كان للأزهر الشريف دور مهم في النهضة العلمية التي راجت في مصر عقب سقوط بغداد بأيد التتار سنة 656 ه حيث وفد إليها العديد من فحول العلماء كابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه، والمقريزي المتوفى سنة 854 ه، والعيني المتوفى سنة 855 ه، والسخاوي المتوفى سنة 902 ه، والسيوطي المتوفى سنة 911 ه ... وغيرهم من كبار العلماء، وأئمة الفقه والتفسير والحديث. وبطبيعة الحال؛ كان الأزهر يقوم بدوره هذا في النهضة إلى جانب العديد من المدارس المصرية التي أنشأها سلاطين مصر آنذاك: كالمدرسة الناصرية، والكاملية، والشيخونية، والبرقوقية، والمؤيدية، والأشرفية، والظاهرية، وغيرها من المدارس التعليمية التي راجت واشتهر أمرها وقتذاك. لكن سرعان ما ضعفت الحركة العلمية بمصر عقيب سقوط دولة المماليك بيد السلطان العثماني سليم سنة 922 ه، حيث تحولت مصر إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية التركية، وأصبحت اللغة التركية لغة الدواوين الرسمية لدرجة أنها غلبت على لغة الكتابة والتأليف. ومع ذلك؛ بقي الأزهر - على رغم هذا الضعف- يحتفظ بمكانته في العالم الإسلامي حيث لم يبق غيره موئلاً للعربية وعلومها فطار بهذا صيته في الآفاق وقصده طلاب العلم من شتى البقاع. على أنه سرعان ما عاد الأزهر لطور الانحطاط مجدداً حيث أخذ في الضعف منذ استولت الدولة العثمانية التركية على مصر ونتيجة لذلك لم يأت عليه القرن الثاني عشر الهجري حتى كان قد انقطعت صلته بماضيه المجيد. وتبعاً لذلك، لم يكن يُدرّس فيه إلا قليل من العلوم الدينية وقليل من علوم العربية أيضاً. فلما كانت سنة 1161 ه عينت الدولة العثمانية والياً على مصر، هو أحمد باشا المعروف بكور وزير، وكان مهتماً بالعلوم الرياضية في الوقت الذي كان الشيخ عبد الله الشبراوي شيخاً للأزهر. واستغل الوالي الجديد من فوره زيارة الشيخ الشبراوي له مع وفد من علماء الأزهر قصد تهنئته وطرح رؤيته الخاصة بإدخال العلوم الرياضية ضمن المناهج الأزهرية. غير أنهم أجابوه جميعاً: لكننا لا نعرف مثل هذه العلوم. فلما سمع منهم ذلك بلغ به العجب مبلغه، ولكنه أضمر عجبه في نفسه، ولم يشأ أن ينبههم إلى تقصيرهم في هذه العلوم لأول اجتماعه بهم. وفي إحدى المرات دار بينه وبين الشيخ الشبراوي حديث قال فيه للشيخ: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعبدي خيرٌ من أن تراه! فقال له الشيخ: هي يا مولاي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف. فقال الباشا: وأين هي؟ وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئاً، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول/المنطق والتوحيد والوسائل/النحو والصرف، ونبذتم المقاصد! هنا اعتذر الشيخ الشبراوي عن إهمال العلوم الرياضية بحجة أن معرفتها من فروض الكفاية، وأنها تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق، فتندر فيهم القابلية لذلك. ثم دله على الشيخ حسن الجبرتي، والد عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ، وطلب منه أن يكتب إليه رسالة مع بعض خواصه ففعل