محمد صبحي "ديكتاتور" رومنطيقي، يحلم بالكمال المسرحي، ويبحث عن شرعية جماهيرية من خلال رفض منطق مسرحي سائد في ظرف مسرحي منهار، أو على الاقل آيل للسقوط، وهو منطق "الجمهور عايز كده". وقد سعى طوال مسيرته المسرحية الى الحصول على شرعية طرح اسئلة متزامنة مع ظرف اجتماعي وسياسي عام، ومع لحظة تاريخية ملتبسة. ويستمد هذه الشرعية من خلال قاعدة اتفاق ضمني ومسبق بينه وبين جمهوره. والإتفاق يقوم على الاحترام المتبادل، وطرح فن محترم. وعطاء صبحي متنوع بين العروض العالمية والمصرية، غير انه كان حريصاً طوال مسيرته على إبراز البعد المصري لأعماله. قدّم "هاملت" 1971 و"أوديب" 1972 و"ماراساد" 1973 و"روميو وجوليت" 1975، وكذلك "انتهى الدرس يا غبي" و"على بيه مظهر" و"الجوكر" و"المهزوز" و"أنت حر" و"البغبغان" و"الهمجي" و"تخاريف" و"وجهة نظر" و"بالعربي الفصيح" و"ماما اميركا" و"عائلة ونيس". وحالياً يعيد انتاج اربعة نصوص في إطار معاصر وهي "لعبة الست" و"كارمن" و"سكة السلامة" و"ملك سيام". يجمع محمد صبحي خبرات نظرية وتطبيقية، توفّق بين اكثر من منهج مسرحي. وقد خرج منها صبحي بتوليفة مصرية خالصة وموفقة بما في ذلك منهج ستانسلافسكي أو غروتوفسكي او بيرانديللو او بريخت. وكانت النتيجة فكرة المسرح للجميع على غرار مهرجان القراءة للجميع، ليكون المسرح في متناول القادرين وغير القادرين والمثقفين وغير المثقفين. "الحياة" التقت محمد صبحي وكان الحوار التالي: التنبيهات المكتوبة في مدخل المسرح، هل الغرض منها إحياء تقاليد المشاهدة المسرحية وترويض سلوكيات جمهورك؟ - هذه السلوكيات حرصت عليها منذ بداية مسيرتي المسرحية، وحاربت من أجل ارسائها، والتكرّس لها من جديد، حتى تَعوّدها جمهوري واصبح يحرص على اتباعها ولا سيما أنه عرف أنني أحافظ على هذه التقاليد من منطلق احترامي له، حتى الإعلان الذي أقدمه فإنني احرص على تقديمه في شكل محترم لا يسعى لتحقيق جذب رخيص من خلال خداع المشاهد. كما امتد هذا ليشمل اختيار عناوين عروض، ذلك أنني احترم جمهوري منذ نزوله من بيته. وبلغ هذا الاحترام المتبادل مفهوم الثقة المتبادلة بيني وبين الجمهور الذي أحرص على ألاّ أخذله. عملت في التدريس مدى 14 عاماً، فلماذا استقلت؟ هل يرجع ذلك لتصورك بأن النهضة المسرحية لن تتحقق بالتنظير والتدريس وإنما بالتطبيق؟ - اعشق مهنة المدرس في المقام الاول ثم المخرج، ثم الممثل في المقام الثالث غير أنني لم استطع مواجهة واقع تعليمي لا منهج ولا تنظير فيه. واكتشفت انني احرث في الماء، فقررت ان أواصل رسالة التدريس في فرقتي حيث ستكون النتيجة أفضل. بعد تعاون ناجح مع لينين الرملي دام 13 عاماً انتهى التعاون بينكما بالانفصال من دون مقاومة أي منكما؟ - قدمت اعمالاً عظيمة مع لينين، ونحن أصحاب مشوار فني طويل، وحين نقول أنه حدث خلاف فيما بيننا، فإنه خلاف في الافكار وليس خصومة شخصية، وفي ظل هذا الخلاف الرؤيوي لا يمكن أن ننتج عملاً عظيماً. واذا كان يرى البعض في هذا الانفصال ضرراً، فإنني أرى عكس ذلك تماماً، لإنني ولينين كنا نشكل بؤرة مسرحية محترمة واحدة. وبعد الانفصال صرنا بؤرتين، وهذا في النهاية لمصلحة الجمهور، ولو حدث ذات يوم ان كانت لدينا رغبة مشتركة لإنجاز عمل ما فلن نضيع هذه الفرصة، إذ لا خصومة بيننا. قدمت "هاملت" لشكسبير ثم "أوديب" لسوفوكليس ثم "ماراساد" لبيتر فايس وكلها أعمال كانت في مستهلّ مسيرتك فأين يكمن البعد المصري والعربي في المسألة؟ أو ما فلسفة اختيارك لهم؟ - دائماً أصف الكلاسيكيات المسرحية الرصينة بأنها محك الاختبار، وانها مفتاح ضبط لايقاع البيانو المسرحي إذا جاز التعبير. وهذه الكلاسيكيات العالمية التي تتصف بالرصانة تتميز بإمكان تقديمها في أي زمان ومكان، لما تتصف به من شمولية الهم الانساني. وكنت لا املك بعد انضباط أوتار البيانو المسرحي، فوجدت في هذه الاعمال حقلاً خصباً للتدريب والتجريب للمخرج والممثل. وبعد فترة من التدريب والتجريب على هذه الاعمال اكتشفت انها اصبحت "استوديو 80" وليس "استوديو الممثل" لماذا؟ لأنني اكتشفت انني استطيع تقويم أعمال ذات مذاق أو بُعد مصري في الإطار العالمي نفسه، بنسبة 25 في المئة و75 في المئة للمصري وهذا ما سعيت لتحقيقه بين عامي 1970 و1976. لنرصد مشروعك "المسرح للجميع"، هل جاء على غرار مشروع "القراءة للجميع" من حيث طبيعته وفلسفته؟ - كانت الفلسفة الاولى لهذا المشروع ان المسرح المكتوب ظل حكراً على فئة المثقفين، واردت أن يكون المسرح في متناول الجميع حيث يتجاور المثقف مع الأمّيّ ومع متوسط الثقافة، وجميعهم يتواصلون مع العرض. أغلى تذكرة في مسرحي سعرها مئة جنيه وأقل تذكرة ثمنها عشرة جنيهات قياساً بأسعار المسارح الاخرى والتي يبلغ ثمن أرخص تذاكرها 50 جنيهاً وأغلاها 250 جنيهاً. أنا لا أنفي ان هناك خسارة مادية غير اننا كسبنا القطاع الأعظم من الجمهور الحقيقي المتعطش لمسرح حقيقي ومحترم. "لعبة الست" عمل مصري من تراث الريحاني وبديع خيري و"سكة السلامة" من تراث سعد وهبة، و"كارمن" و"ملك سيام" من التراث الغربي، ما الفلسفة المسرحية والمحور العام والقاسم المسرحي المشترك بين هذه الأعمال؟ - المحور العام كان رؤيتي لمفهوم الحرية عبر أربعة اسئلة مسرحية هي في جوهرها هذه العروض الاربعة، وانما حينما اناقش الناس مسرحياً اناقشهم في ما يرويدونه لا في ما أريد أنا. كما أنني اهتم دائماً بما يحتاج الناس ان يفكروا فيه وليس في ما يحتاجون ان يشاهدوه. لنبدأ ب"لعبة الست" وطرحك مفهوم الحرية فيها؟ - كان مدخلي إلى مفهوم الحرية هو السعادة، من خلال طرح اسئلة عن مفهوم السعادة هل معنى السعادة ان تكون ثرياً او مشهوراً او حاكماً او محبوباً؟ اجبت على هذه الاسئلة بأنه لا يمكن للانسان ان يكون سعيداً دون ان يكون حراً إذن فالحرية هي المفتاح الحقيقي للسعادة. وماذا عن طبيعة طرحك مفهوم الحرية في "سكة السلامة"؟ - في هذا العمل طرحت سؤالاً عن الفهم الملتبس لمفهوم الحرية في مواجهة حرية الآخرين، وهو اين تقف حريتك وما حدودها؟ وقلت إن حرية الانسان تقف عند حدود حرية الآخرين ولا بد - لكي تشعر بحريتك - ان تشعر بحرية الاخرين أولاً. ولكن من يشاهد "لعبة الست" و"سكة السلامة" سيكتشف انك طرحت فيهما اسئلة أخرى عن التطبيع، ولا سيما بعدما شاهدنا هرولة عدد من النخب تجاه التطبيع، فكيف تمّ صوغ هذه الاسئلة في سياق معالجتك المسرحية لها؟ - في "لعبة الست" طرحت الأكذوبة التاريخية عن ايخمان اليهودي الذي باع اليهود للألمان، واستثمرتها لمصلحة التأكيد على الرؤية المسرحية التي سعت لإثارة الاسئلة القديمة، وصولاً إلى إجابات معاصرة. فكما رأينا ايزاك اليهودي المصري في فيلم الريحاني الذي قام به سليمان نجيب والذي ترك المحل للموظف المصري خوفاً من زحف الالمان الى أن وصلوا للعلمين، ومع احتفاظي بهذه التفاصيل اضفت شخصية ثانوية للنص، وهي شخصية راشيل التي تمثل الاتجاه الصهيوني في المسألة. أما ايزاك الذي ولد وتربى في مصر ويحبها ويعيش في تآلف وطمأنينة كواحد من أهلها ولا يريد ان يهجر مصر ليعيش في أرض الميعاد والوطن الموعود التي تغريه راشيل، ويقول لها لماذا أترك وطني لأعيش في أرض مسروقة. غير أنه في النهاية يترك المحل لحسن ابو طبق قائلاً له انه ربما لا يراه مرة اخرى، وانه لا يعرف كيف سيكون رأي اولاده فيه، وأنه لو رآه حسن ابو طبق مرة اخرى ربما يقتله فيقول له حسن: كيف اقتلك؟ فيقول له ايزاك: اذا سرق احد ارضك فماذا تفعل معه، فقال له حسن: سأقتله وأولادي من بعدي سيقتلون وستكون وصيتي لاحفادي ألا يضعوا ايديهم في يده. كانت هذه الرؤية بمثابة إعلان موقف. اما في "سكة السلامة" فلما عرضت على الراحل سعد الدين وهبة شراءها اشفق عليّ وقال ماذا ستفعل فيها بعدما حققته من نجاح فقلت له انني سأضيف لها بعض عبارات جديدة تضفي عليها رونقاً جديداً وبعداً جديداً. وفي سياق طرح فكرة التطبيع غيرت اتجاه رحلة الحافلة فبدلاً من أن تضل الطريق في مرسى مطروح جعلتها تضل الطريق في سيناء. فالصحافي لدى سعد الدين وهبة كان وراء الاحداث حيث كان يريد الوصول الى مرسى مطروح بدلاً من الاسكندرية مع اضافتي. فقد كان الصحافي يريد الوصول الى القدس لحضور مؤتمر السلام. ولما عرف المسافرون ما خطط الصحافي لوقوعه سألوه بل اعترضوا على ذهابه باعتباره لا يعبّر عن رأي الجماعة. لنعد الى المشترك العام للأعمال الأربعة أو كما تحب ان تسمّيها كلمة السر والمفتاح السحري للعروض الأربعة، وهو مفهوم الحرية، كيف طرحته في "كارمن" و"ملك سيام"؟ - في "كارمن" سؤال يقول هل الحرية المطلقة التي يريد الجميع الوصول اليها تحتاج احياناً لديكتاتور يكبح جماحها؟ أم ان وجود الديكتاتور هو الذي يدفع الناس للمطالبة بمزيد من الحرية الى ان يصلوا الى الغوغائية؟. وفي "ملك سيام" كان السؤال هل الأمية والجهل يتعارضان مع الحرية؟ وهل تستطيع أن تكون حراً ومدركاً مفهوم الحرية وأنت جاهل أو أمّي؟ لكنني أود ان أضيف في هذا السياق وليس من حرج، أنني أقدم مسرحاً عالمياً برؤية مصرية وبمعالجة مسرحية إخراجاً وتأليفاً وطرحاً. في "لعبة الست" كان يقوم ببطولة العمل السينمائي القديم لها والمسرح ايضاً ابو الكوميديا المصرية "نجيب الريحاني" فكيف أمكنك الافلات من تأثيره الطاغي ولم تقع في مأزق تقليده؟ - باختصار أردت ألا أتحداه فأكون صفيقاً، لكنني تناغمت معه ولم أقلده، نقلت روحه بنسبة 80 في المئة حتى أن عدداً كبيراً من النقاد كتبوا في مقالاتهم النقدية على سبيل الإجماع انني كنت أخرج من الريحاني ثم أعود، وأما نجاتي من مأزق التقليد فكانت بسبب تراكماتي الخاصة.