شمال القلب ذات لهفة عبرت الألوان إلى شعوب تقيم عبر الرسومات، تسكن في معنى يخلد خلف خربشة روح كم تاقت إلى الحرية، في بعض تلك اللوحات لم يحدث أن لمست شيئا من أطرافها الخشبية المعلقة، فقط كنت حريصة جدا أن أبقي عيني تحلق في فضاء تلك الطلاسم التي كم حركتني نحو الحب. في وقتا ما.. احتفظت بجميع الألوان الممتزجة بعرق جبين الرسامين الذين يحبون أن يرسموا جناحا طويلا لإنسان عاري ينام فوق الأريكة. يتوسد يديه.. فيما تبقى عينيه مغمضة على الألم.. تلك اللوحة كم كانت تأسرني وكأنها تذكرني بأشياء تسكن بأعماق القلب. أما أنا.. فبقية عيني معلقة نحو تلك اللوحة التي لم تكتمل بعد حكايتها، مازال هناك الكثير من الخطوط العريضة التي يجب أن توضع على كيان الإنسان الذي يحوي لوحة تطايرت منها حرائق بألسنة من لهب تسقط في الثلج، وحينما يمتزج اللون الأحمر باللون الأبيض تتحول تلك المعالم إلى زهور صغيرة تنبت فوق الجليد الزجاجي المطل على السماء.. وقريبا من تلك الألوان تنام إمرأة ناضجة فوق الجليد. بعد أن تترك جسدها الممدد على حافة رصيف مشبع بالألم وبعضا من الأوراق البيضاء الفارغة بقيت محتضنة أناملها التي تنام بوداعة عند وجهها البارد جدا.. عينيها مدينة. وقدميها نهر. وصوتها زورق مسافر إلى الضفة الأخرى.. أما هي فكانت امرأة الموج الواحد الذي يتدافع في لوحة.. تلك اللوحة المجنونة والمسكونة بأحلامها هي جزء من الشمال. هنا أرتب لقاء بين شخصيتين من بوح يأتيان بالكتابة كلها ليفسران لي ماذا يعني أن نكون أحرارا؟ وما النزاهة في وقت أصبح التلوث طاغيا وكبيرا؟ هما بوح الحبر.. أما أنا امرأة الشمال. هنا يزور الألوان بصحبتي الروائي التائق إلى الجمال «هاني نقشبندي»، والشاعر الإنسان جدا حسن السبع.. في مكان خارج سطوة المكان ولكنه يسكن العمق. الحب حلم ممتع وبهيج وإلهام يطلق الروح من سياجها الفولاذي أشتهي أن أزور مدناً تقيم بداخلي ولم يمسها «الوهم» بعد ** كان متحف جاليري لندن «gallery» الذي يحوي الكثير من اللوحات التشكيلية لأشهر الفنانين القدامى والذي يعود تاريخه إلى منتصف القرن الثالث عشر يكتظ بالحكايات المجنونة من خلال لوحات معلقة على حائط الصمت، ولكنها كانت في حقيقتها تتكلم بصوت يصعب تجاهله. وكنت برفقة «هاني وحسن» نجرب أن نتذوق ذلك الجمال الشاهق المنبعث من الحكايات والألوان. **وقف هاني أمام لوحة كانت تتوسط مجموعة من اللوحات الفنية الأخرى ولكنها كانت أكثرهم جرأة وشموخا. كانت تحمل مدنا تتهاوى من العلو فيما يسكن الضباب الذي يلفها وجوها لأناس تبدوا غاضبة، وجه واحد فقط كان يسكن العزلة.. أقترب من تلك اللوحة وكذلك يفعل حسن.. نقف نحن الثلاثة على استقامة واحدة.. عيوننا معلقة باللوحة وقلوبنا تصغي لذلك التوق والتيه معا.. عبير: كم تبدو هذه اللوحة ناطقة، حقيقية ويسكنها الوهم.. مليئة