فحضر إليه الجبرتي ولما سأله عن تلك العلوم وجده يحسن معرفتها فسر به سروراً عظيماً وكان يكثر من الاجتماع به ليذاكره فيها ويناقشه في مسائلها. إلا أنّ الأمر، اعني الرغبة في إصلاح الأزهر، بقي عند هذا الحد حيث اكتفى الوالي بالشيخ حسن الجبرتي واكتفى الشيخ الشبراوي بإرشاده إليه على رغم أنها كانت فرصة سانحة لإصلاح الأزهر لو اتفق فيها الرئيس المدني والرئيس الديني على خطة للإصلاح، فيما يؤكد الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه «تاريخ الإصلاح في الأزهر وصفحات من الجهاد في الإصلاح». ثم حدث بعد ذلك أن أهمل الأزهر الاعتبار بالحملة الفرنسية سنة 1213 ه مع ما جرى فيها من حوادث توقظ النائم وتنبه الغافل حيث مكث الفرنسيون في مصر ثلاث سنين أظهرت للمصريين من آثار العلم الحديث ما أظهرت، كالمطبعة وتجارب الطيران، ومع ذلك لم يحرك هذا الحدث ساكناً من جمهرة شيوخ الأزهر ولم ينبههم إلى التقصير الذي نبههم إليه الوالي في العلوم الرياضية وما إليها من العلوم. وسرعان ما مرت الأيام وأهمل الأزهر الاعتبار بنهضة محمد علي باشا الذي تولى مصر سنة 1220 ه واستمرت هذه النهضة ستاً وأربعين سنة (من 1220 إلى 1266 ه). فقد أدرك محمد علي - على رغم أميته - ما يتهدد المسلمين إذا ما استمروا على غفلتهم، ولم يأخذوا بتلك الأسباب التي نهضت بأوروبا، ووصلت بها إلى تلك القوة الهائلة. كما نبه الشيخ حسن العطار أيضاً إلى إهمال الأزهر تلك الأحداث، مدركاً الخطر الذي يتهدد الأزهر ويحيق به إن هو تقاعس عن المضي قدماً في طريق الإصلاح. ومن ثم، لما دخل الفرنسيون مصر لم يقصر الشيخ في الاتصال بعلمائهم كما قصّر أهل الأزهر، ولم يقعد عن البحث في سر نهضتهم وقوتهم كما قعد أهل الأزهر. فلما تولى محمد علي حكم مصر اتصل به الشيخ العطار وولي مشيخة الأزهر في عهده من سنة 1246 إلى 1250 ه وهي السنة التي توفي فيها. على أن أفق الإصلاح عنده قد أخذ في الاتساع حتى شمل كتب الأقدمين والمحدثين على السواء. ثم أهمل الأزهر مرة ثالثة الاعتبار بالإصلاحات التي قام بها إسماعيل باشا بعد وفاة محمد علي سنة 1266 ه. وكانت ولاية إسماعيل سنة 1279 ه حيث أعاد فيها مرة ثانية سيرة جده محمد علي باشا وعمل على أن يصل بمصر إلى ما وصلت إليه أوروبا في عصره. بل إن أغلب رجال ألأزهر أخذوا ينظرون بعين العداء إلى المدنية الأوربية وإلى العلوم التي قامت هذه المدنية على أساسها إلى أن قام بمهمة الإصلاح رجلان: أحدهما كانت له صلة قديمة بالأزهر ثم انقطعت صلته به، وهو رفاعة الطهطاوي، وثانيهما لم يكن له صلة بالأزهر، بل لم يكن من أهل مصر، ألا وهو جمال الدين الأفغاني. أما رفاعة فقد كان تلميذاً للشيخ حسن العطار ثم سافر فى بعثة علمية إلى فرنسا، فدون كل ما رآه هناك عملاً بنصيحة شيخه العطار الذي نصحه بأن يعنى بدراسة العلوم التي نبغ فيها الفرنسيون وكانت سبب قوتهم ونهضتهم وأن يقوم بنقلها إلى العربية فيستفيد أهلها منها، وينهضوا بها كما نهض أهل أوروبا. فبعد رجوعه من فرنسا حاول رفاعة إقناع الأزهريين بضرورة إصلاح الأزهر، كما حاول حمل الخديوي