قال: حينما فتحت لي زوجتي الباب.. دخلت وخلعت ملابسي ثم غسلت يدي.. وارتميت على السرير.. قالت زوجتي ما بك..؟ فأجبتها بنظرة غامضة، لم تفهمها.. وأنا إلى الآن لم أفهم لماذا نظرت إليها تلك النظرة.. خرجت وأغلقت الباب خلفها وبعد فترة فتحت الباب وألقت عليّ نظرة.. لم أكن نائماً وإنما افتعلت النوم. خرجت ثم عادت، وفعلت ذلك أكثر من مرة.. جلست على حافة السرير وأرادت أن توقظني ولكنها ترددت، كنت أحس بكل حركة بل كنت أحس بنبض قلبها فقد كانت وجلة وقلقة.. أزحتُ الفراش ونهضت نصف نهضة وقالت: ما بك؟ قلت لا شيء!! استنكرت الإجابة فقد تعودت أن تسمع ثرثرتي وشكواي، عندما أكون متعباً، أو مهموماً، أو قلقاً.. ولكنها استرابت من إجابتي... عدت مرة أخرى ووضعت رأسي على الوسادة ثم صرت أتقلب.. ثم نهضت وطلبت إليها أن تخرج من الغرفة ولكنها رفضت وأصرت إصراراً عنيداً على معرفة سبب قلقي وحيرتي واضطرابي.. لأول مرة تمر بها حالة العناد والغموض التي أواجهها بها، قلت لها: اسمعي.. اخرجي الآن واغلقي الباب وسوف أتحدث معك عندما أنهض... وحينما قمت، تحدثت إليها قائلاً: كان الاجتماع مملاً وثقيلاً ولئيماً، وحقيراً.. إنهم يستخفون بمشاعرنا عندما نكتب أو عندما نعبر عن آلامنا.. بل انهم يرون عدم الكتابة مطلقاً حول الموضوع.. وهذا صعب بل هذا مستحيل.. هذا يعني خنقنا وسجننا وذبحنا ببطء.. إنهم يقمعوننا قمعاً رهيباً وساماً ويمارسون علينا كل أنواع التعسف والظلم.. كيف يريدون أن نسمع هذا الهراء، وأن نرى هذا الفتك، والعار، والمهانة، واستباحة الدماء والأرض والأعراض، باسم الحرية، وغرس الديمقراطية.. ونبلع هذه العجرفة وهذه السموم والمرارات وأن نكظم وجعنا وحيرتنا وأن نبلع ألسنتنا، ونكسر أقلامنا ونجفف حبرنا ولا نقول شيئاً. ها هم يدكون الأرض دكاً ويحرقونها حرقاً ويبعثرون رؤوس الأطفال وأشلاءهم على الجدران والطرقات.. ويطلب منا أن نصدق بأن الحرية والديمقراطية لا تتحقق إلا عندما يدخل الرصاص في عيون الأطفال وقلوبهم.. لعنة الله على الحرية والديمقراطية إذاً.... وصمت صمتاً عشوائياً، وفكرت تفكيراً عشوائياً، وأردت أن أفعل شيئاً فلم أستطع. ضغطت بقوة على حاجبي وجمجمة رأسي وشعرت أن عقلي سجين وأن قلبي ضيق وأن صدري صار فرناً لصهر الرصاص.. قالت زوجتي: هذه الحياة صارت عفنة.. ولكن عليك أن تفكر في نفسك، وأطفالك.. وبالمناسبة فإنه لا خبز لدينا اليوم ولا غاز.. كتمت صيحة في صدري فأحسستها تدوي داخل عظامي.. وقلت أنت تموتينني بموت آخر. قالت: الموت أهون.. العذاب القادم هو موت طويل. قلت: وما العمل.. قالت: الصمت.. قلت: هل تظنين أن الصمت سبيل إلى النجاة. قالت: لا.. ولكنه سبيل إلى الانتظار.. وشعرت بالصداع يقرع رأسي وبكآبة تجثم على بصري.. وسواد يلف الدنيا.. قلت: لقد أدخلونا السجن من اليوم.. إذا منعت من الكتابة فأنا في قلب المعتقل المظلم.. قالت: اكتب.. اكتب.. حتى ولو لم تنشر.. قلت: هذا استسلام وإعلان العجز. قالت: هو ذاك.. بدأت أكتب وصارت الحروف تتقافز وتتطاير من فوق الورق أحسستها كالصراصير المعلبة.. مزقت كل ما كتبته.. دست عليه برجلي.. وبصقت عليه، وأحسست أن ما أكتبه كان عذاباً آخر وانتقاماً آخر. ذهبت إلى زملائي في الجريدة وصحت في وجوههم وقلت ماذا تفعلون هنا أيها العجائز، ماذا ستفعلون بعد اليوم..؟ كيف ستتنفسون..؟ كيف ستأكلون وتشربون وقد قطعت أناملكم.. فلقتموها صامتين.. حدقت في وجوههم، وحدقوا في وجهي. صحت فيهم مالكم صامتون أيها العجائز، يا جثث الموتى، ويا ساكني القبور.. تلفتوا إلى بعض وقالوا بصوت واحد: مسكين.. ثم أردف واحد منهم: الله يشفيه. عدت إلى منزلي وكنت أسمع وأنا في الشارع من شاشات التلفزيون في المقاهي والمطاعم دوي القنابل وأصوات الطائرات والصواريخ وهي تفجر المدن وأشاهد الدخان والحرائق.. وحين فتحت زوجتي الباب.. كان وجهها غارقاً في الدموع.