بشخوص خائفين ويمتلكون الجرأة الكبرى في وقت واحد.. وكأنها مجموعة في كائن واحد ومدن تموت وتخلق من جديد.. !! ** أمد أصابعي وألمس جسد اللوحة.. ثم أهمس: أشتهي أن أزور شخصا ما هو أنا.. أشتهي أن أزور مدنا تقيم بداخلي ولم يمسها «الوهم» بعد.. أشتهي أن أقول ما صعب علي يوما أن أقوله. أشتهي أن أرتاح.. أرتاح كثيرا فقد تعبت.. ترى.. هل مازالت «مدن الأوهام» موجودة؟ هل يمكن لنا أن نقول كل الكلام دون أن نتعب؟ ** هاني متأملا اللوحة.. ويديه خلف ظهره ممسكة بعضها ببعض.يقول: الكتابة كفعل لا تتعبني.. يتعبني التفكير فيما سأكتب لاحقا. أرتاح فعلا عندما أنتهي من التفكير في عمل جديد، قبل ان أعود وأفكر في عمل آخر فأعيش ألما جديدا. «الرواية جرح يفتح» كما قال كافكا. وقد وجدت أنها كذلك بالفعل. أما عن الوهم.. جميل.. هو مثل الحلم لكنه أكثر حلاوة. قيده اكثر ليونة وامتدادا من الحلم. جميل أن أعيش واهما. لقد أوصيت أن يكتب على قبري «مات وهو مايزال حياً» في مكان آخر مازالت هناك أرصفة لم أذب في زحامها بعد أما عن الكلام، وما إذا خوت جعبتي، فهناك بالتأكيد كلام كثير لم أقله بعد. ماذا أنتظر..؟ لا أعلم. لم لا اكتب إذا..؟ لأني أخاف أن اكتب كل ما أفكر به. ما قلت حتى الآن، يقف وراءه صف طويل من الكلمات التي تنتظر دورها، ولا أعرف متى سيأتي هذا الدور. لدي الكثير.. لم ينته كل شيء، ولم أفرغ كل ما بداخلي بعد. ما زلت ممتلئا، ولا أريد ان أموت كذلك. أريد «ان اموت خاويا» كما قال الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس. ** حسن بعد أن يبتسم للوحة وكأنه يجرب أن يتصالح مع وجعها.. يقول أن تزور شخصا ما هو «أنت»، ومدنا تقيم بداخلك هو، كما أرى، انكفاء مؤقت نحو الذات نلجأ إليه عندما يطوقنا الواقع بسياج شائك من الوصايا والأوامر والنواهي. قد لا يكون ذلك الانسحاب سلبيا أو نهائيا. وربما انطوي على محاولة لاستعادة ما سلبه الواقع. لكني أدركت منذ عقود أن مدن الأوهام ليست موجودة، فخففت من مزيج «طوباويتي». أدركت ذلك فكتبت ذات يوم «وداعا يوتوبيا الأوهام الكبيرة». كل حلم خارج مدار يوتوبيا الوهم هو حلم مشروع. لكل منا الحق في أن يحلم فالأحلام الخيرة لا تعارض. على أن لا تتحول إلى مرض يشل حركة الإنسان، ويفقده القدرة على الإنتاج. هل تعبت؟ لا.. لم أتعب.. كما أن الشمس لم تغرب بعد. ** أدير ظهري عن تلك اللوحة.. أتجه بخطوات متقاربة نحو أخرى أعلق عبير: لم يعتد قلبي يوما على «النوم».. في كل مرة كنت أهدهده حتى يغفو كان يمد يده بداخل روحي يشعل القناديل ويصمت.. قلوب كثيرة تنام، وكلما غفت تركت البرودة تدخل من الباب فنشعر بكل تلك القسوة.. لا أعرف كم برد مازال يسكنني؟ ** هاني بعد أن يقترب من لوحة توازي الأولى في الحجم: سكنني برد كثير، وما يزال يسكنني كل يوم طالما أنا على قيد الحياة. أنا أبرد.. فإذا انا حي. الأبواب لا تغلق إلا عندما تفقد الحياة وراءها. الدار المهجورة لا يفتح بابها. لا أتحدث عن نفسي فقط. أتحدث عن الإنسان. فأي واحد هو ذاك الذي ينام قلبه؟ نوم القلب هو موت. أذكر عندما التقيت في حوار تلفزيوني مع الكاتب البرازيلي باولو كويللو ان قال لي «لقد أوصيت عندما أموت أن يكتب على قبري: مات وهو ما يزال حيا». وتفسير ذلك، حسبما قال، انه مات وهو ما يزال يتمتع بكل لحظة من حياته، في حين كثيرون ميتون وهم ما يزالون على قيد الحياة. ** حسن ينظر إلينا.. ثم يغرق في التأمل ويعلق: لم يعتد قلبي على النوم.. عندما ينام القلب نسكن العراء.. تصبح الحياة منفى. لم أغلق الأبواب أبدا.. أنا في انتظار دائم.. والانتظار زيت المصابيح التي أكتب على ضوئها.. هنالك في مكان آخر أرصفةٌ لم أذبْ في زحامها بعد، ومقاهٍ لم أرتشفْ لحظاتها البهيجة، وحدائق لم أتفيأ خضرتها وظلالها، وأنهارٌ من الفتنة المنتظِرة.. هنالك في انظاري شواطئ لأحلام النوارس. لم أهيئ للبرد فرصة ليسكنني، وحين يفعل ذلك في غياب من أحب «أطلب الدفء في المحبرة» وأحول الحياة إلى عشيقة؛ إلى فاتنة تأسر القلب ثم تأخذني للفرح، إلى ينبوع الظمأ الرقراق الذي يسقي حقول الإبداع، إلى فيوض العشق المتدفقة والحدائق المعلقة.. إلى فرات الخيال، ودجلة العاطفة.. ** نخطو جميعا نحو لوحة علقت في برواز أحمر وقد بدا في اللوحة الكثير من المعاناة الإنسانية لوجه منقسم إلى نصفين ومايفصلهما وجه ثالث بعين واحدة تبكي بدموع تجري مجرى النهر فتشطر اللوحة إلى نصف يمتلئ بالحياة وآخر يسكنه السواد العظيم.. سأنام الليلة ككل ليلة و «حلم» أن أحلم بها لا يفارقني النزاهة أن لا تتناقض أفعالنا مع أقوالنا وأن نصمت إذا كان الكلام منافياً للقيم عبير: كم يبدوا ذلك قاسيا.. انظرا إلى انشطار الوجه وكأنه تعبير ضمني عن انشطار الروح بداخل هذا الإنسان.. أظن بأن هذه العيون الباكية التي تتوسط النصفين من الوجه تعني الآخر.. الآخر بقسوته، بجموده. أنها الأيام الصعبة التي لا تتردد أن ترمي بنا من فوق جبل الأحلام. ماذا تعني القسوة..؟ كيف نشفى منها؟ هاني: القسوة هي عندما لا أسمع كلمة صباح الخير من الذي أحب. ولا اسمع تصبح على خير منه أيضا. القسوة ليست ضرب العصا او عراك الزمن، بل في غياب الكلمة الجميلة. الكلمة الحنونة. وفي هذا الشأن تحديدا، اعتقد اننا بتنا نتآخى مع القسوة من فرط سطوة وجودها في كل لحظة نعيشها. أما كيف اعالج المسألة، فبالتجاهل. ليس لأني انسان قوي، بل لأني عاطفي، وقد اخشى مواجهة الفشل كما اخشى مواجهة القسوة، فأبحث عن اتجاه آخر لبوصلتي، علَني أجد ما أبحث عنه من حنان وآمان بتجاهل قسوة الواقع. حسن: القسوة - يا أصدقائي - هي أن تصبح الحياة حزينة ثقيلة راكدة. أن توصد أبواب الفرح، وتجفف نهر الأحلام. أن تُنتف