إسماعيل وحكومته على الالتفات إليه، ولكنه حصر الإصلاح في إدخال العلوم العصرية في الأزهر، ولم يعب على الأزهريين اقتصارهم على كتب المتأخرين وإهمالهم كتب المتقدمين، كما فعل شيخه العطار الذي جعل الإصلاح شاملاً للأمرين معاً. أما جمال الدين الأفغاني، فقد انتقل إلى مصر سنة 1286 ه وتردد على الجامع الأزهر ثم غادرها إلى الآستانة وعاد إليها ثانية في أوائل العام 1288 ه. وفي سنة 1281 ه تولى الشيخ مصطفى العمروسي منصب شيخ الأزهر فعمل على أخذ الأزهريين بشيء من الحزم واهتم بإبطال بدع دينية كثيرة كطلب الصدقة بقراءة القرآن في الشوارع، ومنع بعضاً ممن يشتغلون بالتدريس من آداء مهمتهم لعدم صلاحهم، وعزم على أن يضع اختباراً لمن يرغب في الاشتغال بالتدريس في الأزهر...إلخ، إلا أنه عزل من منصبه سنة 1287 ه قبل أن يتمكن من ذلك. بعد ذلك تولى الشيخ محمد المهدي العباسي منصب شيخ الأزهر فمضى في تنفيذ ما عزم عليه الشيخ العمروسي من وضع الامتحان كأول خطوة عملية لعلاج الفوضى التي عمت الأزهر آنذاك. ولما احتل الإنكليز مصر سنة 1299 ه ولم يبق لتوفيق باشا وحكومته إلا الأزهر والمعاهد الدينية والمحاكم الشرعية والأوقاف الخيرية والأهلية، أخذ أولو الأمر بالإصلاح الديني الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني سبيلاً لنهضة مصر. في هذا الأثناء أفتى الشيخ محمد الأنباني في غرة ذي الحجة سنة 1305 ه بجواز تعلم العلوم الرياضية ووجوب تعلم ما تتوقف عليه منها مصلحة دينية أو دنيوية وجوباً كفائياً. ثم أقنع الشيخ محمد عبده عباس باشا الثاني الذي تولى الأمر في مصر بعد وفاة أبيه توفيق باشا سنة 1309 ه بضرورة إصلاح كل من: الأزهر، والمحاكم الشرعية، والأوقاف، لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة تشمل إصلاح التربية والتعليم، وإصلاح المساجد والإرشاد، وإصلاح البيوت. وقد نتج من تلك المحاولات أن توصل إلى إنشاء قانون تمهيدي للإصلاح، يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر الشريف، بالإضافة إلى عضوين ممثلين للحكومة لا رأي لشيخ الأزهر ولا للمجلس في انتخابهما ولا في استبدال غيرهما بهما وهما: الشيخ محمد عبده، وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان. وكانت أولى الخطوات العملية في هذا الشأن هي تعيين الشيخ حسونة النواوي وكيلاً لشيخ الأزهر سنة 1312 ه [الأنباني] الذي عجز عن العمل لكبر سنه فكثرت الشكاوى بسبب ضعف إدارته. كما سعت الحكومة في حمل الشيخ الأنباني على الاستقالة فتقدم بها لكن معارضي الإصلاح قدموا عريضة احتجاج إلى الخديوي يطلبون منه فيها ألا يقبل استقالته وكاد الخديوي أن يفعل لولا أن نصحه أحد أنصار الإصلاح بأن يُراجع أسماء المتقدمين بالعريضة وأسماء الذين كانوا يقدمون الشكاوى في الشيخ الأنباني بسبب عجزه عن إدارة الأزهر فلما راجعها وجدها تكاد تكون متطابقة!! فلم يلتفت إلى عريضتهم وعين الشيخ حسونة في منصب شيخ الأزهر في اليوم الثاني من محرم سنة 1313 ه. ويذكر أن أول ما قام به مجلس إدارة الأزهر الذي عقد أول اجتماع له في السادس عشر من رجب