على رغم الأيادي البيضاء للنفط في السعودية، غير أن تذبذب اسعاره ساهم في تقلب مؤشرات المالية العامة والنمو الاقتصادي تقلباً مربكاً، ومع ظهور نتائج ايجابية عند اقفال السنة 2000، وهي أولى سنوات الخطة الخمسية السابعة، فإن هناك أكثر من دافع للتمعن في تجهيز الاقتصاد السعودي بآليات للحد من تأثير ايرادات النفط على قدرة الحكومة تمويل برنامج الرفاه، وتمكن الاقتصاد من تحقيق معدلات نمو تحقق التطلع الاستراتيجي للاقتصاد على مدى العقدين المقبلين. معدلات النمو حقق الاقتصاد السعودي في السنة 2000 نمواً حقيقياً أعلى من المتوقع وفي حدود 4.11 في المئة، بعد اعوام من أداء اقتصادي يراوح بين الانكماش والنمو الهامشي لبلد يتزايد سكانه بمعدل يتجاوز 3 في المئة، ويتزايد مواطنوه قرابة نصف مليون سنوياً. ومنذ أواخر الثمانينات تأرجح النمو تأرجحاً ملفتاً بين عام وآخر، وعلى سبيل المثال نما الاقتصاد السعودي بالأسعار الثابتة في عام 1987 بمعدل 5.5 في المئة، وما لبث أن انكمش 1.3 في المئة العام التالي، وعاود النمو 7.4 في المئة عام 1989، وتباطأ النمو إلى 0.2 في المئة عام 1990. وعلى رغم أن الاقتصاد شهد فترة توسع عامي 1991 و1992 غير أنه أخذ في التباطؤ ثانية عام 1993، وشهد انكماشاً عام 1994، ونمواً هامشياً في العام الذي تلاه قدره نحو 0.5 في المئة، وبعد عامين من النمو 1.9 في المئة و2.7 في المئة عاود التباطؤ عام 1998، ومزيداً منه 0.5 في المئة عام 1999، وبالنظر الى الاعوام الماضية يمكن الزعم أن أداء الاقتصاد كان ملفتاً في السنة 2000، فهو الأعلى منذ ثمانية اعوام ويكتسب تحقيق نسبة عالية أهمية خاصة كونه يحمل في ثناياه ما يقلل من مخاوف أن تنقضي سنوات الخطة الخمسية السابعة من دون تحقيق النمو المستهدف 3.16 في المئة سنوياً في المتوسط باعتبار أن متوسط معدل النمو في سنوات الخطة الخمسية السادسة 1995 - 2000 لم يتجاوز 1.1 في المئة، وهو أقل بكثير مما كان مستهدفاً نحو 3.8 في المئة، والأمر المطمئن كذلك أن مستوى النمو المحقق في السنة 2000 ينسجم مع تطلعات النمو الاستراتيجية، التي تسعى الى تحقيق معدل نمو سنوي متوسط 4.15 في المئة، ومع ذلك يبدو واضحاً أن التأثير المتقلب للنفط تجاوز مؤشرات الموازنة العامة الى الاقتصاد ككل، بما يبرز القول أن تلك التقلبات كانت أحد اسباب عدم تنفيذ الخطط التنموية الخمسية الرابعة والخامسة والسادسة كما كان مؤملاً. وبطبيعة الحال وبحكم التغيرات المتسارعة في العلاقات الاقتصادية بين الدول التي تميل الى الانفتاح والتحرر، وبحكم أن هيكلية الاقتصاد الدولي أخذت تشهد تطورات متسارعة ناتجة عن النمو الكبير في أنشطة الاقتصاد الجديد والمعرفي، فليس بامكان الاقتصاد السعودي المخاطرة بأن يتباطأ وينمو تبعاً لمعطيات سوق النفط. ان تحقيق التطلعات الاستراتيجية في نمو الاقتصاد بما يزيد على 4 في المئة سنوياً أمر يجب أن ينجز بغض النظر عن سلوك اسعار النفط، وهذا يعني ايجاد آلية لاستقرار الايرادات العامة، بحيث تمول الموازنة من دون أن يكون ذلك التمويل مشروطاً بما يتحقق فعلياً من ايرادات نفطية، ولا بأس في سبيل ذلك من ايجاد صندوق احتياط لاستقرار الايرادات، ولا بأس من الافتراض في حال قصور الموارد، لان تحقيق الحيوية الاقتصادية أمر غير قابل للأخذ والرد في عالم يشوبه التنافس، وهو ضروري كذلك لتمكين الاقتصاد المحلي من جذب استثمارات تتجاوز 134 مليون ريال 35.7 مليون دولار سنوياً خصوصاً أن أكثر من 70 في المئة يُنتظر أن يوفره القطاع الخاص. وعند مراجعة المؤشرات التي أعلنت رسمياً يمكن استخلاص أن الحكومة السعودية نجحت في ضبط الانفاق الى حد بعيد، ليس تحت ضغوط الندرة هذه المرة، بل بقصد