الأجنحة لتكف عن التحليق، وتستسلم للوقت وما فيه من مصادفات عمياء. أن تُنفى إلى منطقة قصية قاحلة.. بالنسبة لي ككاتب أنتصر على تلك اللحظة «السيزيفية» بالكتابة. هنا أبدأ رحلة التحليق الخارجِ توا من دائرة الأسر.. أصبح الوردة والأريج.. زخات مزنة تطفئ ظمأ الصحارى.. هنا عند طاولة الكتابة أرمي أرديتي الباليةِ للريح، وأكسر أغلالا كامنة في الذاكرة. أنتصر على تلك القسوة.. كما ينتصر سيزيف بالعمل في كل لحظة تتدحرج صخرته إلى أسفل الجبل، فيعيد المحاولة مرة أخرى. الكتابة وصفة أخرى للشفاء. للتحرر من ذلك الشعور المرير بعبثية الحياة. حينما ينام قلبك فذلك يعني أنه مات ما الذي ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ حينما يسكنني البرد أحول الحياة إلى عشيقة تأخذني إلى الفرح ** أخرج دفترا صغيرا من حقيبتي. كمن يحاول أن يكتب معلومة يخشى أن تتيه منه في الزحام.. أهمس وأنا أكتب «الكتابة وصفة أخرى للشفاء». ** يضحك حسن ويسأل: ماذا تفعلين ياعبير؟ ** أدخل القلم والدفتر إلى الحقيبة وأنا أعلق: أكتب.. لعلني أجدني.. ذات يوم جربت أن أكتب لأشفى مني.. كنت كلما كتبت رأيت ضحكة سخرية تخرج من تحت أسطر الكلمات لتشعل تلك التجارب التي عشتها ولتتحول إلى عالم من الحكايات والقصص التي لا تموت.. كلما كتبت وجدت أحزاني تتضخم وتكبر ومنها تولد الدموع.. لماذا نكتب؟ هل لنشفى من مايؤلمنا؟ أم لننعتق من بلادة واقعنا؟ أم لنعيش ذلك العالم الثاني الذي يسرقنا من هنا ويأتي بنا إلى هناك؟ ** أنظر إليهما.. وأردد.. لماذا نكتب؟ حسن: لماذا نكتب؟ هنالك أكثر من سبب، وقد تضمن السؤال بعض تلك الأسباب.. نكتب لنعيد الوردة إلى خميلتها، والنجمة إلى سمائها، والعِقد للجيد الذي يليق به. نكتب لنقاوم العدم، لنخلد اللحظات، نقبض عليها ونلقيها في نهر الكلام. نكتب لننتصر على صلابة الزمن المادي، لنكسر قوانينه، ونتجاوز محدوديته. للكتابة عذوبتها. يتدفق القلب فيأخذ عالم سحري باللمعان. يصبح العالم في متناول الكلمات. تستطيع أنت الأعزل إلا من خيالك هندسة الأشياء الجميلة. تستطيع أن تمتلك جناحي طائر، وأن تحلق لتلامس ألوان قوس قزح. يمكنك أن تفجر الصخر فتتدفق أنهار بنفسجية لتستحم بمائها حوريات الماء الساحرات. تستطيع أن تقبض على النجوم البعيدة. وأن تصطاد الرغبات الهاربة، وتستدرج الأحلام المؤجلة. قلم وورقة ونشوة الكتابة ذلك المزيج من الحزن والفرح، ويأخذك خيالك، ذلك البساط السحري إلى آفاق أكثر رحابة واتساعا. هاني: أنا لا أكتب - ياحسن - كي أهرب من بلادة الواقع، أو من ألم ما.. أو طمعا في عالم خيالي اسكنه وحدي. أنا أكتب لأني أحب الكتابة. ببلادة واقعها، ألم قلمها، وغرائبية عوالمها التي قد لا تكون مني ولا أكون منها. أنا أكتب لأني احب الكتابة.. هكذا.. بكل بساطة.. أكتب بلا سبب غير ذلك. أجمل الحب هو الذي لا يرتبط بسبب. كنت أقول دوما ان من يحب امرأة لشفتيها او قوامها او عينيها او حديثها، إن هو إلا يجزء المرأة.. يفتت اوصالها، وجاهل عظيم في حبها، إذ كيف له ان يعيد تجميعها كاملة ليحبها كاملة؟ أنا احب الكتابة كما هي.. بشفاهها الغليظة، وشعرها الخشن، ولسانها الحاد. ** تعلو ضحكاتنا جميعا.. ** أنظر إلى لوحة ثالثة يمتزج فيها جسدين في معالم واحدة. وكأن اللوحة تتضمن شخصا واحدا ولكنه لشخصين يمتدان في أفق واحدة بشكل حميم ومستفز ودافئ.. عبير: من منطلق سيرة الحب كما تحدث عنها «هاني» أظن بأن هناك دائما قوة ساحقة خلف الحب.. في الحب معجزة في جعل المستحيل أكثر تشويقا واكثر احتمالا للحدوث.. في الحب بقيت محتفظة بالأوراق الخضراء لنبتة الأشواق التي لم تتوقف يوما عن الفرح.. رائع هو الحب يمنحك الحياة بدهشة طفل.. يدفعك لمزيد من الحرية، لمزيد من الحياة الطرية، الحب يخلق منا كائنات رقيقة جدا تشبه الأنهار.. أحب أن أتحول بفعل الحب إلى نهر. أحب أن أكون بفعل الحب المرأة التي لا يسأمها الرجل. هاني: نعم - ياعبير - الحب يحولنا الى نهر، والى صخرة، والى رائحة عطرة.. وربما يحولنا الى عطن. فالحب نفسه غير مؤتمن على صاحبه. إنه غادر.. مراوغ، وهو آخر شيء يصنع الحرية. الإنسان الحقيقي هو من يستطيع ان يسيطر عليه. ان يروضه، وأن يرضى في الوقت ذاته بأسره الظالم. أما مسألة السأم فأقول إن الرجل قد يسأم المرأة لكنه لا يسأم حبها. كما هي المرأة تماما قد تسأم الرجل ولا تسأم حبه. لا توجد سمات محددة للسأم او الإثارة. هي طبيعة الحياة. إنها الامتداد للنقيض. فكما هو اللون الأسود الامتداد الأقصى للأبيض، كما هي الإثارة تمتد في أقصاها الى السأم. من ينتقل من حب الى آخر، أو امرأة الى أخرى بفعل السأم، هو انسان تعيس. هو انسان يبحث عن نفسه الضائعة. إنه يستحق الشفقة فعلا. وكما قال عنايت خان، وهو أحد كبار الصوفيين «إن الشفقة على الذات هي من أسوء التعاسات». وهذا يعيدنا الى النقطة الأولى.. الى أن الحب نفسه صعب الترويض. من يستطيع ان يفعل ذلك، فهو انسان يقترب كثيرا من الكمال. وما رأيت كثيرين كذلك حتى الآن. ** يتجه حسن بكامل جسده إلى نافذة تطل على الفضاء. يبتسم ويعلق: أما أنا فالحب لدي غابة زاخرة بالجمال، رحلة ساحرة في فضاء زمني متجدد، حلم ممتع بهيج، فضاءات من الألفة والبوح. مصدر إلهام كبير يطلق الروح من سياجاتها الفولاذية، لينسج خيوط المتعة، فيتراءى الوجود فاتنا وخلابا. نعم تحولت إلى نهر من الكلمات تتفرع إلى دواوين شعر لا تتحدث عن (ظل امرأة) أو (امرأة بلاستيكية) المرأة في قصائدي ليست شبحا، بل كائن من لحم ودم. كلما خطرت على البال رحت أبحث عن لحظاتنا الهاربة. وأصنع لها بالكلمات قصورا وحدائق تليق بذلك البهاء، قد تتجلى المرأة، أحيانا، في قصائدي على شكل فكرة أو موقف، أو معنى من المعاني. أو قيمة من القيم، أو حلم من الأحلام الجميلة، لكنها ليست معنى مجردا مستعارا، أو منفصلا عن الواقع. من هي المرأة التي لا يسأمها الرجل؟ للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نحدد أولا عن أي الرجال نتحدث. فلكل شخص توقعاته ومعاييره الخاصة. توقعات ومعايير تشكلها البيئة والتربية والثقافة والتجربة. ولذلك قيل: «الجمال في عين الرائي». وقيل أيضا: «حَسنٌ في كلّ عينٍ من تودّ». ** نتنقل في المتحف وبين اللوحات.. نقف لدى بعضها. فيما نتجاهل الآخر منها.. أقطع ذلك الصمت بالاستطراد في موضوع «الحب». عبير: ولكن برغم قسوة الحب أحيانا. يبقى هناك الصوت الواحد الذي يسكنك والذي يستوطن بك كل الأجزاء من القلب.. أظن بأن أصوات البشر الذين نلتقيهم تشبه الحكايات. الأصوات تحمل رائحة الذكريات فإما أن تمنحنا التوق أو تهدينا للنسيان.. ** أضع يدي على قلبي وأكمل: مازلت أسمع ذلك الصوت. مازال يسكن بي كل جزء من الروح، وحتى مع كل هذا الضجيج مازلت أسمعه. نعم أستطيع أن ألتقطه كلما غاب وكلما ظننت بأنني دونه وحيدة. أسمعه.. وأسمع صوتي. صوتي الذي لا يمكن أن يضيع مني يوما ما. هاني: أنا لا أتذكر صوتي.. لأن الآخرين من يسمعونه لا أنا. لذلك لا أتصور هناك شيئا يذكرني بصوتي. أتذكر فقط صوت طفولتي عندما كنت أبكي. لأن صوت الأطفال عند البكاء واحد تقريبا. أما الصوت الذي سكنني حتى اللحظة، فهو صوت أمي ممزوجا بدافور الكاز القديم. كنت أنام على الثياب التي تغسلها حبيبتي على ذاك الموقد. تعاتبني حينا، وتداعبني حينا آخر. اشتاق الى ذاك الصوت. بعد وفاتها مؤخرا.. كنت أنام لأحلم بصوتها. اردت ان اسمعها تناديني ولو مرة واحدة. أحيانا أتصنع الصوت في يقظتي، وأجاهد لأتخيل انه صوتها. أقاتل طواحين الهواء لأثبت أنه صوتها. لكني لا ألبث ان انطوي على داخلي مؤمنا ان صوتها ما عاد موجودا. أخلد الى النوم، من قسوة حلمي، وأكرر في سري دعائي بأن انتبه في يقظة حلم على صوتها وهي تنادي اسمي. ** ينظر إلي بعد أن لمعت عينيه بماء أشبه بالدموع.. وليست هي: أحيانا - يا عبير - أشعر بالخزي من نفسي.. من أحلامي. فأنا حتى اليوم لم احلم بها مرة واحدة.. تخيلي.. ولا مرة واحدة فقط. كم هذا مؤلم. تساءلت ذات مرة ان كانت هي غاضبة مني، او مشغولة عني، او أن الموت برزخ حقيقي حتى في الأحلام؟ لا أعلم. لكني أعلم اني سأنام الليلة، كما كل ليلة، وحلم أن أحلم بها لا يفارقني. حسن: عند الحديث عن الصوت تتداعى إلى الذاكرة أمور كثيرة. فللصوت بصمته التي نعرف بها الأشخاص دون أن نراهم. والصوت وعاء الكلمات التي نرى من خلالها الآخرين مهما ارتدوا من أقنعة. هي الرؤية التي عبر عنها سقراط بقوله: «تكلم حتى أراك». وبالصوت يتسللون إلى القلب على الطريقة التي أشار إليها بشاربن برد بقوله: «والأذن تعشق قبل العين أحيانا». مازلت قادرا على استعادة أصوات بعض الأقارب والأصدقاء الراحلين. ومازالت بعض الأغاني تعيدني إلى أزمنة وأماكن جميلة مفقودة. الصوت عند ساميا ساندري هو «بوابة الكون» وقد تمنت في مستهل كتابها عن (الصوت) أن يكون لكل منا صوت داخلي يتصل من خلاله بالكون. ** يصمت.. ينظر إلينا بحنين ثم يهمس: بماذا يذكرني صوتي؟ لا أدري! عبير: تسرقني كثيرا فكرة الموت.. أشعر بالكثير من العجز حيال حقيقتها ومايمكن أن يحدثه الموت من أثر حينما يباغت من نحب فيتشكل الفقد الموجع. عندها أسأل نفسي.. هل أخشى الموت؟ لا أعرف. ولكن كثيرا ما شعرت بأنني أتجمد عند الموت الأعمق وهو الموجود حينما نكون أحياء فنبقى أحياء بموت مؤجل. هاني: في معظم رواياتي، تجدين حديثا عن الموت. أردد دائما ان الموت هو أجمل فعل نختم به حياتنا. لكني اتساءل أيضا ما هو تعريف الموت..؟ إن كان هو موت الجسد، فكلنا سيموت. وإن كان هو موت الروح، فالروح لا تموت. إذا لا بد ان هناك نوع آخر من الموت يفوق الجسد والروح. أقول ذلك لأني أرى كل يوم أناسا يتمتعون بصحة وأرواحهم ما تزال تسكنهم، لكنهم موتى. وسبب موتهم كما أراه هو انعدام أخلاقهم، وإيمانهم المطلق ان الحياة التي يعيشونها هي لأنفسهم فقط، ومن أجل انفسهم، أيا كانت المعاناة التي يسببونها للآخرين. هؤلاء موتى معذبون. لأنهم أحياء وموتى في الوقت ذاته. أرواحهم معلقة بين برزخين. أما الموت كفعل نهائي، أو عتيق كما تسمينه، والذي ننتقل من بوابته الى العالم الآخر، فأقول انه تحرر جميل للروح من ضيق الجسد. أنا مؤمن تماما ان الموت هو الحرية المطلقة. تصدقين..؟ راودني حلم الموت أكثر من مرة. وكل مرة كنت افيق سعيدا. كنت افيق وأنا اعتقدني قد مت بالفعل. مؤمن حتى النخاع ان الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت. وأن هناك أحبة ينتظروننا. في روايتي الأخيرة «طبطاب الجنة» ستجدين حديثا صريحا مع الموت، شوق ورهبة واشتياق له، نحن نكره الموت لأنه يأخذ منا أحبتنا، ونخاف منه لأنه مجهول، كل مجهول هو مخيف، وأنا اليوم بت موقنا أن الموت ماعاد مجهولا بالنسبة لي، بل صديق ينتظرني عند منعطف الطريف. حسن: الموت الجسدي عودة إلى الأرض، أما المعنوي فهو لحظات رمادية اللون متشابهة، رتيبة، صامتة، بطيئة لنتصور شخصا يعيش خارج الزمن وخارج العالم بأحداثه وقضاياه ومتغيراته، يحدق في الفراغ، لا يعمل ولا ينتظر شيئا، وليست لديه أحلام أو تطلعات.. ترى مالذي يميزه عن الموتى؟ ردة فعل كل واحد منا نحو الموت نسبية ومتفاوتة. هي مزيج من الموقف الشخصي والفلسفي، أما الموقف الشخصي فيعكس علاقة كل فرد منا بالمتوفى، أما الفلسفي فيعكس الموقف من الموت بشكل عام. الموت هزيمة فيزيائية شكَّلت قلقا فلسفيا وفنيا قديما. لكنها هزيمة للجسد الفاني وحده، ويبقى في الذاكرة الثقافية من ترك بعد رحيله آثارا تقاوم النسيان. هي الآثار التي نقاوم بها الفناء. وقد عبر عنها الشاعر عمر أبو ريشة بقوله: «إنها حجرتي لقد صدِئَ النسيانُ فيها.. وشاخ فيها السكوتُ/ عند كأسي المكسورِ حُزمةُ أوراقٍٍ وعمرٌ في دفتيها شتيتُ/ اقرأيها لا تحجبي الخلدَ عني.. انشريها لا تتركيني أموتُ»! لا أخشى الموت لكني أحب الحياة. عبير: وكأن في بعض الموت نزاهة للروح. النزاهة ليست فقط أن تكون رفيعا في أخلاقياتك مع الآخرين ونظيفا من الوسخ ومن التلوث.. أظن بأن هناك نزاهة للروح لا يفهمها إلا من يتشابهون مع هؤلاء في اليقظة الروحية التي تجعل منا بشر حقيقين.. ربما يجهل البعض معنى «النزاهة» وكيف يكون ثمنها؟ ولكنها تبقى الكنز الدفين في قلوب الشرفاء. هاني: ما أعرفه ان النزاهة هي السمو بالنفس والترفع عن المغريات.. لكن السؤال ما هي المغريات التي نستطيع ان نترفع عنها؟ إدعائي أني فعلت ذلك أو قادر عليه هو الكذب بعينه. فأنا بشر أخطئ وأصيب. لكني اليوم أحاول. النزاهة كما كل الأشياء.. لها ثمن. حتى الإنسان نفسه، ناهيك عن النزاهة، له ثمن. لكن قد يكون هذا الثمن إيجابيا وقد يكون سلبيا. إيجابيا عندما نعلم أننا ندفعه لتمسكنا بالمبدأ. وسلبيا عندما نقايض النزاهة بحاجة ذاتية مليئة بالأنانية. الحرية هي ما يخلق النزاهة. لأن غياب هذه الأخيرة مرده غياب القانون. ولا يغيب القانون إن كانت وراءه حرية قادرة على حمايتي من سطوة محترفي هدم القانون. حسن: سأحصر موضوع النزاهة في إطاره الثقافي، حيث تقتضي النزاهة أن يكون المرء حلمه لا حلم غيره. أي أن يكون صوتا وليس صدى لأصوات أخرى. وأن لا يكون شبيها بعضو جوقة إنشاد. وأن لا تناقض أفعاله أقواله. وأن يصمت إذا كان الكلام مناقضا لمنظومة القيم التي يؤمن بها.. فالصمت موقف، وهو في هذه الحال أبلغ من الكلام. للنزاهة ثمنها الباهظ بكل تأكيد، لكن ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالَم وخسر نفسه؟ ** نقف عند اللوحة الأخيرة.. لوحة رسم بداخلها اتجاهات أربعة فوق قلب بدا أنه مازال حيا ينبض.. جميع الجهات موصدة بالأبواب. فيما بقيت جهة الشمال مفتوحة. آسرة، شاهقة.. وقفنا من جديد على استقامة واحدة أمام اللوحة.. ابتسمنا.. وقررنا أن نخوض صراع الاتجاهات الأربعة وأن يكون الباب الأخير.. باب الشمال حتى إن كان في لوحة تشكيلية رسمت بالماء. حسن السبع حسن في أمسية شعرية مع الشاعر أحمد الملا والشاعرة فوزية بو خالد حسن في السكن الجامعي بفرنسا هاني في لحظات الكتابة هاني في رحلة إلى اليمن حسن مع صالح الغازي مدير النشر بدار الكفاح هاني مع محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب الأسبق حسن في منتدى ثقافي مع حسن الجفال هاني في حفل توقيع رواية اختلاس حسن في ندوة ثقافية هاني مع الهاشمي الطود والمساعد الشخصي للمناضل عبدالكريم الخطابي هاني في القاهرة