سنة 1312 ه، هو وضع قانون لضبط مرتبات أهل العلم وتوزيعها عليهم، وقد أقرته الحكومة في السادس عشر من محرم سنة 1313 ه فتحسنت بذلك حال الأزهر، وكان كثير منهم بلا راتب أصلاً! ثم عمل على إلحاق التعليم في الجامع الأحمدي بطنطا والجامع الدسوقي بدسزق بالجامع الأزهر، وكذلك التعليم بجامع دمياط. وقد وحّد بذلك التعليم الديني في هذه المعاهد ليدخل ما يريده من الإصلاح عليها كلها. فلما توجه أعضاء المجلس لمناقشة المسألة الأهم، وهي المتعلقة بإصلاح نظام التعليم، أعلن الشيخ محمد عبده رغبته في أن يكون الإصلاح كلياً وشاملاً يقضي على كل أثر للجمود في الأزهر، فلم يوافقوه على ذلك لأنهم أرادوا الأخذ بالتدرج في الإصلاح. ومن ثم، تم وضع قانون بخصوص هذا الأمر اشتمل على اثنتين وستين مادة موزعة على ستة أبواب وقدم للخديوي الذي أقره في اليوم العشرين من محرم سنة 1314 ه. ومع ذلك؛ فإنّ هذا الإصلاح الذي تم بسعي من الشيخ محمد عبده - وقد مكث عشر سنوات يتعهده ويرعاه - لم يكن في نظره كافياً لاجتثاث الجمود والتخلف من جذوره. ولا أدل على ذلك من قوله: «إني بذرت في الأزهر بذراً إما أن ينبت ويثمر ويؤتي أكله المغذي للروح والعقل، فيحيا به الأزهر حياة جديدة، وإما أن يقضي الله على هذا المكان قضاءه الأخير، وقد نبت ذلك البذر فصار زرعاً أخرج شطأه، ولكن قل من يتعهده بالسعي ومنع الحشرات الضارة ليستوي على سوقه ويؤتي أكله». وفي المحصلة، دخل الأزهر من سنة 1314 ه حياة جديدة بفضل مجلس الإدارة وبفضل القانون الذي وضع له في هذه السنة. لكن الشيخ حسونة اعترض على تنفيذ بعض البنود الجديدة التي أقرها المجلس فقدم استقالته سنة 1317 ه، فضلاً عن معارضته الحكومة منع الحج سنة 1316 ه بسبب انتشار الوباء في أرض الحجاز، كما عارض الحكومة أيضاً بسبب رغبتها تعيين قاضيين أهليين عضوين في المحكمة الشرعية العليا. وقد أدى ذلك كله إلى اعتزاله منصبه في أواخر محرم 1317 ه حيث كان يجمع بين منصب شيخ الأزهر ومنصب مفتي الديار المصرية. على إثر ذلك وقع اختيار الحكومة على الشيخ عبد الرحمن قطب لمنصب شيخ الأزهر، والشيخ محمد عبده لمنصب المفتي. فلما أدركت الوفاة الشيخ قطب سارع الخديوي بتعيين الشيخ سليم البشري في منصب شيخ الأزهر فعطل الأخير أعمال الإصلاح لأنه كان من أعداء النظام الجديد الذي دخل الأزهر. ثم حدث منه ما أغضب الخديوي فاعتزل منصبه في أواخر ذي القعدة سنة 1320 ه واختار بدلاً منه السيد عليّ الببلاوي الذي نهض بالنظام الجديد من عثرته، كما فعل الشيخ حسونة من قبل. ولكن الخديوي لم يلبث أن غضب على الشيخ محمد عبده، كما أخذ يقرب منه أعداء الإصلاح حتى ضاق السيد علي الببلاوي بمنصبه فاستقال منه في التاسع من المحرم سنة 1323 ه. ومن ثم اختار الخديوي الشيخ عبد الرحمن الشربيني بدلاً منه فرأى محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان أن ليس بمقدورهما أن يستمرا في عملهما معه! فاستقالا من مجلس الإدارة بعد تعيينه بستة أيام! بعد ذلك عمت الشكوى الأزهر فاستقال الشربيني من منصبه وعاد الشيخ حسونة مرة أخرى ولكن بوفاة الشيخ محمد