قيل في رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود بارك انه من اذكى الاسرائيليين، وهو الجندي الذي قُلِدَ ميداليات عسكرية اكثر من اي اسرائيلي حي أم ميت. وباراك معنى الاسم بالعبرية "البرق" استطاع ان يخترق الحياة السياسية الاسرائيلية من خلال السنوات الخمس الماضية بسرعة هائلة ليصبح زعيم حزب العمل ومخلّصه في الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة، بعد ان كان شغل منصب وزير الداخلية في حكومة رابين ووزير الخارجية في حكومة بيريز، وأسس لنفسه سمعة بأنه رجل "صريح" و"صارم" و"مستقيم" و"صاحب صدقية" لطالما افتقدها الاسرائيليون في السنوات الاخيرة. وهو الذي اعتبر المعلّقون انه "يحمل رؤية سياسية بعيدة المدى"، وهو الجنرال ذو الغريزة السياسية، حتى ذهب البعض الى تلقيبه "رئيس وزراء السلام" خصوصاً لأنه بالمفهوم الاسرائيلي "صقر معتدل". واعتبر العسكري المخضرم انه قادر على هزم "حزب الله" في الوقت والمكان والاسلوب الذي يرتئيه وهو الذي سيحقق السلام للاسرائيليين في مواعيد محددة وعلى روزنامة عمل علّقها باراك في مكتب رئيس الوزراء. فجأة فقد الجنرال سحره، وفقد رئيس الوزراء باراك بسرعة البرق شعبيته التي انخفضت الى 45 في المئة، في حين اعتبر 73 في المئة من الاسرائيليين في آخر استطلاع انه "كاذب" قائلين انه كان يعرف الخروقات القانونية في حملته الانتخابية. نفض الساحر باراك منديله الابيض فلم يخرج منه لا أرنباً ولا سلاماً، بل وضاع المنديل، كما أشار احد المعلّقين الاسرائيليين هذا الاسبوع. وسقطت المواعيد، واختلّت رؤيته السياسية كما قالت "واشنطن بوست"، وعوضاً عن ان يختار متى وكيف سيهزم المقاومة اللبنانية، أفاق على نفسه، مثل الذين سبقوه، محاصراً هو وجيشه في مصيدة لبنان. وزاد الطين بلّة، ان الاقتصاد الاسرائيلي بعد تسعة شهور على انتخابه ما زال يعاني من ركود اقتصادي، والأجندة الداخلية تطفح بالقضايا التعليمية والاجتماعية التي اهملها باراك. فما هو التفسير، وايهما هو باراك الحقيقي؟ التفسير سهل على الذين يرفضون رؤية الازمة السياسية والطريق الاستراتيجي المسدود الذي وصلت اليه اسرائيل. فباراك، يقول هؤلاء، لربما ذكي ولكنه لا يعرف كيف يوزع المسؤوليات، ولهذا تتراكم القضايا الساخنة، فكان لا بد له من توزيع بعض المهام على المقرّبين منه. وبسبب طموحه فقد اخطأ حين قدم المسار السوري على الفلسطيني وحين اعتبر انه يستطيع ان يتعامل مع الاثنين سوياً، وكان عليه ان يعطي الاقتصاد والقضايا الاجتماعية التي تجاهلها نتانياهو بعض الاولوية في بعض الوقت. وهو اعتبر انه يستطيع في عالم السياسية ان يعمل بمقاييس عسكرية فحدد المواعيد ورسم الخطة ولم يقوّم جيداً الموقف العربي والاعتبارات العربية السياسية، ولهذا فشل. وهو لم يصارح الاسرائيليين بما هو متوقع منهم وما على اسرائيل ان تتنازل عنه في حال الوصول الى اتفاق، على رغم انه وعد باستفتاء على اي اتفاق، معتبراً انه يعرف افضل منهم مصلحة اسرائيل، وهذا مما جعلهم يديرون له ظهورهم في الايام الاخيرة. واخيراً فقد عبّر البعض عن دهشتهم لمحاولته توصيل رسالة الى الرئيس السوري حافظ الاسد من خلال الضربات "الهمجية" على المنشآت المدنية في لبنان في حين ان سورية لا تسمع جيداً من اذنها اللبنانية، مما يعني ان الارهاب الاسرائيلي في لبنان لن يجدي باراك نفعاً. ولكن التفسير الأبعد والأعمق لأخطاء باراك ولورطته في لبنان، وهي مصيدة وقع فيها عدد من الساسة الاسرائيليين قبله، من بيغن وشارون حتى بيريز، يتعدى رؤيته المحدودة سياسياً وشخصيته المنفردة والمنغلقة، وقلّة خبرته وهو الذي خدم 35 عاماً في الجيش و5 سنوات في السياسة، الى ازمة اوسع تعاني منها حكومته ودولته مع بدء مرحلة جديدة وحاسمة في مفاوضات التسوية. انها ازمة استراتيجية الامن الاسرائيلي. باراك لم يتغير، وانما اساليب العسكر لم تعد تنفع لحسم المفاوضات الجارية. فقد سبق وحصلت اسرائيل على الحد الاقصى من افضلية المعاملة حين قامت بتعريف اطار المفاوضات وتحديد ديناميكيتها مستغلة قوتها العسكرية في ظل فقدان توازن القوى في المنطقة، وهي التي تدعمها الولاياتالمتحدة بدون قيد او شرط. ولكن على رغم هذا كله، فإن استحقاقات العملية التفاوضية بحدها الادنى السياسي والاستراتيجي ما زالت تدقّ باب اسرائيل التي ترفض مواجهة مسؤولياتها لأنها، في ما يبدو، غير قادرة بعد على ان تسلّم اوراق اعتمادها في المنطقة كعضو مسالم فيها.