كانت بلغراد حتى مطلع القرن التاسع عشر تسمى "بوابة الشرق" وتعتبر احد مراكز الثقافة الشرقية في البلقان، ولكن بعد ان تحولت الى عاصمة لصربيا الجديدة التي دشنت فيها التطهير الثقافي اخذ هذا الدور يتحول الى ساراييفو التي اصبحت من اهم مراكز الثقافة الشرقية في المنطقة. وهكذا بعد ان انتشرت هناك دراسة اللغات الشرقية الكلاسيكية العربية والتركية والفارسية إضافة الى اللغة البشناقية التي تشرقت سواء بسبب استخدام الحروف العربية في كتابتها او بسبب امتصاصها للكثير من المفردات الشرقية، برزت اجيال عدة من الكتّاب البشناق الذين ابدعوا في هذه اللغات مؤلفات كثيرة في مختلف المجالات علوم الدين واللغة والأدب والتاريخ والفسلفة الخ.... ومع ضم البوسنة الى الدولة الجديدة يوغوسلافيا التي تأسست في 1918 برز في عاصمة الدولة بلغراد اهتمام جديد بالاستشراق وأنشيء هناك أول قسم لدراسة اللغات والآداب الشرقية في 1924. وبينما كان الاستشراق في اوروبا الغربية يمثل نزعة مركزية للسيطرة على الآخرين فقد كان في يوغوسلافيا الجديدة يهدف الى دراسة الذات ايضاً التراث الشرقي للمسلمين في يوغوسلافيا وليس الآخر فقط. وفي هذا الاطار كان من الطبيعي ان يؤسس في ساراييفو بالذات في 1950 اول معهد للاستشراق في يوغوسلافيا، الذي انهمك اساساً في التعريف بالتراث الشرقي للذات البوسنة بعد ان اصبح هذا التراث سواء المكتوب في العربية والتركية والفارسية او في البوسنة بحروف عربية خارج اطار التواصل للأجيال الجديدة التي ولدت ونشأت في العهد اليوغوسلافي. وفي هذا الاطار سعى المعهد الى القيام بأهم انجاز يسجل له الا وهو جمع وحفظ وتصنيف المخطوطات والمؤلفات التي كانت تمثل هذا التراث الشرقي للبوسنة. وقد جاءت بالموازاة مع ذلك المجلة التي اصبحت معروفة "اسهامات في الفيلولوجيا الشرقية" والكتب العديدة التي اصدرها المعهد لتزيد من الاهتمام بالتراث الشرقي للبوسنة الذي اصبح يعتبر احد مكونات الخصوصية البشناقية. وربما لأجل ذلك كانت مأساة الحرب في البوسنة 1992-1995 تشمل في ما تشمله ثقافة الآخر، وبالتحديد التخلص من ثقافة الآخر التي تذكر به. ومن هنا فقد كان القصف الصربي المتعمد لمعهد الاستشراق في ساراييفو خلال 17-18 ايار مايو 1992، وتدمير مكتبة المعهد التي كانت تضم 5263 مخطوطة في اللغات الشرقية، احد جوانب المأساة لما يمكن ان يسمى "التطهير الثقافي" الذي كان يشمل تدمير المكتبات والمنشآت التاريخية جوامع، مدارس، حمامات الخ. وعلى رغم الخسارة المأساة التي حلت بالمعهد، الذي لم يتوقف العاملون عن العمل فيه حتى في اصعب الظروف، الا ان روح العمل والتحدي دفعت به بسرعة الى تعويض ما فات في السنوات السابقة. وهكذا تبدو فترة 1995-2000 من اخصب السنوات التي قام فيها المعهد باصدار مجلته المعروفة وسلسلة من الدراسات والترجمات التي تعبر عن هذه الروح الجديدة. وفي هذا الاطار لا بد من ذكر اهم الكتب التي صدرت خلال هذه السنوات ك"الأدب النثري للبوسنة والهرسك في اللغات الشرقية" 1995 لسليمان غروزدانتيش وأمير لوبوفيتش و"مؤلفات البشانقة في المنطق في اللغة العربية 1995 للوبوفيتش و"تركة باش اغيتش" 1998 للوبوفيتش و"ألف ليلة وليلة" لأسعد دوراكوفيتش، وغيرها. ويلاحظ انه مع هذه الموجة الجديدة للاهتمام بالتراث الشرقي سارع بعض دور النشر الى طرح ترجمات وطبعات جديدة من الآداب الشرقية. وهكذا فقد طرحت دار "ليليان للنشر" في صيف هذا العام 2000 مجموعة من الاصدارات الجذابة بأغلفتها التي اشتملت على ملحمة "رستم وسهراب" للفردوسي من ترجمة فهيم بايراكتاروفيتش و"مثنويات" جلال الدين الرومي من ترجمة فيض الله حاجي بايرتيش و"رباعيات" عمر الخيام من ترجمة صفوت بك باش اغيتش، ومختارات من جبران خليل جبران من ترجمة اسعد دوراكوفيتش و"أيام" طه حسين من ترجمة نياز دزداريفيتش. عمّان - محمد م. الأرناؤوط