"ما بالك ما عدت تكتب شيئاً في الفترة الأخيرة؟". يا إلهي من أين جاءت فكرة التنقيب في هذه المسألة، كانت قطرات المطر تزور بيوتنا في واحدة من زياراتها السنوية النادرة موفرة لي متعة طفولية عميقة. "ليس هناك ما أكتب عنه" أجبت باقتضاب. لكن زوجتي العزيزة تأبى ترك الأموات في قبورهم لكي ترتاح. "أنت دائماً تجد ما تكتب عنه، أتذكر، كنت تأتيني بقصة كل يوم". يجب البحث عن أسباب أخرى. فعقلي المتمتع بكسل مراقبة قطرات المطر، أخذ ينتفض طارداً هدوءه. "أتعرفين، أنا لا أستطيع الكتابة، ولم أتقنها في يوم من قبل. نعم أنا لا أستطيع الكتابة، أنا فقط كنت أصوغ أحداث يومي على شكل قصص، وأدعي أني المؤلف العظيم". "لا تعطيني مبررات سخيفة، على الأقل أحترم ذكائي يا أخي". يا أخي، ولم لا؟ فأنا كأني أخوها الآن، لم أفهم يوماً انطفاء جذوة العشق والشوق، حتى مسألة التساؤل عن الموضوع نحيتها عن زوجتي، فما بالها تسألني عما لا أرغب أن أسأل عنه". "أتمنى أن أعرف أين تذهب في صمتك؟ أريد اجابة منطقية واحدة ومن ثم يمكنك العودة لهوايتك". وجدت أن موضوع أين أذهب مع صمتي أخطر من اعتزالي القلم فقررت التجاوب مع تساؤلاتها الأولى. "كما قلت أنا لا أستطيع الكتابة". "وروايتك الأولى". "كنت مخموراً عندما بدأتها". "عندما بدأتها، وكيف أنهيتها؟". "أنا لم أنتهِ منها، هي انتهت مني. كتبت نفسها بنفسها". "... ... والثانية؟". "يوم بدأتها أعطاني مسعود السعيد سيجارة ملفوفة، كانت سيجارة مختلفة". "أعتقد أنها كتبت، نسقت، ووزعت نفسها!". بدأت أرى تقطيب الجبين وأسمع الزفرات الحانقة فقررت أن أعلن هدنة. "أتعرفين أنا لم أفكر بالموضوع من قبل. أنا فقط لم أعد أكتب". "كنت أحب تلك القصص القصيرة التي كنت تلقيها نهاية الليل في شرفة منزلنا. سنة ونصف السنة لم أقرأ جريدة! كتاباً أو مطبوعة، فقط قصصك وقصاصاتك". "لقد تغير الزمان، العمر والمقدرات. عندما كنت ألهث آخر الليل لأقذف قصاصاتي كنت أمتلك قميصاً واحداً أرتديه صباحاً ومساء، كان ملطخاً ببقع الحبر حتى ان لونه الأبيض أصبح رمادياً. الآن أملك عشرات القمصان وأخاف أن ألطخ أياً منها بالحبر". "بسيطة، نجعل أحد القمصان للكتابة ولطخه كما يحلو لك". بسيطة، هكذا يا زوجتي العزيزة، هل فعلاً تعتقدين ان الموضوع بهذه البساطة. "كنت أمتلك قلم حبر واحداً وقديماً، ريشته معوجة من كثرة الاستعمال وتُهرب الحبر باستمرار، الآن أقلامي جديدة، متقنة. مع أني أستخدم الكمبيوتر معظم الوقت، وهذا حتى أنظف من الأقلام الجديدة. كيف أكتب شيئاً لا يختلط حبره بجلدي، ويتسلل إلى دمائي. أخوّة في الدم يجب أن تنشأ بيني وبين كلماتي". "لا أستطيع أن أصدق ما تقول، ما هذا؟ حبر وأخوة وقذارة ودم. بسم الله عليك حبيبي أيش بقلاك؟". "أنا بخير. أتعرفين مشكلتي في الأساس. أنا لم أعد أستطيع فصل ذاتي عن كتاباتي، عن شخصياتي". "لا تفصلها، ليس هناك أجمل من الكتابة الصادرة عن الواقع من خبايا النفس". "أنت لم تفهميني بعد. عندما لا أفصل فإني أبقى مقيداً بالواقع، أقبع حبيس قيود البشر وقوانينهم. أخنق الحلم وأواريه التراب ثم أجلس على قبره أعدد محاسنه. كيف تريدينني أن أخنق الحلم بكتابته؟" أنا لا أريد أن أقتل القتيل وأمشي في جنازته. عدت أراقب آخر قطرتين تنزلقان على زجاج الشرفة. كنت أتمتم بأمنيتي ألاّ أسمع عن هذا الموضوع قبل زيارة المطر المقبلة. سليم خشان - الرياض