عبده في جمادى الأولى سنة 1323 ه نامت بموته فكرة الإصلاح ولم يبق منه إلا الاهتمام بإصلاح الأمور الشكلية على النحو الذي برز ضمن تضاعيف نظام سنة 1326 ه/ 1908م. على كل حال، سرعان ما عمت الشكوى الأزهر من النظام الجديد وعاد معارضو الإصلاح إلى الواجهة مرة أخرى بعد عودة الشيخ سليم البشري وتعيينه شيخاً للأزهر سنة 1327 ه مما دفعه لإصدار قانون سنة 1329 ه الذي اقترح فيه إنشاء هيئة لكبار العلماء، ثم خلفه الشيخ أبو الفضل الجيزاوي فاستمر على معاداة النظام الحديث هو الآخر. وفي أوائل سنة 1342 ه نشر الشيخ عبد المتعال الصعيدي كتابه «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف» وكان قد شرع في تأليفه وأتمه في أول عهده بالتدريس في الجامع الأحمدي سنة 1336 ه/1918، فعوقب بسبب ذلك بقطع خمسة عشر يوماً من الراتب. كما اشتدت مطالبة الطلاب بإصلاح النظام الحديث بعد قيام الحكم الدستوري، وفي عهد وزارة سعد زغلول، إلا أنه تباطأ في القيام بذلك بحجة أنّ الذين يطالبونه بالإصلاح هم طلاب الأزهر لا شيوخه، وأنه لا يمكنه القيام بهذا الإصلاح إلا إذا اتفق عليه الشيوخ والطلاب معاً! بخاصة أن الأزهر والمعاهد الأزهرية كانت تابعة للملك في هذا الوقت ولم يكن لمجلس الوزراء سلطة عليها. وفي عهد وزارة محمد زيور باشا التي قامت بعد وزارة سعد شرعت في إجابة مطالب الطلبة فأصدرت نظام سنة 1343 ه الذي تم إلغاؤه لاحقاً لأسباب سياسية حيث عمل سعد زغلول، الذي تولى رئاسة مجلس النواب في عهد حكومة عدلي يكن، على إبطال هذا النظام لكونه لم ينس وقوف الطلاب إلى جانب وزارة محمد زيور باشا التي استقالت في 26 ذي القعدة 1344 ه - 7 حزيران (يونيه) سنة 1926 م. ومن ثم، اتفق هو والحكومة على إبطاله بحجة أنه وضع في غيبة مجلس النواب ومجلس الشيوخ فأبطل العمل به أوائل سنة 1345ه. وبعد وفاة الشيخ الجيزاوي تولى المنصب من بعده الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي كان تلميذاً للشيخ محمد عبده فأخذ عنه عقيدة الإصلاح، فعزم على تجديد الأزهر وكان أول ما قام به في هذا السياق أن وضع مذكرة تشتمل على أصول الإصلاح، وقد انتهى منها في محرم سنة 1347 ه مؤكداً استكانة علماء الأزهر إلى الدعة والراحة، وأن الجهود التي بذلت في إصلاح الأزهر منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وأنه قد صار من الحتم لحماية الدين - لا لحماية الأزهر- أن يغيَّر التعليم في المعاهد الدينية، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يُبَالى بما تحدثه من ضجة وصراخ. وقد ألفت الحكومة لجنة تضع إصلاح الأزهر على هذا الأساس (مذكرة المراغي) برئاسته وبعضوية كل من: عبد الفتاح صبري وكيل وزارة المعارف، ومحمد خالد حسنين مفتش العلوم الحديثة بالأزهر، والشيخ عبد العزيز البشري سكرتير وزير المعارف. وقد انتهت من وضع نظام للتعليم في ربيع الأول سنة 1347 ه ثم قدمته إلى الحكومة التي عارضته ما دفع الشيخ المراغي إلى تقديم استقالته في جمادى الأولى سنة 1348 ه ليتولى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري المنصب