مما لا شك فيه أنه كان للأزهر الشريف دور كبير ومهم في إحداث النَّهضة العلمية التي راجت في مصر عقب سقوط عاصمة الخلافة العباسية بغداد بأيدي التتار سنة 656ه/ 1258م، حيث وفد إليها العديد من فحول العلماء كابن حجر العسقلانيِّ المتوفَّى سنة 852ه، والمقريزيِّ المتوفَّى سنة 854ه، والعَيْنيِّ المتوفَّى سنة 855ه، والسَّخاويِّ المتوفَّى سنة 902ه، وغيرهم من كبار العلماء، وأئمة الفقه والتَّفسير والحديث بصفة خاصة. وكان الأزهر الشريف يقوم بدوره هذا في النّهضة العلمية إلى جانب العديد من المدارس المصرية التي أنشأها سلاطين مصر على مر العصور: كالمدرسة النَّاصرية؛ نسبة إلى النَّاصر صلاح الدِّين الأيوبيِّ، والمدرسة الفاضلية؛ نسبة إلى القاضي الفاضل الذي أنشأها سنة 580ه وكان في مكتبتها مئة ألف كتاب مجلَّد، والمدرسة الكاملية؛ نسبة إلى الملك الكامل الذي أنشأها سنة 621ه وكانت تُسمَّى بدار الحديث، والمدرسة الصالحية؛ نسبة إلى الملك الصالح الذي أنشأها سنة 639ه، والمدرسة الشَّيخونية، والمدرسة البرقوقية، والمدرسة المؤيَّدية، والمدرسة الأشْرفية، والمدرسة الظَّاهرية، وغيرها من المدارس التَّعليمية التي راجت واشْتُهِر أمرُها. لكن سُرعان ما ضعُفت الحركة العلمية به عُقيب سقوط دولة المماليك بيد السُّلطان العثماني سليم شاه بن عثمان سنة 922ه، حيث تحولت مصر إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية التركية ابتداء من العام 923 حتى 1220ه، وأصبحت اللغة التركية لغة الدواوين الرسمية لدرجة أنها غلبت على لغة الكتابة والتأليف، كما انصرف أبناء الأزهر عن العلوم العقلية والرياضية، وأخذ القول بحرمتها يقوى شيئاً فشيئاً، إلى أن صدرت أخيراً فتوى من شيخ الأزهر الإنبابيّ والشَّيخ محمَّد محمَّد البنا، المفتي، بجواز تعلُّمها وعدم حرمة تدريسها. ووفق ابن إياس في بدائع الزهور؛ فقد قام العثمانيون بنفي مئات من أكابر العلماء المصريين إلى القسطنطينية؛ كالقاضي شمس الدِّين الحلبي أحد نواب الشَّافعية الذي يذكر عنه ابن إياس أنَّه «قاسَى من العثمانية غاية البهْدلة من الضَّرب والصكِّ وأنزلوه المركب على رُغْم أنفِه، وخرج القاضي زين الدِّين الشَّارنقاشِيّ أحد نوَّاب الحنفية ...». ويُعقِّب ابن إياس على نفي العلماء بالقول: «وكانت هذه الواقعة من أبشع الوقائع المنكرة التي لم يقع لأهل مصر قطّ مثلها فيما تقدَّم من الزَّمان، وهذا عبارة عن أنه أسَر المسلمين ونفاهم إلى إسطنبول». وتبعاً لذلك، فترت همَّة المتأخرين من العلماء عن التأليف، فعمدوا إلى مصنَّفات السَّلف وشرحوها، ثم عمدوا إلى الشروح فشرحوها، وسمُّوا ذلك حاشية، ثم عمدوا إلى الحواشي فشرحوها، وسمُّوا ذلك تقريراً، فتحصَّل عندهم: متْنٌ هو أصل المصنِّف، وشرْحٌ على ذلك المتن، وشرحُ شرْحٍ، وشرحُ شرْحِ شرحٍ!! وعلى هذه الشُّروح المتأخرة زمنياً، والمُنْتَجَة في مراحل الانحطاط حضارياً، تدور رُحى مناهج التَّعليم الدِّيني في الأزهر إلى يومنا هذا. وأبلغ مثال على