الظلام قفا الليل في الأول كان الليل مثل دخان شيء يحترق، يخرج من مكان جارح، وخلفه جوقة تحفُّ به، وكان ينقلُ خطواته بيسرٍ ما دام القمر والنجوم تمسك أطراف أصابعه، وأحياناً يهتز فوق أسطح البيوت حين يتذكر أنه بطيء، يتأخر عن المجيء طوال النهار، وكانت إناث الكائنات إذا رأينه يشعرن بالحاجةِ، ويسترخين تحت ظلال وديعة وفتية، ولكنه ذات فجر صادف مُدْيةً تربّصت به، وسرقت منه عِرْق الذرية، لم يستطع الليل أن يحزن، لم يستطع أن ينال من عدوِّه، اضطجع فوق قلبه وجمع الأشياء الرخيصة التي ادخرها، وبينها قشرة الأرض، وصنع نسيجاً خشناً لبسه، وأخفى عشَّه في بريق عينيه، وأمر الجوقة ألا تصحبه إلا حين الغبش، فكان أن أطلّت برؤوسها كأن بينها أميالاً طويلة من المراثي، ولولا أن القمر الشاب في ذلك الوقت غطّى وجهه بكفّيه. حتى إذا لسعتهما الدموع، مسحهما في ثوب الريح، وأعادهما بعد قليل الى وجهه لانهارت حوله عذراوات، وعرف الليل بعد قرونٍ حيلة أن يترك مرات نسيجه الخشن ويهبط عارياً عله يستريح من الوخز، مما أغرى عدوَّه أن يسرق النسيج ويختبىء فيه ويسمّيه الظلام. سن الرشد ما زال الليل يزور كل أصدقائه القدامى، صحيحٌ أنهم تغيّروا كثيراً، الغابةُ والنهرُ والصحراءُ والريحُ والغبارُ والنباتات الوحشية وحيوانات المئة الأولى، صحيحٌ أنه يقصُّ عليهم كيف صنع تابوتاً طويلاً لروائح الأمهات، وكيف عاقب الذين خانوه وناموا، فحشا جيوبهم بالأحلام، هو الذي إذا أتى كان وديعاً بغير أظافر وعند انصرافه يقص أظافره ويتركها على مائدة الإفطار، صحيح أنه يضع رأسه أحياناً على حِجْر أحدهم ولا يغمض عينيه، يتمدّد كأنه سيهب السيد آخر ممالكهِ، ينجرُّ خلف آلةٍ صنعها وما ان تذهب به حتى آخر يمامةٍ في رأسِه، يكتشف أن كل المتسكعين الذين سبقوه كانوا يبحثون عن وعاءٍ يقلبون فيه عيونهم، أن رجليه اللتين سقطتا دائما في جوربٍ أو في نشيدٍ قوميٍ، ستمنحان الآن الأظافر والعرق حق النمو، وتصبحان راشدتين حدَّ أن تسمعا وحدهما أقاصيص الليل، مفرودتين فوق سريره وفي اتجاه ما لا يستطيع أحدٌ أن يهزمه. السجّان كيف أمرِّرُ الكائنات كلَّها من ثقب هذا النهار، كيف أُجلسها فوق القيظ، وأشدُّ عنها جلودها وذيولها وعظامها، وأتركها ترعى كأنها قلوبٌ فقط، كيف أدعوها الى الشرب من بحيرة تركها راعٍ تنزفُ من قدميه بعد كل خطوة، لو أن النهار اختفى ببطءٍ، لو أن صهده استقر كلاصقٍ بين أصابع شاعر، لأتى الليل، وانتفشت حدبته الثقيلة قبل أن تنفجر، وتقفز منها الخفافيشُ والبعوضُ والبقُّ والخطواتُ الهاربة، ويجلسُ الشاعر على ركبتيه آملاً أن يحضن الكائنات التي تنتمي اليه، ويزفها داخل أقفاصٍ، شاكّاً عصاه في وجوه الكائنات الأخرى، وقبل رحيل الليل بقليلٍ سيُطلق الشاعرُ سراح كائناته التي أحبها، لتدخل حدبة الليل، ويمضي حاملاً تحت إبطهِ، ألبوماً من الصور الزائفة. آثار الضّيف بمرحٍ أضعُه في جيبي كأنه منديل وألبسُ مسوحَ المشعوذِ عند القنطرةِ أضربُ الأرضَ بقوّةٍ كما لو أنّه تحتي جريان ماء وإذا صادفتني الفتاةُ بشعرِها الطويلِ الداكنٍِ أفكِّرُ في تشبيههِ بشيءٍ يحملُ مغزى قبل أن أفكِّر في لمسِه بمرحٍ أغذُّ السيرَ في اتجاهِ المدنِ والليلُ الفاسدُ أخفيهِ في سوادِ عينيَّ ولا أتلفَّتُ خشيةَ أن يستدلَّ عليَّ خفيرٌ تهشّمت ذراعُه فوق ركبةِ هذا الليلِ الفاسدِ وقبل أنْ أضلَّ تماماً أغمض عيني وأترك صوتي يحبو حتى يصل الى ذروتهِ في النشيدِ الأممي بمرحٍ أضعُه في جيبي كأنه منديل.