من بعده. ومع أن الشيخ الظواهري من أنصار الإصلاح، بل إنه ألف كتاباً في ذلك سنة 1322 ه بعنوان «العلم والعلماء ونظام التعليم»، إلا أنّ رأيه في الإصلاح كان دون رأي الشيخ محمد عبده والشيخ المراغي لأنه يقف فيه عند حد تهذيب الكتب وطرق التدريس ولا يصل فيه إلى فتح باب الاجتهاد في العلم والدين كما الشأن عند الشيخين عبده والمراغي. فضلاً عن أنه كان يحبذ مداراة أهل الأزهر في ما يتعلق بمسألة الإصلاح. فلما صار شيخاً للأزهر نظر في وجوه الإصلاح التي كان يريدها المراغي فحذف منها ما أثار عليه سخط أهل الأزهر، وأبقى منها ما عداها من وجوه الإصلاح. ومع ذلك لم يسلم الشيخ الظواهري من أهل الأزهر الذين ثاروا عليه بسبب فصله سبعين عالماً من وظائفهم، وكان من بينهم علماء لم يكن فصلهم إلا بسبب غضب الوزارة عليهم! وقد مكثت هذه الثورة تزداد عنفاً إلى أن حملته على الاستقالة سنة 1354 ه- 1935م وعودة الشيخ المراغي إلى منصبه الأول غير أنه سار على منوال الشيخ الأحمدي ونظامه الذي وضعه سنة 1355 ه ولم يحدث فيه تغييراً يذكر آثراً ملاينة أهل الأزهر، ومحاولة ارضائهم!! ومع ذلك فأنه قد لقي منهم مناوأة لم يلقها في عهده الأول حتى توالت الفتن إذا تمكن من تهدئة فتنة قامت أخرى أنكى منها وأشد إلى أن توفي سنة 1364 ه/ 1945م فخلفه الشيخ مصطفى عبد الرازق في منصبه. وفي المحصلة كان المراغي سنة 1928 يريد إصلاح الأزهر والنهوض به حتى ولو غضب الأزهريون، فإذا به سنة 1935 يريد إرضاء الأزهريين حتى ولو فسد الأزهر!! ومع أن تعيين الشيخ مصطفى عبد الرازق لم يلق قبولاً من جانب كبار العلماء، إلا أنه استطاع استمالة بعضهم وإقناع البعض الآخر بضرورة المضي قدماً في طريق الإصلاح. وبعد وفاة الشيخ عبد الرازق، مكث الأزهر مدة من غير أن يعين شيخ له، إلى أن تم تعيين الشيخ محمد مأمون الشناوي في السابع من ربيع الأول سنة 1367 ه/ 8 يناير 1948 فقضى على الفتنة الطائفية التي عمت بين أبناء مصر السفلى وأبناء مصر العليا. وقد مكث في منصبه إلى أن توفي في الثاني من ذي الحجة سنة 1369 ه- 14ايلول(سبتمبر) 1950وكان من معارضي الإصلاح فلم يتم شيء في عهده إلى أن خلفه الشيخ عبد المجيد سليم في 25 ذي الحجة 1369 ه بأمر من الملك فاروق، فتجددت بتعيينه آمال قوية في الإصلاح، لأنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده ممن اشتغلوا بالقضاء كالشيخ المراغي، وكان آخر عمله في الإصلاح تأليف لجنة للتقريب بين المذاهب الإسلامية. فهل ينهض شيخ الأزهر الجديد، الدكتور أحمد الطيب، بعبء استكمال مسيرة الإصلاح والتجديد في الأزهر الشريف: جامعاً وجامعة والتي بلغت ذروة نضجها على يد الأستاذ الإمام محمد عبده (ت1905)؟ وهل يعيد للأذهان مرة أخرى سيرة المصلحين المجددين أمثال الشيخ المراغي ومصطفى عبد الرازق وغيرهما ليتبوأ الأزهر مكانه اللائق به، وبما يتناسب مع مكانته وتاريخه العريقين؟ في اعتقادي أن ذلك يبقى إلى حد بعيد رهناً بوفاء شيخ الأزهر الجديد لخط الإصلاح والتجديد من جهة، واستقلال المؤسسة الأزهرية عن مؤسسة الرئاسة من جهة أخرى. * كاتب من مصر.