ذلك كتاب: «متن الغاية والتَّقريب» لأبي شجاع المتوفَّى سنة 493ه؛ فقد وضع له المصنِّف شرحاً بعنوان: «النِّهاية»، ثمَّ شرَحَهُ ثانياً ابن قاسم الغَزِّي المتوفَّى سنة 918ه، بعد نحو خمسة قرون من وفاة المصنِّف، ثم وضع بُرهان الدِّين البرماويّ المتوفَّى سنة 1160ه حاشيةً على شرح الغزِّي، ثمَّ في القرن الثالث عشر الهجريِّ وضع الشَّيخ الباجوريّ المتوفَّى سنة 1276ه حاشية أخرى. وأخيراً وضع الشَّيخ الإنبابيّ المتوفَّى سنة 1313ه/ 1896م تقريراً على حاشية البرماوي على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع! وبهذا يفصل بينه وبين المصنِّف الأول، أبو شجاع، نحو تسعة قرون، وبينه وبين الشَّارح الثاني ابن قاسم الغزِّي أربعة قرون، وبينه وبين البرماوي قرنان من الزمان! على أنَّ الانعطافة الأولى - في سياق تحديث المؤسَّسة الأزهرية - إنما وقعت سنة 1161ه/ 1748م عندما عيَّنت الدَّولة العثمانية والياً على مصر، هو أحمد باشا المعروف بكُور وزير والذي حكم ما بين سنتي 1161 – 1163ه. وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرِّياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت؛ وهم: الشَّيخ عبد اللَّه الشَّبراوي، شيخ الجامع الأزهر، والشَّيخ سليم النَّفراوي، والشَّيخ سليمان المنصوريّ، فتكلَّم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلَّم معهم في الرِّياضيات فأحْجموا وقالوا: لا نعرف هذه العلوم. فتعجَّب وسكت. فقال للشَّيخ الشَّبراوي: المسموعُ عندنا بالدِّيار الرُّومية أنَّ مصر منبعُ الفضائل والعلوم، وكنتُ في غاية الشَّوق إلى المجيء إليها، فلما جِئْتُها وجدتُها كما قيل: تَسْمع بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه!». ودار بينهما حوار طويل نقله الجبرتي في «عجائب الآثار»، عاب فيه الوالي على علماء الأزهر اقتصارهم على تحصيل الفقه المنقول ونبذهم المقاصد، وعدم اشتغالهم بعلوم الرِّياضيات؛ إلَّا بقدر الحاجة الموصِّلة إلى علم المواريث والفرائض، وانتهى الأمر بترشيح والد الجبرتي الذي أخذ يتردَّد على الوالي يومين في الأسبوع، فَسُرَّ به الوالي ومدَحه قائلاً: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني». أمَّا الشَّيخ الشَّبراوي، فكان كلَّما التقى والد الجبرتي يقول له: «ستركَ اللَّه كما سترْتَنا عند هذا الباشا؛ فإنَّه لولا وجودك كنَّا جميعاً عندَه حميراً»! إلا أنَّ الأمر لم يزد عن هذا الحد؛ أعني الرَّغبة في إصلاح الأزهر، إذ لم يتجاوز رغبة الوالي الجديد في التَّطلع إلى من يُشاركه اهتماماته العلمية من جانب، ورغبة شيخ الأزهر في حفظ ماء وجه العلماء من جانب آخر! حيث اكتفى الوالي بالشَّيخ حسن الجبرتي واكتفى الشَّيخ الشبراوي بإرشاده إليه! على رغم أنَّ الفرصة كانت سانحة لإصلاح الأزهر، اتفق فيها الرئيس المدنيُّ والرئيس الدِّيني على نقص التعليم فيه، فلو تعاونا على إصلاحه لكان نجاحهما فيه مكفولاً، ولأدركا الإصلاح قبل أن يفوت أوانه!