنه. والتفادي هنا هو إقرار بمشروعية السؤال، وهو إقرار أيضاً بأن الوقت لم يحن بعد لمواجهته. ثم لا ننسى أن طرح السؤال في لقاء عام مثل هذا يشير إلى أنه سؤال مطروح في الوعي العام اللبناني. سجل الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل - في لقاء معه على محطة الجزيرة الفضائية - ملاحظة، ليست جديدة بحد ذاتها، لكنها مهمة في السياق الذي نتحدث فيه. وهي أنه وهو الرئيس الأسبق لا يستطيع زيارة أهله في لبنان، ولا الإقامة في بلده. من الذي يمكن أن يقرر أمراً مثل هذا؟ ومع ذلك فإن الرئيس الجميل لا يعارض العلاقة الخاصة بين لبنان وسورية، لكنه يريد تعهداً سورياً بسحب جيشها من لبنان بعد التوصل إلى اتفقات سلام نهائية مع اسرائيل. من جانبه سجل الصحافي المصري محمد حسنين هيكل ملاحظة مهمة بعد لقائه في بيروت مع كل من رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، والأمين العام ل"حزب الله" الشيخ حسن نصرالله. والملاحظة التي خرج بها هيكل من حديثه معهما هي أن كلا الرجلين كان مشغول باحتمالات التسوية بين سورية وإسرائيل؟ هل هي قادمة؟ وبأي شروط؟ وفي أي إطار زمني؟ ثم ماذا بعدها؟ العماد لحود بدا إلى جانب ذلك، مشغول ب"مشكلة التوطين". وكانت مخاوفه، كما يقول الكاتب المصري، "أن يتم التوصل إلى اتفاق من دون حل لمشكلة اللاجئين". هذا رئيس الجمهورية اللبنانية يطرح، وبحيرة واضحة أسئلة جوهرية تتعلق بمستقبل الدولة التي يرأسها وكأنه مراقب للأحداث عن بعد، وليس منخرطاً في عملية صنع القرار والحدث المتعلقين بمثل هذه الأسئلة. ومثله الشيخ نصرالله الذي يتزعم "حزب الله"، أحد الأطراف الفاعلة في لعبة الصراع التي تدور على أرض لبنان. الحقيقة أن صيغة العلاقة بين الطرفين السوري واللبناني بما هي عليه الآن ليست استثناء في الإطار العربي. على العكس إنها أحد النمطين السائدين في العلاقات العربية - العربية. النمط الآخر هو علاقة التنافر، والتنافس، بل التناقض والصراع أحياناً. طبيعة الثقافة السياسية العربية في هذه المرحلة، وطبيعة الدولة العربية، باعتبارها دولة عائلة أو دولة المؤسسة العسكرية أو كليهما معاً، لا تسمح، كما يبدو، بنشوء علاقة عربية - عربية تقوم على الالتزام بقواسم سياسية مشتركة، وعلى التنسيق، واحترام حرية القرار والخيار لكل دولة داخل هذا الإطار. وذلك لأن الشك وانعدام الثقة بين القيادات في مثل هذا الإطار يصبح هو العامل الفاعل والمحرك. وهذا في ما يبدو كان أحد الأسباب الأساسية وراء إخفاق القيادة السورية في استقطاب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتشكل معها، إلى جانب لبنان، "جبهة عربية شامية" واحدة في مواجهة الدولة العبرية. لأن المثال الذي اختطته صيغة التلازم بين المسارين السوري واللبناني لم تكن، في ما يبدو، مشجعة للفلسطينيين على تكراره في حالتهم. والنتيجة هي انفراط عقد منطقة الشام إلى دول تتسابق في الوصول إلى سلام مع اسرائيل. ما سبق هو مجموعة من الأسئلة، ومعها مجموعة من الملاحظات تشير كلها إلى أن صيغة التلازم القائم بين المسارين السوري واللبناني تأخذ شكل هيمنة سورية على القرار اللبناني في كل ما يتعلق بالمفاوضات، ومستقبل العلاقات مع إسرائيل، بل وكل ما له علاقة بالوضع الداخلي اللبناني. ثم إخراج هذه الصيغة في صورة يشوبها الكثير من الغموض وهو في ما يبدو غموض مقصود، وأشياء من عدم الوضوح في الحقوق والالتزام بمتطلبات التلازم والتنسيق بين الطرفين. بهذا الشكل تعاني صيغة التلازم بين المسارين السوري واللبناني من الارتباك في العمق. فالقول أن هناك مساراً لبنانياً - إسرائيلياً يضمر استقلال المسار اللبناني. لكن واقع الأمر يقول شيئاً غير ذلك، وهو أن هذا المسار مجرد "ملحق للمسار السوري". وهذه مسائل لا بد من مواجهتها قبل فوات الأوان. لأن فرض صيغة للتلازم بين المسارين تجعل من لبنان مجرد ورقة تفاوضية مع سورية، وساحة للصراع والتجاذب بينهما وبين إسرائيل على منطقة الشام لن يخدم في النهاية لا سوريا ولا لبنان. واستمرار هذا الوضع يجعل الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات في لبنان، خصوصاً في مرحلة ما بعد اتفاقات السلام. وما يعزز مثل هذه المخاوف هو الأوضاع السياسية والاجتماعية في لبنان والتي لم يتم الاستقرار فيها على صيغة تضمن الإجماع والتوافق بعد. قد لا تبدو هذه الأوضاع مدعاة للقلق في ظروف الصراع، خصوصاً الصراع العسكري، مع العدو الإسرائيلي. لكن عندما تتوصل الأطراف إلى اتفاقيات سلام نهائية سيتغير المشهد، ومعه ستتغير الحقائق والأولويات. وعندها ستأخذ الأحداث والعلاقات على الأرجح مساراً مختلفاً، بما يؤدي إلى تغير الرؤى والتقديرات. وحينها لا بد أن يأخذ الصراع صيغة مختلفة عما كان عليه من قبل. * أكاديمي وكاتب سعودي.