الادخار لبناء احتياط من فوائض الايرادات العامة نفطية وغير نفطية، وان تحقيق الخزانة لفائض في سنة ما لا يعني فتح الحزام، فترفع الرواتب وتخفض الأسعار لتدخل الخزانة في نوبات من هبوط وصعود، وكأن حصيلة ايرادات النفط هي التي تقرر وتيرة الانفاق وليس التطلعات التنموية. ولا بد هنا من القول أن الانفاق الحكومي عموماً يتجاوز التقديرات عندما يتراجع النمو الاقتصادي عما هو متوقع. الانفاق العام ويبدو أن تواضع النمو الاقتصادي خلال التسعينات في حدود 1.5 في المئة في المتوسط سنوياً دفع لمزيد من الانفاق لحفز النمو، ولبيان هذه النقطة، فالزيادة في الانفاق الفعلي كانت ملحوظة خصوصاً في السنوات التي تلت حرب الخليج. وعلى سبيل المثال كان تجاوز الانفاق الفعلي لتقديرات الموازنة عام 1992 بنحو 29 في المئة وحققت فيها الموازنة عجزاً بنحو 67 بليون ريال 17.9 بليون دولار، وكان التجاوز عام 1993 ضئيلاً نسبياً 5 في المئة لكن العجز تلك السنة بلغ نحو 64 بليون ريال 17 بليون دولار وكذلك عام 1994 حيث كان التجاوز في حدود 3 في المئة، لكن العجز بلغ حدود 35 بليون ريال 9.3 بليون دولار. أما في الأعوام 95 و 96 و 97 فقد كانت الزيادة في الانفاق 16 في المئة و32 في المئة و22 في المئة وبعجز فعلي قدره 28 بليون ريال و19 بليوناً و16 بليوناً على التوالي، أما عام 1998 وهو عام انهيار اسعار النفط لمستويات غير مسبوقة، فقد شهد تراجع الانفاق الفعلي بنحو ثلاثة في المئة عما كان مقدراً في الموازنة. وعلى رغم ذلك اختتمت تلك السنة بعجز قُدر بنحو 49 بليون ريال 13 بليون دولار، وعام 1999 تجاوز الانفاق الفعلي الانفاق المقدر بنحو 12 في المئة لتحقق الموازنة ذلك العام عجزاً يفوق 36 بليون ريال 9.7 بليون دولار. وفي السنة 2000 كانت الزيادة في الانفاق أقل من 10 في المئة عما كان مقدراً على رغم تحقيق فائض وبلغت الايرادات العامة المحققة في السنة 2000 طبقاً للمصادر الرسمية السعودية 248 بليون ريال 66.1 بليون دولار، في حين وصل الانفاق الى 203 بلايين ريال 54.1 بليون دولار، ما يعني أن الانفاق الفعلي تجاوز المتوقع بنحو 4.8 بليون دولار. والنقطة التي تستحق التعليق أن المالية العامة تعاملت مع سنوات متواصلة من عجز الموازنة منذ عام 1983 بالاقتراض وكان سؤالاً مطروحاً كيف ستدير الفائض الذي تتجاذبه احتياجات متنوعة، فالأمر سنة 2001 غير قابل للمقارنة بأوضاع المالية العامة السعودية قبل عقدين من الزمن، عندما لم يكن بالإمكان انفاق الايرادات المتحققة، فمثلاً حققت الموازنة عام 1980 فائضاً تجاوز 111 بليون ريال 33.4 بليون دولار تبعه عام 1981 فائض تجاوز 83 بليون ريال 24.5 بليون دولار. ولا يمكن الركون فقط لما يحققه الاقتصاد من نمو وما تنفقه الحكومة خلال العام للتعرف على النواحي المهمة لاقتصاد يعتمد الى درجة كبيرة على صادراته من الموارد الخام لتمويل برنامج التنمية كما هي الحال في السعودية، حيث تُقدر قيمة الصادرات بأكثر من 40 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، وتمثل قيمة الصادرات السعودية نحو 0.7 في المئة من قيمة صادرات العالم، ففي مجال التعاملات الخارجية، نجد ان وضع الحساب الجاري متقلب تبعاً لقيمة الصادرات النفطية في الأساس. ويُلاحظ في هذا المجال ان الالتزام الخارجي الذي يعقب تمويل الواردات هو التحويلات الخاصة التي يُعزى معظمها لوافدين، وراوحت بين 14 و18 بليون دولار منذ عام 1993. ويُعتبر المستوى المريح للحساب الجاري في حدود 3 في المئة من اجمالي الناتج المحلي وتحقق هذا الحد في السنة 2000 حيث حقق الحساب الجاري فائضاً يقارب 9 في المئة من الناتج. واجمالاً، يعني فائض الحساب الجاري امتلاك أصول أجنبية، وعلى النقيض يعني العجز في الحساب الجاري ديوناً خارجية. وانطلاقاً من هذا الفهم يُلاحظ أن الحساب الجاري في ميزان المدفوعات السعودي، واستناداً الى البيانات الرسمية، تمتع بفائض معظم سنوات التسعينات، فيما عدا عجز مجمله نحو بليون دولار في عامين متتاليين هما 1996 و1997. السنة 2001 وعلى رغم عدم التثبت من امكانية تحقيق فائض قدره 45 بليون ريال 142 بليون دولار مستقبلاً، كما تحقق في السنة 2000، لكن يمكن القول إن هذا الفائض سيحد من نمو الدين العام حيث كانت تصدر في الاعوام السابقة سندات خزينة لتمويل العجز. وهناك تقارير تشير الى أن قيمة تلك السندات تجاوزت 320 بليون ريال في منتصف السنة 2000 وهي تمثل وخدمتها من دون شك عبئاً ثقيلاً ضمن التزامات المالية العامة. ومن جهة أخرى فإن توجهات الحكومة تبين أن فائض الايرادات العامة سيوظف لأمرين: خفض حجم الدين العام، وتعزيز الاحتياط الأجنبي للبلاد. وعلى رغم ايجابية تحقيق الخزانة العامة لفائض وتطلع البعض الى زيادة في الرواتب أو خفض في أسعار الخدمات، فمن غير المبرر المبالغة في اخراج حجم الانجاز عن الواقع الملموس، اذ تجدر الاشارة الى أن سداد الدين العام يتطلب تحقيق فائض مساو لما تحقق في السنة 2000 ولمدة تتجاوز 10 أعوام، فالدين العام يعادل من حيث القيمة اجمالي الناتج المحلي للبلاد، أي أنه يزيد على 600 بليون ريال 160 بليون دولار ولا يتطلب الأمر كثير عناء لحساب عدد السنوات اللازمة لسداد ذلك الدين، وهذا يقود لنتيجة أن ترشيد الانفاق العام وتنمية الايرادات، وتخلي الحكومة عن مؤسساتها الاقتصادية وعلى رأسها تلك التي تحقق خسائر بليونية كل عام أمر مستقر الأهمية، وأن الاعانة ودعم المواطن لا بد أن يكونا مباشرين ومقننين ليكونا من نصيب المستحقين فقط لمحاصرة الجهل والفقر والمرض بكفاءة رغبة في ايجاد مجتمع الرفاه المتكامل. وبالنظر لتقديرات الموازنة لسنة 2001 وهي موازنة متوازنة يتساوى فيها طرفا الايرادات والنفقات، وهذا أمر لم تقدم الحكومة على تقديره منذ أكثر من عقد ونصف العقد، فقد دأبت تقديرات الموازنة للفترة من 1987 وحتى السنة 2000 على تجاوز المصاريف التقديرية للايرادات التقديرية، ولعل من المناسب بيان أن عام 1985 شهد اصدار الحكومة لموازنة متوازنة صفرية العجز لكنها انتهت فعلياً بعجز تجاوز 50 بليون ريال 13.8 بليون دولار. وفي هذا السياق يبدو مناسباً اصدار موازنات متوازنة كذلك في السنوات المقبلة، بما يوفر التزامات التنمية مع اللجوء للاحتياط بالقدر الذي يغطي القصور في الايرادات المتوقعة، وتحقيق ذلك في المتناول من خلال أمرين: 1 - الحرص على بناء صندوق احتياط لاستقرار ايرادات الموازنة تودع فيه فوائض الايرادات ولا يُنفق منه الا لتغطية عجز الموازنة مع الالتزام بالانفاق في حدود الاعتمادات من دون تجاوز كما تنص التعليمات الحالية. 2 - تنمية الايرادات غير النفطية من خلال تطوير نظام ضريبي يحابي الانتاج، يرتكز على القيمة المضافة للسلع والخدمات، ولا بد من التنويه أن توجه من هذا النوع يرتكز الى مبرر أساس وهو استقرار برنامج التنمية من دون توقف، وبطبيعة الحال لن يحقق توجه من هذا النوع أهدافه دون الموازنة بين تقديم منظومة متكاملة من الخدمات للمواطن بما يكفل محاربة الفقر والجهل والمرض ليصبح هذا هو المجال الأول للانفاق، وبين فسح المجال للقطاع الخاص لممارسة دوره الاقتصادي كاملاً مقابل أن يعزز ايرادات الخزانة العامة، وممارسة القطاع الخاص لدوره لا تتحقق، بطبيعة الحال، من خلال الاحتكار والاستئثار والتقنين بل بممارسة دوره ضمن ضوابط السعودة والشفافية والمنافسة وتحمل مسؤوليته الاجتماعية. * اقتصادي متخصص في المعلوماتية والانتاج.